31/10/2010 - 11:02

القومية لغة "إنما العربية اللسان"..(3/4)د.محمد جابر الأنصاري*

القومية لغة
كانت فترة خضوع العرب لغيرهم في عصور الإسلام المتأخرة من أدق فترات الاختبارات لمدى قدرة العروبة على البقاء. لكنها نجحت في الاختبار وبقيت جذوة تحت الرماد. وكانت اللغة العربية بتراثها الفصيح، وكذلك بما تفرع منها من محكيات عربية تميزت فيما بينها حسب ظروف العزلة لكل مجتمع عربي، من المؤشرات المرئية لهذا الوجود العربي في التاريخ وفي الواقع.

وإذا كان القرآن الكريم قد حفظ العربية في وجه الهجمة المهيمنة باسم الدين، فإن الكنائس العربية من جانب آخر، قد اتخذت قرارها التاريخي في لحظة حاسمة أن تكون صلواتها باللغة العربية الأم لأبنائها من العرب المسيحيين، متحررة بذلك من اللغات التوراتية التي فُرضت عليها لقرون باسم الدين أيضاً، هكذا جاءت النهضة العربية الحديثة نهضة لغوية قبل كل شيء جمعت تحت ظلالها كل ناطق بالضاد بلا تمييز. وفي هذا التأسيس اللغوي للعروبة، بما يخلق من ثقافة ووجدان ونظرة إلى العالم والأشياء، تجاوز للأصول القبلية والإثنية التي ارتبط بها العرب، تفاخراً، في عصورهم الأولى. وفي المأثور المنسوب للنبي العربي الكريم: “أيها الناس: إن الرب واحد والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أم وأب، إنما العربية اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي”، وسواء صح هذا المأثور كحديث نبوي مثبت أو قول تراثي متداول، فإنه يمثل المفهوم الذي اعتمده العرب لعروبتهم منذ مرحلة التكوين، وهو مفهوم يتفق إلى حد كبير مع الفهم العصري لدور اللغة في تكوين القومية، الذي نعتقد أنه ما زال التفسير الأصح للظاهرة القومية كما أوضحه منذ البدء ساطع الحصري، وإن حاول بعض الباحثين عن التقليعات الفكرية المستجدة الإتيان بغير ذلك، كأن يقال ان الانجليزية، مثلاً، تتحدث بها أمريكا وكندا واستراليا ونيوزيلندا، دون أن تمثل وحدة مع بريطانيا، وفي مثل هذا القول تجاوز لحقيقة الثقافة المشتركة والوجدان المتقارب للعالم الأنجلو سكسوني وتكتله السياسي، الذي يستند أساساً إلى اللغة الانجليزية وتراثها المشترك والتاريخ المشترك للناطقين بها، وإن تباعدت بهم الجغرافيا من كندا إلى نيوزيلندا، وذلك ما لا تعاني منه المنطقة العربية في تقاربها المكاني رغم فراغاتها الصحراوية التي يمكن التغلب عليها بوسائل الاتصال التقني في العصر الحديث، إضافة إلى امكانات التكامل الاقتصادي فيما بينها (هذا مع الاعتراف للمغرب العربي بعلاقاته الأوروبية والخليج العربي بمصالحه الآسيوية.. الخ).

تؤسس اللغة الواحدة لثقافة ووجدان.. وعلى أساس انتشارها يتحدد الوجود البشري لأمة من الأمم. وكما قلنا، ونكرر، إن هذا الوجود هو لغة وثقافة قبل أن يكون سياسة أو أيديولوجيا سياسية أو شعارات وحدوية. كان طه حسين من معارضي العروبة السياسية ومعارضاته لساطع الحصري في هذا الشأن معروفة، لكن دفاعه عن اللغة الفصحى وتمسكه بها وبتراثها من العوامل التي مهدت الأرضية للعروبة الناصرية بعد مرحلة. وما كان ممكناً للعروبة السياسية، والقيادة الناصرية وحدها، أن تحدث هذا الأثر “العروبي” العميق، لو لم تنشأ الأجيال العربية على العروبة الثقافية غير المسيسة لطه حسين ومبدعي جيله المصريين مثل توفيق الحكيم وأحمد أمين واللبنانيين مثل جبران ونعيمة.

وما زال “آخر العمالقة” الروائي العربي العالمي نجيب محفوظ يصر على كتابة الحوار في أعماله الروائية بالفصحى رغم تعارف الروائيين العرب قبله وبعده على كتابة حوارات قصصهم بالعامية من أجل الاقتراب من الأجواء الشعبية. لكن هذا الفنان الكبير استطاع أن يقنعنا بقدرة الفصحى على التعبير الفني الحي. وعلى ما في رواية “زقاق المدق” مثلاً من شخصيات شعبية مصرية صميمة فإنه أنطقها بالعربية الفصحى باعتبارها اللغة الأقدر فينا على التوصيل والتواصل.

إن نجيب محفوظ ليس من دعاة العروبة السياسية وله أيضاً مع هؤلاء الدعاة شؤون وشجون لكنه بموقفه “الفتي” هذا، وكطه حسين وجيله، يؤسس للأجيال الحاضرة والمقبلة على امتداد الأرض العربية لعروبة “مثقفة” أقدر على الثبات والتجذر.

ورغم أن المفكر المتميز زكي نجيب محمود قد عاصر العروبة السياسية إلا أنه في نهاية مسيرته الفكرية رأى في خلاصة التجربة القومية العربية وفي أحلك ساعاتها (عام 1979) أن “العروبة ثقافة لا سياسة” مؤكداً: “إن اللغة العربية هي أولى خصائص العروبة، ونقصد بذلك ما هو أعمق من مجرد عملية التفاهم بلغة معينة، وهو أن خصائص اللغة تكون هي نفسها خصائص أصحابها، ومعنى ذلك أن أبناء العروبة على امتداد الوطن العربي الكبير قد جاءوا في طرائق النظر على غرار ما تتميز به لغتهم من صفات” وبناء على هذه الرؤية اللغوية الثقافية يخلص زكي نجيب محمود إلى القول: “ليست عروبة العربي قراراً سياسياً تصدره مؤتمرات.. بل هي مركب ثقافي يعيشه في حياته اليومية لا يستطيع العربي نفسه أن ينسلخ عنه إذا أراد (لأنها) خصائص توشك أن تبلغ منه ما يبلغه لون الجلد والعينين..” مقالته في “الأهرام” بتاريخ 28 سبتمبر/أيلول 1979. وقد أحسن د. أحمد يوسف القرعي صنعاً عندما أعاد مؤخراً في “الأهرام” التذكير بهذه المقالة الفكرية التي تعيد تأكيد الثوابت الثقافية التي بدأت بها العروبة.

وعندما نقول “العربية” فلا نعني أن لغات الأقليات في المنطقة يجب أن تُحارب وتمسح وعلينا أن نتذكر، تاريخياً، أن الفارسية الحديثة ظهرت بعد دخول العرب والإسلام إلى فارس بثلاثة قرون. فلم يحاربها خليفة عربي أو عالم عربي. وكان الطبيب والفيلسوف ابن سينا يكتب طبه في النهار بالعربية ويكتب شعره في الليل بالفارسية في تآلف حضاري كان من أبرز سمات الحضارة العربية الاسلامية.

غير أن الاعتراف بلغات الأقليات يجب ألا يعني إلغاء العربية بل أن تأخذ كل لغة حجمها الطبيعي ومساحتها الطبيعية. فإنصاف الأقليات (غير العربية) يجب ألا يتحول إلى اضطهاد للغالبية العربية، وإلا أعددنا المنطقة لحرب أهلية جديدة تضطر فيها الغالبية للدفاع عن وجودها، وليس من حق أحد أن يستنكر عليها هذا الحق الطبيعي المشروع، إذا أجبرها الآخرون على ذلك.

وليس خافياً أننا عندما نقول العربية، فإنما نعني جميع الناطقين بها كلغة أم من مسلمين ومسيحيين وغيرهم من ديانات ومعتقدات أخرى. والعربية هي التي توحد اليوم عرب العراق شيعة وسنة وتوحد غيرهم من العرب في كل الأقطار العربية. واللافت أن رئيس العراق اليوم ليست العربية لغته الأم، لكن لو لم يحسن العربية في مخاطبة مواطنيه العراقيين العرب هل كان ممكناً أن يصبح رئيسهم؟

ولا بد من التنبه، معرفياً وعلمياً، أن لغات الأقليات في المنطقة العربية لها تراثها وأدبها الفولكلوري، ولكن يصعب اعتبار أي منها لغة عالمة أو كما يقال بالفرنسية lanque savante (لغة المعرفة والثقافة العالية) كاللغة العربية ولذلك، فمع إفساح المسافة المشروعة لهذه اللغات في الحياة المشتركة لأهل المنطقة، فإن تلك اللغات ستبقى محتاجة إلى اللغة العربية في تغطية ذلك الجانب المعرفي والعلمي مع ما تحتاجه العربية ذاتها من تطوير. (يراجع المدخل القيم الذي كتبه د. سليمان العسكري رئيس تحرير مجلة “العربي” في عدد نوفمبر/تشرين الثاني 2005 بعنوان “العربية والأقليات اللغوية: محاولة لتحديد النطاق”).

وإذا كانت العربية الفصحى ستبقى لغة الكتابة والعلم أياً كانت المصاعب التي تواجهها اليوم فإن المحكيات العربية العامية التي يتصورها بعض المتحمسين للفصحى نقيضاً لها وما هي كذلك حيث الطفل العربي لا “يقابل” الفصحى إلا عندما يدخل المدرسة في السابعة من عمره في أقل تقدير، وما يساعده على استيعابها مخزونه من لهجته العامية ذات المفردات الفصيحة في كل العاميات العربية التي أخذت تتلاقى وتتلاقح، في هذه المرحلة، مكونة محكية عربية متقاربة ومشتركة بين مختلف العرب تقتبس من العاميات وتستمد من الفصحى الكثير من التعابير والمفردات بما يمكن أن يمثل سنداً لها وتجاوزاً لتعدد اللهجات على صعيد التخاطب القومي بين مشرق ومغرب، وبين شام وخليج وجزيرة. وهي ظاهرة جديدة تستحق الاهتمام من جانب الباحثين اللغويين المعاصرين في الميدان اللغوي الواقعي بعيداً عن المسلمات القديمة في علم اللغة، وتمثل هذه الظاهرة عملية “تقارب قومي” في مجال حيوي كاللغة لم يخطط له أحد، غير واقع التفاعل الجاري بين مختلف الشعوب العربية على صعد العمالة الوافدة والسياحة والتفاعل الإعلامي.. الخ.

كان أول من أشار إلى تكون هذا الجنين اللغوي الجديد حسبما أعلم الدكتور كمال بشر، عميد كلية العلوم بمصر (سابقاً) حيث أشار إلى امكانية التوصل إلى لغة تخاطب عربية موحدة تتولد من اللهجات العربية المختلفة، وتلتقي حول أسلوب مشترك، كما تولدت الفصحى في القديم من توحيد واندماج اللهجات العربية القديمة (يراجع مجلد الموسم الثقافي لكلية التربية القطرية لعام 1975).

بعد هذا الإرهاص المبكر بثلاث عقود، وجدت من الضروري أن أتابع تطور هذه الظاهرة بعد تناميها في دراسة موجزة بعنوان: “محكية عربية جديدة في لحظة الولادة” أشرت فيها إلى: “أن درجة التقارب بين اللهجات العربية اليوم أفضل بكثير من حالة التباعد الذي كان حاصلاً بينها قبل نصف قرن أو أكثر، وإن قصر اللغويون العرب في دراسة واقعنا اللغوي على حقيقته بل إننا نزعم أنه لا يوجد عربي متوسط التعليم اليوم أو حتى أمي متفاعل مع الحواريات العربية المشتركة الدارجة يستخدم (حصراً) لهجته المحلية القديمة، كما كان أجداده يفعلون قبل خمسين سنة”.

وعلى سبيل المثال الحي، فقد أشرت إلى رواية (العصفورية) للدكتور غازي القصيبي كأبرز شاهد مكتوب في حواراتها على هذه الولادة اللغوية لمن أراد المزيد من المتابعة (مجلة “العربي” عدد نوفمبر 2003).

والخلاصة أن العروبة بعد تجاوزها الأصول القبلية ومن خلال اللغة المتطورة كثقافة ووجدان حي ترسخت كوجود بشري لا يمكن اعتباره منتهياً بانتهاء فصل من كتاب السياسة العربية في مرحلة من المراحل.



* مفكر من البحرين
* المقالة ضمن دراسة جديدة للكاتب تنشرها فصلية (شؤون عربية) الصادرة عن الجامعة العربية

التعليقات