31/10/2010 - 11:02

المثقف والسياسة../ د. تغريد يحيى-يونس

المثقف والسياسة../ د. تغريد يحيى-يونس
العلاقة بين المثقف والسياسة هي مسألة طُرقت بكثافة ومن زوايا عدة شفويا وكتابة. تناولتها الأدبيات المهنية في العلوم الاجتماعية والكتابة الصحفية، وهي تحتل مكاناً في النقاش الجماهيري، وكثيرا ما تُثار في الحلقات الاجتماعية والسياسية وأحاديث الجلسات البيتية. إنها علاقة تتعدى استهلاك الخبر والمعلومة السياسية. ما هو متفق عليه حول هذه المسألة هو ضرورة بل ووجوب انخراط المثقفين في السياسة. أمر مفروغ منه.

لغرض مقالتي هذه لا أختزل المثقف تعريفا بدرجة تحصيله أو معارفه العلمية بل أقصد به ما هو أبعد من ذلك فهو الواعي لقضايا وهموم شعبه والمتفاعل معها قولاً وفعلاً. تشير تجارب الشعوب ماضياً وحاضراً إلى الدّور الفعّال الذي تأخذه شريحة المثقفين في تشكيل وصياغة وتفعيل وقيادة التغيير الاجتماعي والسياسي وحركات الإصلاح وحركات مناهضة الاستعمار وحركات المعارضة في الأنظمة اليمينية أو المحافظة. ليس في هذا إغفال أو تقليل من دور شرائح وقطاعات المجتمع الأخرى كالعمال والفلاحين والتي لطالما برز دورها في الأدبيات المختصة وفي إعادة كتابة التاريخ والاجتماعي منه بالذات، لكنّي أركز هنا على تناول شريحة المثقفين على وجه الخصوص.

في الحالة العربية-الفلسطينية في الداخل يأخذ التعاطي مع هذه المسألة أكثر حدة وخصوصية. يرجع هذا إلى عوامل عدّة أوّلها السياق السياسي-الاجتماعي الذي ينظر فيه. في نشاطه السياسي يفترض أن يجيد المثقف العربي-الفلسطيني في الداخل لغة من يخاطبهم، حقيقة ومجازاً، بالمفردة والخطاب. وهو يمارس نشاطه السياسي ويجري خطابه وبشكل متزامن في مستويين مركزيين. من جهة أولى نحو الداخل، نحو مجتمعه، ثقافته وبُناه الاجتماعية والسياسية التقليدية المحافظة في جلّها، ومن جهة أخرى نحو الخارج، نحو السلطة المركزية المتمثلة بسلطات الدولة والأكثرية اليهودية وخطابها المهيمن وما ينبثق عنه. ليس لديّ متسع في هذه العجالة للخوض في مسألة أيهما أكثر أولوية وصعوبة وبأي الأدوات والآليات تتم الاستعانة في كل مستوى، والحقيقة ليس هذا هو الموضوع المركزي في هذا المقام.

إن لحجم المجتمع قيد التناول، برأيي، أثر كبير على قوة التوقّّع السياسي من بناته وأبنائه المثقفين. تعداد أفراده والذي يقارب المليون ومائتي ألف يجعلهم أقلية نسبية وبالمطلق أيضاً، فالحديث عن مجتمع صغير حجما. وكم بالحري فيما يتعلق بنسبة الأكاديميين والأحرى المثقفين منهم، الأمر الذي يجعل انخراطهم في النشاط السياسي حيويا إلى حدٍّ بعيد. من هنا، ولأسباب أخرى كتقليدية الروابط الاجتماعية ونمط السكنى الجماعي في بلداتهم والانغلاق/الانعزال النسبي والسياق التاريخي لتحولهم إلى أقلية وطن، والتي لن أطور الخوض فيها، يكتسب المجتمع بأكمله خصائص المجتمع المحلي إذ الكلّ يعرف الكلّ، تقريباً، معرفة بعيدة أولية وسطحية على الغالب لا تتعدى الشكل والاسم. وكما في المجتمع المحلي فمدى الرؤية (visibility) واضح ومنه الغياب عن ساحة النشاط السياسي يبيت مرئيا وواضحاً هو الآخر.

وإن كان لا خلاف على التوقع من الأكاديميين المثقفين أن يكونوا نشيطين سياسيا فإنّ تعريف ما هو سياسي هي نقطة أود الوقوف عندها. هل يضيق العمل السياسي لينحصر بالمعنى الرسمي التقليدي المحدود المتعارف عليه في الأطر والنشاطات السياسية الصرفة؟ ما هو حدّ التواتر وكثافة وحدود النشاط السياسي الذي ينبغي على الأكاديمي-المثقف تحقيقها؟ من مخوّل ليضع هذا الحد؟ لست بصدد الإجابة الكاملة المتكاملة عن هذه التساؤلات لكن مجرد طرحها يقع في صُلب الموضوع قيد البحث.

يعتبر الحزب إطاراً سياسيا حداثوياً ينتظم فيه الأفراد ممن يتفقون ويلتقون حول أيديولوجية مشتركة في محاولة للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها أو التأثير عليها، وتنبثق عنه فعاليات تعبر عن أيديولوجيته، رؤيته (vision)، مواقفه وأجندته السياسية والاجتماعية. ضرورة التأطّر في أحزاب أكثر بداهة من أن تطرح ومن نوافل القول أن الحزب وسيلة حشد وشحذ للقوى الفردية والجماعية في إطار واحد يعتبر وسيلة شرعية لخوض معتركات وخطابات تطرح في السياسة بمفهومها الضيق (البرلمانات، الحكومات الأجسام المنتخبة ...) ومفهومها الواسع (المجتمع بمجالاته وأطره الأخرى). وهو بالطبع ليس فرض كفاية. لكنّ السؤال هل التأطر الحزبي عامة وللأكاديمي-المثقف خاصة فرض عين وتحت كل ظرف؟

يأخذ النشاط السياسي أشكالا وصورا جمة تتعدّى التعريف الكلاسيكي الضيق لما هو نشاط سياسي وبكل تأكيد لما هو حزبي. كثيراّ ما وجدت نفسي أضرب مثلاً في عدم/اقتناء سلعة ما للاستهلاك الشخصي، مهما بخس ثمنها أو بهُظ، كسلوك سياسي فردي. بل ومواقف أخرى أكثر شخصية يتخذها الفرد في حياته هي في صميم السياسي وتذهب مذهباً أبعد من تحقيق مقولة "الخاص/الشخصي هو السياسي". ويمتد هذا النهج عبر سلوكيات ومواقف بينية بين القطبين، إذا صح التعبير. ومن خلال العمل المهني، أيٍّ كان، يمكن أن يتوفر بعد سياسي. أما والحديث الأخص عمن هم في العمل الأكاديمي، وبمراحله الأولية تحديداً، فإن هنالك متسع وفرص أخرى للتعبير عن السياسي بدءا باختيار موضوع دراساتهم وبحوثهم، مروراً بصياغة تساؤل/ات بحثهم، فروضهم، استعراض الأدبيات، تبني توجّه منها بعينه، اعتماد وجهة نظر باحث/ة معين/ة، استخدام نسق مصطلحات (terminology )دون غيره وانتهاء بالرسالة (thesis) أو الطرح المعرفي الذي ينتجه. المشاركة في منابر والعزوف عن أخرى، إختيارياً، واستثناء مواعيد مشاركة دون أخرى (أين الحس السياسي في أن نشارك بفعالية أكاديمية بالمستوى المذكور تنظم دون حساسية في أعيادنا والرئيسة منها؟)، هي تعبيرات متاحة كذلك.
بين التفرغ للعمل السياسي والاشتغال به وبين المشاركة السياسية فرق كبير. المثقف الذي يضنيه الجهد للوصول للأكديميا في إسرائيل، في المرحلة الحالية خصوصاً، أو ذلك الذي يحاول شقّ طريقه إليها وليكن الأكثر تماهيا والتحاماً مع قضايا شعبه وهمومه، ليس من الرفاهية فيما يتعلق بمورد الوقت بحيث تخوّل له نفسه اجتياز حد أقصى من المشاركة السياسية في مراحل تطوير سيرورته وسيرته الأكاديمية والمهنية. وتحقيق هذا المنشود من تطور ونجاح لا يقتصر على المردود الذاتي-الشخصي بل يأتي أُكُله في المجتمع، والواقع كما وصفته، في كافة مراحل السيرورة والصيرورة المذكورة، في أكثر من منحى وعلى أكثر من مستوى. مجال الأكاديميا بصورته الجادة الحقة، كما لا يخفى على البعض، هو مجال لحوح وملح ويستنفذ الوقت والطاقة، يسير وفق قواعد ومعايير مهنية شديدة تتمحور حول محوري الإنتاج والوقت معاً. أكثرهم امتيازاً يتذمر من مجاراة هذه القواعد والمعايير والصمود في وجهها فكم بالحري العربي-الفلسطيني في البلاد، وليكن أوفرهم قدرات ذهنية كامنة، وطلاقة تعبيرية، ودافعية، وظروف اقتصادية وحياتية مرفّهة. ليس هنالك مجال لتفصيل التحديات الموضوعية وغير الموضوعية التي يواجهونها والتي وردت في الأبحاث ذات الصلة.

حين يضاف عنصر الجُنوسة (gender) فنحن أمام عامل يلقي بظلاله الثقيلة على واقع الحياة المعيش (بهذا الصدد أنظر يحيى-يونس، 2002). تجدر الإشارة أن البحث والنقاش فيه في المجتمع المذكور لا زال أوليّاً. وإذا ما ذُكرت الجنوسة تمركز الحديث حول المرأة على وجه الخصوص، وإذا ما ذكرت المرأة استحضر المجال الخاص، حيث لا زالت في المجتمع العربي-الفلسطيني وبشكل عابر للطبقات الاجتماعية-الاقتصادية، على غرار أغلب المجتمعات العربية وعلى خلاف تلك التي تحف المرأة بالخدم والحشم والحاضنات من العمالة الوافدة، لا زالت أكثر النساء قمة في السيرة المهنية لا تُعان بالكامل على عبء الخاص من بيت وأسرة وتربية أولاد وامتدادات ذلك وما يقترن به من واجبات وأشغال لحوحة هي الأخرى لا حصر ولا نهاية لها. كل الماكنات والأدوات التكنولوجية المخترعة لا تحل محل المرأة الزوجة والأم. بل وبعضهن، وأظن غالبهن، لا تعفي نفسها من هذا أو بعضه لما ذوّتنه من قيم وأنماط وأدوار. وتتزامن مراحل الدراسات العليا وتكوين أسرة وتطوير سيرة مهنية وأكاديمية في مرحلة عمرية معينة، بحكم الساعة البيولوجية للإنجاب لدى المرأة وقواعد واضطرارات سوق العمل، وتتزامن هذه كلها مع الرغبة الذاتية والتوقعات المجتمعية للعطاء وضمن ذلك في المجال السياسي. بالتالي حتى أوفر النساء حظاً في المقدرات الذهنية والجسمانية والمعنوية الكامنة وأقواهن دافعيّة وأكثرهن درايةً باقتصاد الوقت ونجاعةً في توزيع وقتهن وأسعدهن حظاً في توفُّر محيط اجتماعي فوري (من زوج وأولاد وآخرين مهمين – significant others) متفهم، داعم وحاضن، يصعب عليها أن تصمد في وجه هذا الكم الهائل واللحوح من العمل وفق جدول زمني يحسب السنة والفصل والشهر والأسبوع واليوم والساعة وأجزاءها، تضعه الجهات ذات الصلاحية ويخرج أساساً عن محض سلطتها.

بين الخاص كما صورته للتوّ، دون أن أدخل إلى كافة مركباته، والعام متمثلا بالعمل للإعالة أو المشاركة في الإعالة، وبالسير في سيرورة وصيرورة أكاديمية-مهنية، والحرص على المشاركة السياسة، والنشاط في المجتمع الأهلي (المدني)، وهو ضرب من ضروب السياسي أيضا، يبقى ترك مساحة للخيار الشخصي-الموضوعي (على غير الشخصي بمفهوم الميول والرغبة على شرعيته) الظرفي المرحلي الآني، أو السرمدي، في التأطر الحزبي ضرورة أساسية حتمية وإلاّ لأخطأ هذا الأخير بعض أهدافه.



تغريد يحيى- يونس, 2002. "النساء والتعلّم العالي: وضعيّة النساء العربيات-الفلسطينيات في إسرائيل" في: مؤتمر المرأة العربية الثاني، جمعيّة الزهراء، سخنين، ص 26-45.

التعليقات