31/10/2010 - 11:02

المصريون والعدوان الإسرائيلي على غزة: جسم متماسك باستثناء «هوامش» المجتمع../ عمار علي حسن*

المصريون والعدوان الإسرائيلي على غزة: جسم متماسك باستثناء «هوامش» المجتمع../ عمار علي حسن*
ما إن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة حتى انخرط المصريون في تنازع لفظي حول مقدمات الحرب ومجراها ونتائجها المنتظرة، ودور مصر في صناعة ما يحدث، وإمكانية التعويل عليها في إنهاء هذه المأساة. وهذا النوع من التنازع كان ظاهراً إلى درجة أنه يضع بعض السمات الثقافية والحضارية للشخصية المصرية محل مساءلة، وموضع تدقيق ومراجعة، وفي مقدمها سمة التلاحم وقت الشدة.

فمن المعروف تاريخياً أن المصريين ينحون اختلافاتهم وخلافاتهم جانباً حين تتعرض بلادهم لخطر داهم، ويسارعون إلى التكاتف والتعاون في سبيل مواجهة الخطر. وهذا الأمر تشربته الشخصية القومية المصرية إلى درجة أنه صار يشكل جزءاً أساسياً من ملامحها، تتميز به عن أمم كثيرة، تزيدها الأخطار تشرذماً وتوزعاً على ولاءات عدة، ويبدأ كل طرف كان يتربص بالآخر يستغل الظرف الطارئ في تعزيز وضعه حيال الفرقاء، بل إن البعض يذهب في خصومته إلى حد التعاون مع العدو الخارجي ضد بني وطنه. وهناك مثلان بارزان في هذا الشأن، الأول قديم يتعلق بملوك الطوائف في الشام والأندلس الذين استعان بعضهم بالعدو الخارجي ضد إخوانه. والثاني حديث يتجسد في تعاون بعض زعماء الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1989) مع اسرائيل.

وبخلاف الجنرال يعقوب الذي تعاون مع الاحتلال الفرنسي لمصر (1798 - 1801) وبعض زعماء البدو ووجهاء البلد الذين خانوا أحمد عرابي في معركة التل الكبير التي واجه فيها الجيش الإنكليزي الزاحف لاحتلال البلاد، لا توجد حالات بارزة على الخيانة طوال تاريخ مصر المديد. بل كان المصريون يسارعون دوماً للالتفاف حول الحاكم حتى ولو كان منبوذاً مكروهاً حين يكون بصدد مواجهة العدوان الخارجي.

فالبسطاء هم الذين شكلوا العصب الرئيس لجيش قنصوه الغوري حين تخلى عنه عسكر المماليك، وزحفوا معه إلى مرج دابق لصد الجيش العثماني، فلما قُتل وقفوا إلى جانب طومان باي حتى شُنق. والفلاحون مثلوا الكتلة الأساسية الحية لجيش محمد علي باشا، فبنى به إمبراطورية صغيرة مرهوبة الجانب، تحالفت أوروبا عليها حتى أنهكتها، وساقت مصر لتكون قابلة للغزو في ما بعد.

وتدلل شهادات ودراسات اجتماعية ميدانية كثيرة على تلاحم المصريين وقت الحروب، إذ تنخفض السرقات إلى أدنى حد لها، وتتعزز أشكال التراحم إلى أقصى مستوى لها، ويلتف الناس حول أولي الأمر، للدفاع عن البلاد، وصيانة أمنها القومي، مهما كان حجم الخلاف معهم قبل وقوع أزمة سياسية شاملة وحادة أو كارثة طبيعية أو نشوب حرب. ولم يسجل التاريخ وقوع أعمال نهب وسلب كبيرة وواسعة في وقت الأزمات سوى مرتين: الأولى أيام حكم بيبي الثاني الفرعوني، والثانية خلال حكم المستنصر بالله الفاطمي، إذ جاع الناس حتى أكلوا أجساد الموتى، ولم يكن أمام الجوعى من خيار سوى مهاجمة قصور الأغنياء والاستيلاء على ما فيها من مؤن.

ومن العوامل التي ساعدت على احتفاظ مصر بهذه السمة التاريخية أنها أقدم دولة مركزية في تاريخ الإنسانية، اعتاد أهلها أن يروها هكذا، وأن يحافظوا عليها كما هي طوال آلاف السنين، ومن ثم يتنادون جميعاً في لحظة الخطر للذود عنها، حتى تستمر على هيئتها في خريطة العالم مهما تقدم الزمن.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: هل لا يزال المصريون جميعاً يحتفظون بهذه السمة الحميدة؟ أم طرأت ظروف مختلفة، وجرت مياه آسنة عكّرت صفو هذا التلاحم التاريخي؟

الإجابة التي ترِد للوهلة الأولى هي أن الجسم الرئيس في مصر لا يزال محتفظاً بهذه الصفة، وأن التغير طرأ على هوامش المجتمع، ويخص فئات بعينها، طفت على السطح في العقود الأخيرة، وانحازت إلى مصالحها الخاصة، وأهوائها الشخصية، ولم يعد يهمها الاحتفاظ بأي سمة للتماسك والتوحد.

وربما لم تقع أحداث كبرى في مصر منذ حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973 نستطيع أن نختبر من خلالها مدى استمرار تجذر هذه السمة، إلا أن ما جرى خلال الزلزال الذي ضرب البلاد في 12 تشرين الأول (أكتوبر) 1992 دل على أن عامة المصريين لا تزال قابضة على هذه السمة إلى حد كبير.

ومع هذا لا يستطيع أحد أن ينكر أن هذه السمة تعرضت في العقود الأخيرة لتحديات جسيمة، نبتت في قلب الظروف التي طرأت وأدت إلى تفسخ اجتماعي متفاوت النسبة والدرجة، هو من دون شك معول هدم يضرب باستمرار سمة التوحد هذه في الأوقات الصعبة والمريرة التي تمر بها مصر. وهذا الضرب إن كان قد بدأ نقراً خفيفاً، فإنه يتصاعد بمرور الأيام ويصير طرقاً قوياً، يهز الأسماع، ومن ثم يصبح تأثيره قوياً على الكثير من الروح المصرية الفريدة، التي لا تقتصر فقط على التلاحم وقت الشدة، بل أيضاً التي تملك القدرة الفائقة على صهر الغريب والوافد وهضمه وإعادة إنتاجه أو إخراجه في صيغة مصرية خالصة، وذلك في تواصل تاريخي، لم يخف على كل ذي بصيرة نيرة.

وتتمثل العوامل الأربعة التي طرأت على الحياة العامة في مصر، ونالت من هذه السمة في الانفتاح الاقتصادي غير المدروس، وهجرة المصريين إلى الخارج في ظاهرة فريدة وجديدة على الإنسان المصري، وإبرام اتفاقية السلام مع اسرائيل، ثم اتساع الهوة بين السلطة والناس. فالانفتاح كان عشوائياً ومن دون ضوابط ولا روابط، إلى درجة أن أحمد بهاء الدين وصفه بأنه «السداح مداح» وهو تعبير مصري يعني اختلاط الأمور وغلبة الفوضى عليها. ففي غمرة تراخي الدولة وتشجيع بعض أجنحتها لمسارات غرائزية ومسالك غير قانونية، انقلبت الأوضاع، وصعدت إلى قمة الهرم الاجتماعي طبقة طفيلية، تملك المال لكن تنقصها الثقافة والتحضر والقيم الأخلاقية والروح الوطنية التي تنبع منها. ومثل هذا الوضع أوجد حالة من الصراع الاجتماعي الخفي في سبيل حيازة الثروة بأي طريقة، لم يلبث أن ارتفع صوته، وصار يصم الآذان، ويرج أنماط الحياة رجاً.

وظهرت طبقة مترفة من رجال الأموال والأعمال ترتبط مصالحها بالخارج، إقليمياً ودولياً، بما في ذلك إسرائيل، التي أصبحت وجهة لبعض المستثمرين والتجار المصريين، وبات بعض رجال أعمالها شركاء لنظراء لهم في مصر. وفي ظل تصاعد نفوذ رجال الأعمال، وتعزز دورهم في صناعة القرار المصري، صار بوسعهم أن يضغطوا على الدولة، ويأخذوها في اتجاه تعزيز مصالحهم، وهي المسألة التي تمت ترجمتها بجلاء في إبرام صفقة تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل.

أما هجرة المصريين إلى الخارج بأعداد غزيرة، فهي ظاهرة جديدة على أرض الكنانة، التي اعتادت طيلة تاريخها أن تستقبل الوافدين والمهاجرين إليها، وتصبغهم بصبغتها، وتمنحهم روحها، فيصيروا منها، مهما كان عددهم، أو كانت جذورهم الثقافية والدينية والاجتماعية. لكن ابتداء من سبعينات القرن العشرين بدأ المصريون أنفسهم يهاجرون سعياً وراء الرزق، إلى بلدان الخليج العربي التي ظهر فيها النفط بغزارة، وإلى الدول الغربية من أجل التعليم والعمل والحماية. وتشرب هؤلاء في الغربة ثقافة البلاد التي ذهبوا إليها، ولأن غربتهم طالت، فإن هذا التشرب كان عميقاً وشاملاً، وحين عادوا كانوا يحملون بين جوانحهم ما قد يجافي أو حتى يتصادم مع الثقافة المصرية العريقة والمتوارثة، وبدأوا يدافعون عما حملوه وكأنه يشكل ثقافتهم الأصيلة. ومثل هذا التطور خدش روح الثقافة المتماسكة التي احتفظ بها المجتمع المصري دوماً.

وجاءت معاهدة السلام التي أبرمتها الحكومة المصرية مع اسرائيل عام 1979 لتضع حداً ولو موقتاً للثقافة الاجتماعية التي كانت سائدة أيام الحروب التي خاضتها مصر، سواء مع إسرائيل، أو أيام النضال المدني والمسلح ضد الاحتلال البريطاني، ونزولاً إلى بقية المعارك التي دخلتها مصر، صغيرة كانت أو كبيرة. ولا يعني هذا أن أوقات السلام تأتي بالضرورة على الروح الإيجابية التي تسود الأمم أيام القتال، لو كان سلاماً يقوم على «توازن القوى» ويدرك من يعيشون فيه أن احتمالات نشوب الحرب قائمة دوماً. أما تحول السلام إلى استرخاء شديد فهو بلا ريب ينال، بلا ريب، من روح الصمود، ويجرح سمة التماسك والتوحد. وبالطبع فإن المصريين لم يصابوا بهذا الداء، فطيلة العقود الثلاثة التي أعقبت كامب ديفيد وهناك قطاعات عريضة بين النخب والعامة تتحدث عن امتعاضها من هذه المعاهدة، ويطالب البعض بالاستفتاء الشعبي عليها، بعدما تمت من وراء ظهر الناس. ويعتقد جميع المصريين أن عدوهم الأول هو «إسرائيل»، وهذا طبيعي لبلد لا يخلو بيت واحد فيه من شهيد أو فقيد جراء الصراع مع إسرائيل.

أما اتساع الهوة بين السلطة والناس في مصر، فهي مسألة جلية، أدت إلى عدم ثقة الجماهير في ما تتخذه الحكومات المتعاقبة من قرارات، سواء كانت تتعلق بقضايا داخلية أو خارجية. وانعكس هذا في الأزمة الأخيرة، إذ ساورت الشكوك قطاعات من النخبة حول نية السلطة حيال العدوان على غزة، وما إذا كانت لها مصلحة في التخلص من حركة «حماس» من عدمه.

وفي الختام من المعروف أن مصر تستعيد روحها في سرعة خاطفة ولديها من ركائز القوة الكامنة ما يجعلها تتجاوز محنها، وترمم شروخها، وترتق خروقها، وتعود إلى سماتها وخصائصها الحضارية، وهذه مسألة يدركها أعداؤها قبل أصدقائها.
"الحياة"

التعليقات