31/10/2010 - 11:02

القومية العربية والليبرالية والتنوع الثقافي../ عوني فرسخ

القومية العربية والليبرالية والتنوع الثقافي../ عوني فرسخ
تعقيباً على مؤتمر المعرفة، الذي عقدته مؤسسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في دبي الشهر الماضي، كتب د. رغيد الصلح داعياً لوقفات مع ثلاث ملاحظات: اعتبار الليبرالية الحاضن الفكري والسياسي للتنوع الثقافي، والقول إن هناك خلافاً محكماً بين الليبرالية والقومية حول التنوع الثقافي، والادعاء بأن القومية العربية تتحمل المسؤولية الكبرى، إن لم تكن الوحيدة، في انتشار النظرة السلبية للتنوع الثقافي في المنطقة العربية. وكل من الملاحظات الثلاث ذات صلة بالقومية العربية، وممارسات الأنظمة رافعة الشعارات القومية، الأمر الذي يستدعي الوقوف معها في محاولة الاجتهاد في بيان توافقها أو تعارضها مع حقائق ومعطيات الواقع العربي.

وبداية ألاحظ أنه لا يمكن التسليم بصحة اعتبار الليبرالية الحاضن الفكري والسياسي للتنوع الثقافي على نحو مطلق، بدليل أنها لم تحل دون معاداة أغلبية الأوروبيين والأمريكيين والكنديين والأستراليين لقيم وأنماط سلوك وثقافات مواطنيهم ذوي الأصول غير الأوروبية، وخاصة العرب والمسلمين منهم. فضلاً عن المواقف التاريخية المعادية للفكر والعمل القومي العربي، وتلك المجافية الموضوعية في التعاطي مع الإسلام وقيمه وتعاليمه، المتسببة في إشاعة ما بات يعرف بـ“الإسلامفوبية” على جانبي الأطلسي.

وكذلك هو الأمر بالنسبة للادعاء بأن هناك خلافاً محكماً بين الليبرالية والقومية حول التنوع الثقافي، وأن القومية تنبذ التعدد وتعتبره يضعف الأمة والوطن تجاه الآخرين. فذلك إن كان يصدق بالنسبة لكثير من الدعوات القومية، إلا أنه غير صحيح بالنسبة لها جميعاً، وهو باليقين ادعاء غير علمي ولا تاريخي بالنسبة للقومية العربية المعبّرة عن الطموح العربي للتحرر والوحدة والتقدم الاجتماعي، لظروف وطبيعة تشكل الأمة العربية وتبلور ثقافتها القومية. وهذا ما توضحه وقفة موجزة مع عوامل تشكّل الأمة العربية ومصادر تبلور الثقافة العربية.

فالفتح العربي الإسلامي، منتصف القرن السابع الميلادي، كان تحريراً للهلال الخصيب ووادي النيل والشمال الإفريقي من الاحتلال الفارسي والبيزنطي والروماني. ولم يقترف الفاتحون جريمة التطهير العرقي لشعوبها، كما فعل المستعمرون الأوروبيون في أمريكا الشمالية وأستراليا بعد تسعة قرون. فالفاتحون العرب المسلمون تعاملوا مع الشعوب التي دانت لسلطانهم وفق موروثهم الحضاري وتعاليم الإسلام الداعي بأنه “لا إكراه في الدين”، وبموجب اجتهاد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب باعتبار أهالي البلاد المفتوحة، صلحاً أو عنوة، أحراراً وأهل ذمة، لا تمس أملاكهم الخاصة، ولا يحجر على ممارساتهم الدينية، أو مساهمتهم في سائر الأنشطة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وللمستشرق توماس أرنولد وأمثاله شهادات موضوعية ومنصفة لتميز الفاتحين العرب المسلمين في تعاملهم مع أهالي البلاد التي فتحوها.

ولأن العرب تجمعهم قرابة سلالية ولغوية بشعوب الهلال الخصيب ووادي النيل والشمال الإفريقي أدت تفاعلاتهم الواسعة والعميقة معها إلى اندماج غالبيتها في تركيب بشري عربي اللغة والثقافة وأنماط السلوك، ليشكلوا أمة عربية ذات طبيعة تركيبية تضم التنوع في إطار الوحدة، وليس من شعب له وجوده التاريخي والطبيعي في الوطن العربي إلا وشارك في عملية التبلور القومي العربي. وبالتبعية ليس من أقلية إثنية في أي قطر عربي إلا وتتصل بالأكثرية العربية في قطرها بصلة قرابة. وهذا ما يندر مثاله في علاقات الأقلية بالأكثرية في غالبية دول العالم.

وكان من نتائج ندرة المياه في شبه جزيرة العرب وغلبة الصحراء عليها امتهان العرب للتجارة كمصدر أساسي للرزق. وبالتالي تسببت صلاتهم الواسعة بجوارهم الجغرافي، وما بعده، في تميز الثقافة العربية بافتقادها المشاعر العنصرية. كما يتجلى ذلك باعتبار عنترة العبسي أسود البشرة وابن الأمة مثال الفروسية والشجاعة، وحاتم الطائي المسيحي النسطوري مثال الكرم، والسموأل اليهودي المعتقد مثال الوفاء. ولقد جاء الإسلام يغني التراث العربي بتأكيده على أن الناس كلهم لآدم، وباعتباره تعدد ألوانهم واختلاف ألسنتهم وتباين شرائعهم من سنن الله في خلقه، وباشتراطه قيام الدعوة الدينية على الحكمة والموعظة الحسنة، وبأمر رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) بطلب العلم ولو في الصين، واعتباره الحكمة ضالة المؤمن.

وخلال القرون الهجرية الأولى كان الوطن العربي قبلة المبدعين من جواره، وبخاصة وسط آسيا، كما توفرت أوسع الفرص للمبدعين على اختلاف أصولهم وأديانهم ومذاهبهم، بحيث استوعبت الثقافة العربية الإسلامية موروثات الشعوب التي أبدعت أولى الحضارات على ضفاف النيل ودجلة والفرات، وما ترجم من تراث اليونان وفارس والهند، وما نقله الوافدون من أواسط آسيا وأعماق إفريقيا وبعض أطراف أوروبا، الأمر الذي ميز الثقافة العربية الإسلامية ليس بالثراء فقط وإنما أيضاً بانفتاحها غير المحدود على مختلف الثقافات.

أما الادعاء بأن القومية العربية تتحمل المسؤولية الكبرى، إن لم تكن الوحيدة، في انتشار النظرة السلبية للتنوع الثقافي في المنطقة العربية، فادعاء تدحضه حقائق التاريخ ومعطيات الواقع. إذ ليس هناك ما يمنع المواطنين والوافدين، المتميزين سلالياً أو دينياً أو مذهبياً، من تسمية أبنائهم بالأسماء التي يريدونها، أو ارتداء أزيائهم التقليدية، أو إظهار وتنمية آدابهم وفنونهم، أو أن تكون لهم مدارسهم ونواديهم الخاصة، فيما تتجاوز مساهمة معظم هذه “الأقليات” في سائر الأنشطة الاقتصادية والثقافية نسبتها العددية بين المواطنين، فضلاً عن كون الدعوة القومية العربية إنما برزت في مواجهة قوى التسلط التركي والاستعمار الأوروبي، ولم تكن دعوة قوى بورجوازية باحثة عن مجال حيوي، كما كانت عليه حال الدعوات القومية الأوروبية. ثم إنه لمنتسبي الجماعات الاجتماعية المميزة بخصائص ذاتية، والمعتبرة “أقليات” إسهام تاريخي في الفكر والعمل القومي العربي.

والذين يحتجون بتجاوزات الأنظمة قومية الشعارات في تبرير ادعائهم بمسؤولية القومية العربية عن انتشار النظرة السلبية للتعدد الثقافي يتجاهلون الظروف التي وقعت فيها تجاوزاتها، ويتناسون أنه لا يحكم على المبادىء في ضوء ممارسات معتنقيها، وإنما يحكم على ممارسات الأفراد والجماعات بمدى توافقها أو تعارضها مع ما يرفعونه من شعارات، فضلاً عن أن المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن تلك النظرة السلبية إنما تقع على الذين سعوا، ولا يزالون، إلى استغلال امتلاك الأمة العربية التعدد ضمن إطار الوحدة باستثارة المشاعر الأقلوية وتوظيفها سياسياً في تفكيك البنى الاجتماعية لأكثر من قطر عربي، كما جرى ويجري في العراق المحتل، بهدف إقامة “الشرق الأوسط الكبير” من كانتونات عرقية وطائفية على أنقاض النظام الإقليمي العربي.
"الخليج"

التعليقات