31/10/2010 - 11:02

"الليبراليون" العرب الجدد/ د. عبدالإله بلقزيز

-

استعادت الفكرة الليبرالية (السياسية) بعضاً من بريقها ومن شرعيتها في الربع الأخير من القرن العشرين. لكنها لم تأت هذه المرة محمولة في ركاب التيار الليبرالي، ولا هو كان يملك القاعدة الاجتماعية ولا النخبة الفكرية والسياسية القادرة على حملها وتنزيلها على معطيات الحراك الاجتماعي، وانما حملتها نخب منحدرة من أصول قومية ويسارية تراءت لها في غمار نقد تجربة الثورة أفكار الحرية والديمقراطية أسلحة فعالة في مواجهة حقبة الانكسار والتراجع، ومالت نحو أشكال من المصالحة الفكرية والنفسية مع بعض التراث الليبرالي بعد اذ كان موضوع نقد لاذع منها في سنوات الخمسينات والستينات.

ازدهرت، في الأثناء، المسألة الديمقراطية في التأليف العربي ومسألة حقوق الانسان في الممارسة والعمل الاجتماعي، وتزايدت أعداد الناشطين في هذا الحقل المدني. غير ان أحداثاً كبيرة شهدتها نهاية الثمانينات ومطالع التسعينات ستحدث انعطافاً سيئاً في مجرى التعبير عن الفكرة الليبرالية السياسية: انهار “المعسكر الاشتراكي” وانفرط الاتحاد السوفييتي، ووقع تدمير العراق في عدوان “عاصفة الصحراء”، وانطلق خطاب الليبرالية في الغرب يزغرد منتصراً في هذه المنازلة الكونية ضد قوى الاشتراكية والمراكز المعادية للسياسات الأمريكية، ثم سرعان ما وجد (ذلك الخطاب) من يتلقف مفرداته معيداً ترديدها: محتشماً في البداية، ثم متجرئا في الثانية، فعدوانياً في الأخير.

أطل الليبراليون الجدد في بلادنا العربية من وراء أطلال بقايا حقبة دمرها زلزال حرب الخليج الثانية. ارتجلوا أحقادهم الدفينة على الوطنية والقومية والاشتراكية، ودبجوا مقالات المديح في اقتصاد السوق، والعولمة، والنظام الدولي الجديد، ومبدأ حق التدخل بدعوى حماية حقوق الإنسان من الانتهاكات. ولم يتردد بعضهم في الذهاب بعيداً الى حد الدفاع عن الصلح وتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني مستغلاً ركوب بعض النخب العربية الحاكمة أوهام التسوية، بعد “مؤتمر مدريد” واتفاقي “أوسلو” و”وادي عربة”، وأوهام “الشراكة الاقليمية” في نظام “الشرق الأوسط” على نحو ما عبرت عن نفسها في “مؤتمرات التنمية” لدول “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.

لكن أسوأ ما انتهت إليه قوى الليبرالية الجديدة هو قبول مبدأ التعاون مع قوى الضغط الدولي، والتسويغ لشرعية التدخل الأجنبي لإسقاط أنظمة حاكمة بدعوى استبداديتها وعدم قدرة المعارضة أو الحركة الشعبية على تغييرها بقواها الذاتية. ولقد وجدت في سابقة التعاون لدى المعارضة العراقية سابقاً (الحاكمة اليوم في “المنطقة الخضراء” من بغداد) أنموذجاً تبني عليه دعواها وتبرر به “فوائد” هذا الخيار السياسي لاختصار طريق التغيير. وليس مهماً، عند قوى الليبرالية الجديدة هذه، إن كان الثمن المدفوع لقاء تغيير النظام بالقوة الخارجية هو احتلال الوطن وإسقاط الدولة والكيان كما حدث في العراق فهو بالنسبة إليها “ثمن بخس” إن قورن بعوائده: تمكينها من سلطة لم تكن تحلم بها لولا مطرقة الاحتلال. وما هم إن كانت في هذه السلطة محض نخبة عميلة، فلقد قطعت حبل العلاقة بأي مبدأ، ولا تجد حرجاً في تسميتها كذلك.

لا نعمم هذا الحكم على سائر الليبراليين الجدد. ثمة من حفظ شرف الفكرة الليبرالية وخلفيتها الوطنية، التي تأسست عليها منذ مطالع القرن العشرين، فحفظ شرفه بالتالي، وآثر ان يدافع عن مشروعه الليبرالي بشجاعة مصطفاً مع شعبه وقواه الديمقراطية الوطنية. نحن نتحدث بالتحديد عن زمرة أخرى من الليبرالجيين العرب لم ترث من تراث الليبرالية العربية إلا اسمها، ولم تعد تجد ما يشدها الى الوطنية أو العروبة من وشيجة سياسية أو ثقافية أو نفسية! والأدعى الى الاستغراب أن قسماً غير قليل من أقلام الليبرالجية وألسنتها كان حتى عهد قريب من فرسان اليسار الماركسي أو الماركسي اللينيني أو التروتسكي أو القومي، وكان مشتداً وعلى نحو متطرف على كل ما هو ليبرالي أو اميريالي أو صهيوني، ومغالياً في نقد الداعين الى الاصلاح والديمقراطية بوصفهم “خونة” لقضية الثورة.

يتعلق الأمر، إذن، بجيل ثالث من أجيال “الليبرالية” العربية: الجيل الذي نما وعيه وترعرع في مناخ الانكسار القومي والتراجع العربي، وصعود “الأصولية الإسلامية”، والزحف الاميريالي الجديد على أوطاننا، والاستنقاع الثقافي، والانهيار الدراماتيكي لمنظومة القيم السياسية الموروثة عن حقبة التحرر الوطني. ولقد حمل معه أسوأ ما خلفه ميراث تلك الحقبة من مظاهر السقوط، وهو اليوم يعيد إنتاجه وتسويقه في الثقافة والسياسة والرأي العام: مستفيداً من تواطؤ السلطة معه في مرحلة صعوده قبل ان تستفيق فجأة على ما ينطوي عليه مشروعه المرتبط بالأجنبي من مخاطر على وجودها هي نفسها.

إن الليبرالية العربية الجديدة المتعولمة، والمشدودة بخيوط النسب والولاء الى الليبرالية الجديدة في الغرب (ليبرالية المحافظين منذ ريغان وتاتشر حتى جورج بوش، ومنذ برنارد لويس حتى فوكوياما وفريدمان) هي الثمرة المرة لإخفاق صيغتين تاريخيتين من الليبرالية العربية في السياسة: ليبرالية ما بين الحربين، ثم “ليبرالية” النخب الحاكمة في حقبة ما بعد الثورة. أسقطت الأولى شرعية الفكرة الليبرالية أو على الأقل أهليتها لأن تصنع بديلاً سياسياً ومشروعاً مجتمعياً. أما الثانية، فزورت معنى الليبرالية وابتذلته في سياساتها حيال الاقتصاد والحقل السياسي. وها هي الليبرالية تخرج من بين شقوق شروخ وتصدعات جدار سابقتيها.. وما خفي أعظم.

التعليقات