31/10/2010 - 11:02

"اللّي أبوه القاضي لمين تشكيه"/ نبيل دَكْوَر*

-


إنّه فتى فلسطينيّ من غزّه، كان سِنّه لا يتجاوز السابعة عشرة عندما أعتقله الجيش الاسرائيلي. تَََولّيْت مُهِِمّة المرافعة والدّفاع عنهُ بعد أن كُلّفت بها بناءً على توجُّه إحدى المؤسسات الفلسطينيه التي تََعنى بشؤون الأسرى والمعتقلين وذلك بعد تقديم لائحة اتهام ضده أمام المحكمه المركزيه في بئرالسبع حيث نُسِبَت له عدّة إتهامات أهمها عضويّة ونشاط عسكري في صفوف أحدى التنظيمات الفلسطينيه المسلحة.

منذ الجلسة الاولى، أعلمتُ هيئة المحكمة عن توكيلي بدلاً عن المحامي الذي كانت قد عيّنته المحكمه في المراحل الاولى للقضية، وعليه التمسْتُ إرجاء المداولة إلى موعد آخر، توَجَّهَت إليّ المحامية المُوكّلة بالقضية من قِبَل النّيابة فقالت لي أنّ لديهم عرضا جاهزا لإنهاء القضية بصفقة وأنّها تنتظر ردنا في حال رغبنا بذلك أي الأعتراف بلائحة إتهام مُعدّلَة.

الحقيقة أن هذا النوع من الفَوْقيّة في التوجه والموقف لدى نيّابة الدولة بما يخص القضايا الأمنية ليس بجديد لأن من يتَحَكّم بالمصيرالقضائي لغالبيّة هذه القضايا إن لم يكن لمجملها هي السُلطة بكافّة اذرعها، وذلك منذ لحظة الأعتقال حتى الإدانة والنطق نهائيا بالحكم. فالأمر شبيه بعرض مسرحي من تأليف وسيناريو وحوار وإخراج السُلطات، وليس الفلسطيني المتهم ومن يقف للدفاع عنه إلاّ متفرجين أو "كومبارس" كما يقول المصريوّن، الأمر الذي يدركه جيدا حتى المتهمين أنفسهم إذ مازلت أذكر سؤال موكلي في المرة الأولى التي زرته بها داخل السجن: "أديش طالبين عليّ ؟؟". في الواقع لم يكن سؤاله مفاجئا على الرغم من كونه سابقا لأوانه وخلال لقائنا الأول، لا بل وبدون مبالغة أنه لسؤال دارج وتقليدي لدى الفلسطينيين المتهمين بقضايا أمنيّه.

كيف لا والقانون الأسرائيلي يُتيح لرجال الشرطة والمخابرات الاعتقال والتحقيق لمدة طويلة قد تصل لأسابيع ولأشهر دون السماح للمعتقل اللقاء بمحاميه، وأيضاً لتمديد الاعتقال المرّة تلو الأخرى استنادا إلى مواد سرية لا يحق الاستجواب بصددها. ضِفّْ إلى ذلك من أساليب تعذيب ومعاملة قاسية ولا أنسانية يمارسها مُحقّقو الشاباك، ويخضع لها المعتقلون مما يؤدي غالبا بالتوقيع على اعترافات يضع نصّها حرفيا مُحقّقو الشاباك، عدا عن طرق استخدام "العصافير" المتنوعة لابتزاز المعتقل والإيقاع به، وبالنهاية يأتونك بلائحة إتهام مفنّدة مدعومة بـ"أعتراف" وبمواد سريّة لا يمكن كشفها او فضحها إلاّ أمام القضاة، ولا يحق للمتهم الاطلاع عليها أو الطعن بمدى صحتها مهما كان. وعندما يطعن الدفاع بصحة الإعترافات قانونياً كمحاولة لأبطالها كونها أُتٍّخِذت بالأكراه وتحت الضغط، يأتونك بمئة لبوس ولبوس، فيقف مُحَقّقو المخابرات ليشهدوا أمام هيئة المحكمة على "نزاهة" التحقيق وأساليبه التي للأسف طالما صدّق القضاة هؤلاء المحققين أو على الأقل فضّلوا أقوالهم على إدعاءات المتهمين.

هنا ربما يُطرح السؤال القانوني التالي: وماذا في حال لم يستطع رجال المخابرات النيّل من إرادة المعتقل وكسره أثناء التحقيق، وبالتالي ليس هناك ما يكفي من مواد لتقديم لائحة إتهام أو للأدانة؟؟ إن هذه الأمكانية واردة ولكن السلطات قد تستخدم عندها قوانين وأنظمة تُمكنها من فرض الاعتقال الأداري لمدة أشهر وسنين دون محاكمة وهذا غالبا ما يحدث.

وعليه، ليست هناك عدة خيارات او أمكانيات قانونية أمام وكيل الدفاع في القضايا الأمنية، وقد تقتصر مهمّته، مرغماً،على الانتقاء بين السيّئ والأسوأ. بين الخُضوع لقوانين اللعبة (التي تدور على ارض ملعب نّيابة الدولة وبين جمهورها) والإعتراف لا محال بلائحة إتهام مُعدّلة مقابل الاتفاق على حكم أخفّ نسبيا (ما يسمى "صفقة ادعاء") وأما الإستمرار في القضية حتى نهايتها الحتمية، أي القبول ليس فقط بلعب دور "الكومبارس" وإنما أيضا المجازفة بابتلاع منجل بدلاً عن موس. أقولها وبصراحة إن في هذه الحالة، وهي ليست حالة استثنائية، تتحول مهمة المحامي من وكيل دفاع لوكيل تجارة بعيداً كل البعد عن الرسالة التي تحملها مهنة المحاماة....

على الرغم من عقلانية الطرح أعلاه، إلاّ أنه في حالة هذا الفتى كان من الصعب جدا تقبُّله، فبعد الأطلاع على مواد القضية ودراسة الملف، تبيّن لي أن من وراء الأوراق وما بين الأسطر،عدا عن الناحية الفعلية والقانونية للموضوع، يكمُن جانبٌ إنسانيّ وقصة دراما تدور أحداثها حول صبيّ يعيش وسط عشرة إخوة، هو أصغرهم، حُرِم من نعمة النّظر في إحدى عينيه منذ طفولته لعدم توفر الإمكانيات الاقتصادية لإجراء عملية جراحيّة في عينه، وثم فقَدَ أباه وهو في الثانية عشرة من عمره، مما اضطره الى ترك مقعد الدراسة والانضمام لباقي إخوته للعمل في الزراعة من أجل كسب لقمة العيش.

أما بعد ذلك فقد استشهد أخوه، الذي كان أكبر منه، في إحدى المواجهات مع الجيش الأسرائيلي، الشيء الذي كان له الأثر الكبير عليه، ومما دفعه لمتابعة درب أخيه فكانت بداية نشاطه التنظيمي وهو في الرابعة عشرة من عمره حتى اعتقاله وهو في السابعة عشرة.

العامل الاخر والأهم الذي زاد من صعوبة تقبُّل الواقع المرير في الخيار ما بين السيّئ والأسوأ ما هو إلاّ والدة مُوَكلي، الحجّة ام نضال أطال الله عمرها- أم الشهيد وأم الأسير- والعلاقة الخاصة التي نشأت بيني وبينها من وراء الحدود من خلال التواصل الهاتفي قبل وبعد كل موعد جلسة مداولة في قضية إبنها الأصغر. فكلمات الحجة أم نضال عبر الهاتف كان لها وقع خاص ليس فقط على أذنيّ بل أيضا على قلبي وعقلي وروحي، كلمات تبعث الأمل في النفوس وتعبّر عن شموخ وصمود وعزّه، كلمات أشعلت في داخلي أحاسيس هي ذاتها الأحاسيس التي تكتنفني عند مشاهدة وسماع تلك "الحجّة" بطلة المسرحية السورية "غربة" التي تتصدى بجسمها للبيك وبالذات عندما هددها أحد المسؤولين بالسجن قائلا لها:" بلحشك بالحبس" فجاء رد الحجّة المدوّي: " تِلحش بابوجتي " (البابوجه هي النعل بالفارسيه).

لا أنسى ذلك الإحساس الذي إنتابني لحظة أخبرت الحجّة عن قرارنا إنهاء المحاكمة بعقد صفقة مع النيابة وعن المُدّة التي سوف يحكم بها إبنها بحسب الصفقة. ما زلت حتى هذه اللحظه عاجزا عن وصف ذلك الإحساس، فمن جهة، لا مفر من إتخاذ هذه الخطوة -ابتلاع الموس بدل المنجل- على كل ما تحمل تلك الخطوة بين طيّاتها من مأساة، ومن جهة أخرى ورغم أدراكي لكل ما تتحلى به الحجّة من صبر وصمود ونضال إلا أن الحديث مهما كان يخص حياة ومصير فلذة كبدها الذي سوف يحرم من أهم سنين عمره لمجرد دفاعه عن كرامته الوطنية، وسوف تُحرم هي ليس فقط من رؤيته لمدة سنين طوال بل أيضا من الحق في زيارته لمجرد كونها غزّاوية، ولهذا لم تكن مهمة مكالمة الحجة واقناعها ان تتقبل الامر بعقلانية بالمهمة السهلة او العابرة.

لا ولن أنسى أبداً رد فعل الحجة بعد أن سمعت مني تفاصيل الصفقة والحكم، لا ولن أنسى السكون الذي ساد المكالمة الهاتفية عندئذ، لدرجه ظننتُ أن الاتصال اللاسلكي قد انقطع إلى أن نطقت الحجة قائله:" ما باليّد حيلة.... اللّي أبوه القاضي لمين تِشكيه" ثم عاد السكوت ليكون سيد الموقف وعندها لم بكن بوسعي إلاّ تأجيل متابعة المكالمة إلى موعد اخر....

إنه لقول معبر جداً... "اللّي أبوه القاضي لمين تشكيه "... لم تكن تلك المرّة هي الاولى التي أسمع بها هذا القول، فقبل ما يزيد عن سنتين سمعته على لسان الشّيخ المناضل صيّاح الطوري من قرية العراقيب المُهَجّرة في النقب عندما كنت أعمل كمحام في مؤسسة "عدالة"، وحالفني الحظ أن اشترك وإياه في فيلم وثائقي قامت بتصويره قناة تلفزيون "العربية" حول عرب النقب وسياسة الدولة ومخططاتها تجاههم، وبالذات قضية الأراضي والقرى غير المعترف بها حيث اختار المخرج أن يُنهي الفيلم بمشهد يظهر فيه الشيخ صيّاح جالساً على فراشه في خيمته على أرض العراقيب (قريه هُجر أهلها بعد أن وعدتهم السلطات العسكرية انذاك خطيا لأعادتهم إليها بعد ستة شهور الشيء الذي لم تفِ به الدوله حتى بعد مرور ستّين عاما تقريبا) حيث سبح الشيخ بمسبحته (الّتي في حوزتي اليوم ومعلقه على الحائط في بيتي) ناظراً إلى الكاميرا بعين تكاد تدمع متنهداً مُعبراًعن حسرة في القلب قائلاًً، بعد لحظات من السكوت، واصفاً مدى عجزه وأبناء قريته لاسترجاع اراضيهم والعوده الى بيوتهم :
" اللّي أبوه القاضي لمين تشكيه "....

أنتهى

* محام يعمل في اللجنة العامة لمناهضة التعذيب وناشط في الدفاع عن حقوق المعتقلين والأسرى الفلسطينيين


التعليقات