31/10/2010 - 11:02

المقاتل السابق (وحديث النمُّورة)../ أسعد أبو خليل*

المقاتل السابق (وحديث النمُّورة)../ أسعد أبو خليل*
لم يكن هناك أفضل من جيزيل خوري، الخبيرة في استضافة «أبو فادي» دحلان وسمير جعجع (الذي أظهرته غانديّاً في برنامجها «الوثائقي» على شاشة صهر الملك فهد)، لكي تستضيف مقاتلين سابقين في الحروب اللبنانيّة المتوالية. وأخبرتنا جيزيل أنّها تحدّثت إلى «خبير في علم النفس» قبل بثّ البرنامج ــ يا للإعداد الرصين. وأضافت كلمتيْن أوثلاثاً أثناء البرنامج عن علم النفس، فقالت إنّ الخبير النفسي (قد يكون الدكتور جعجع) أعلمها أنّ هناك خيطاً رفيعاً بين «القدّيس والمقاتل»، كأنّ علم النفس يعترف بـ«القدّيس». لكن هذا هو لبنان؛ العلم يتحول إلى شعوذة، والإعلام يتحول إلى دعاية سياسية فجّة، والصدق إلى كذب، والمُقاول إلى مقاوم وشهيد... لكن الحلقة فيها ما يفيد عن الثقافة السياسية السائدة في لبنان.

■المقاتل المُقَدَّس

بدأت الحلقة ببول عنداري. لم يأتِ بجديد. لكنه أضاف إلى ما لدينا من مخزون عن طريقة تعاطي الإعلام في لبنان، بما فيه بعض إعلام المعارضة، بـ«المقاتل السابق». فهناك بالنسبة إليهم مقاتلان سابقان ينتميان إلى نسقيْن مختلفيْن من القتال: المقاتل المُقدَّس أو المُحتَرم، وهو الذي حارب في صفوف القوّات اللبنانيّة وتوابعها من حلفاء إسرائيل في لبنان، ويتعامل معه الإعلام اللبناني (السعودي والحريري التمويل) بتبجيل فائق، حتى إن عبارة «المقاومة اللبنانية» باتت مستعملة كمصطلح علمي، ربما لتقويض الأسس الأخلاقيّة لمقاومة إسرائيل، وللزعم أن مقاومة إسرائيل هي مقاومة غير لبنانيّة. أي إن جزّاري السبت الأسود ومبتكري القتل على الهوية وأعوان اجتياحات إسرائيل في لبنان، باتوا يمثّلون المقاومة اللبنانية الحقّة.

وينبع هذا الاتجاه من مقولة «حروب الآخرين» المعروفة التي باتت تشكّل السرديّة الرسميّة للحروب الأهلية اللبنانية.
وتُسقط المقولة من الحسبان التناقضات العميقة التي غَلت كالمِرجل في داخل الجسم الاجتماعي والسياسي في لبنان، في حقبة الحروب الأهليّة وما سبقها من سنوات التجهيز والإعداد. وبناءً على مقولة حروب الآخرين، يُختَصر الآخرون بفئة من الآخرين فقط: فالإسرائيلي والأميركي ليسا آخرين أبداً (هما من أهل البيت الفولكلوري)، كما أنّ المملكة العربية السعودية ـ التي أجزلت العطاء لميليشيات اليمين الطائفي منذ اندلاع الحرب اللبنانية ـ هي على «مسافة واحدة» من الجميع، مثلما أميركا هي «الراعي الصالح والمحايد» في الشرق الاوسط.

فحروب الآخرين، ما هي إلا إشارة إلى سوريا وإلى «الفلسطيني» ـ وتلفَظ العبارتان باشمئزاز شديد إمعاناً في تحقير العنصر الغريب. لهذا، فإنّ بول عنداري يظهر على الشاشة مزهوّاً مختالاً. يستطيع أن يتحدّث عن مشاركته في القتل من دون وجل، وخصوصاً أن المضيفة بانت كمن يقابل نجماً سينمائيّاً، أو كمن يقابل سمير جعجع أو «أبو فادي» دحلان، أو غيرهم من نجوم شاشة «العربية»، مثل عبد الستار أبو ريشة قبل أن يَنحر أربعين خروفاً (بريئاً) لتكريم بوش في بغداد. وعنداري، مثل غيره من مقاتلي القوّات اللبنانية الذين يظهرون على الشاشة فخورين، لم يتحدّث عن إنجازات القوّات في القتل على الهوية وفي التهجير الطائفي و«الوطني» في المناطق الشرقية. ولا يتحدث أحد من المقاتلين السابقين من القوّات عن علاقاتهم وتدريباتهم على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي، أو عن مغامراتهم في مجازر صبرا وشاتيلا. تلك المجزرة اختفت من الذاكرة اللبنانية التي لم يبقَ منها إلا ذكر «المقاومة اللبنانية» ضدّ «السوري» و«الفلسطيني» ـ لاحظوا أنّ عبارة «السوري» هي مثل إشارات الخطاب المسيحي الغربي عبر القرون عن «اليهودي»، فيكفي أن تذكر الكلمة، مقرونة بنبرة من التحقير، حتى يتبيّن للسامع ما تقصد.

أما القسم الثاني من البرنامج، فجمع يوسف بزي ورامي علّيق ـ والأخير يحبّ الحياة حباً جمّاً، مثلما يحبها شاكر البرجاوي وصبحي الطفيلي وأمين الجميّل وكريم مروة وآخرون. ولكن هناك علاقة وثيقة بين استضافة اليساري السابق واستضافة، والترويج لـ«الشيعي السابق». طبعاً، يجب أن يكون المجتمع منفتحاً إلى درجة تسمح للناس بالدخول الطوعي إلى الأديان والخروج منها متى أرادوا («لكم دينكم ولي دين»). هذا هو المرتجى وإن كان العالم العربي وإسرائيل يعانيان من فرض الدين والطائفة ـ تمثّل السعودية مثالاً متطرفاً، كما تمثّل إيران مثالاً متطرفاً آخر، كما تمثّل إسرائيل مثالاً متطرفاً ثالثاً، وإن أبدى بلال خبيز شديد الإعجاب بمدينة تل أبيب، التي كتب فيها رسالة هيام في ملحق «النهار» ـ.

وحسناً فعل إلياس الهراوي، مهما كانت دوافعه، عندما حاول سن قانون للزواج المدني. لكن الديماغوجية الدينيّة والمذهبيّة لرفيق الحريري (مثال «الدولة المدنية» على ما يُقال لنا اليوم)، منعت الموافقة عليه، وكاد الحريري أن يدعو المفتي للصلاة في السرايا الكبيرة، لكن السنيورة فعلها بعدَه.

لكن ظاهرة «الشيعي السابق» مُلفِتة، ويُعبَّر عنها بصراحة في إعلام 14 آذار ـ الصدفة وحدها تفسّر سبب تمويل آل الحريري وآل سعود لهذا الإعلام ـ. مايكل يونغ، معلّق المحافظين الجدد في الـ«دايلي ستار»، والبعض في نشرة «المستقبل» وجريدة الامير «الليبرالي»، خالد بن سلطان، يطالب بطلاق الوطن مع الطائفة الأكبر في البلاد لأنها لا تبدو موافِقة على نهج المخطّط الأميركي ــ الإسرائيلي في لبنان (مع أن قطاعات من الشيعة وملاليهم في العراق يسيرون في ركب الاحتلال، وهذا مهمّ للتذكير حتى لا نعظّم أو نحقّر طائفة بحالها، وحتى لا يتّسم تحليلنا بنزعة رومانسيّة ـ طائفيّة كما يفعل البعض اليوم في الحديث عن المقاومة والشيعة في لبنان، مع أن قطاعات واسعة من حركاتهم السياسية تعاونت مع الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب في 1982 قبل أن تستفيق بعد انتفاضة عاشوراء.

طبعاً، هناك في كل الطوائف من التزم مقاطعة إسرائيل ورفضها بصورة مبدئية لا لبس فيها، فيما كان جوني عبده يستضيف في منزله أرييل شارون، وكانت صولانج الجميل تعدّ بنفسها تلك المأكولات اللبنانية التي كان شارون يستسيغها، على ما روى هو في مذكراته).

والثقافة السياسيّة في لبنان تعاملت مع الشيعة كمشكلة منذ إنشاء الكيان. فهم كانوا مهمّشين (كما فقراء كلّ الطوائف) في الحكم، وسهُل استعمال نموذج بشع من الإقطاع السياسي تمثّل لعقود في زعامة كامل الأسعد (الذي تمتّع بعلاقات وطيدة مع النظام السوري إلى أن «أقنعه» ميشال المرّ في جلسة واحدة في صيف 1982 بمشروعيّة عقد جلسة انتخاب رئاسي بعد أن كان الأسعد قد أفتى علناً بعدم جواز إجراء انتخابات نيابية تحت الاحتلال الإسرائيلي في 1982).

■كامل الأسعد والنمّورة

كان الأسعد، كما شفيق الوزان في حكم أمين الجميل، أداة طيّعة. ونجح في النفاذ إلى وسط الطبقة البورجوازية في لبنان عبر التعبير عن احتقار طائفته، التي كان يبتعد عنها قدر المستطاع. وكان والدي الذي عرفه عن كثب، يروي قصة الأسعد مع طبق النمّورة الجنوبي في أصله.

ففي أثناء الحرب اللبنانية، وبعد أن أيّد الأسعد التدخل العسكري السوري في لبنان في 1976، زاره وفد من «جبهة الرفض» طالباً منه معارضة التدخل السوري. رفض الأسعد، ولجأ إلى بلّونة. وكان أن أقامت عائلة في «الشرقية» حفلة تكريم له، وحاولت صاحبة الدعوة، زيادة في التكريم، أن تضمّن سُفرَتها طبقاً جنوبياً، فأعدّت طبقاً من النمّورة من دون أن تعلن ذلك. ويُروى أنّ الأسعد بعد أن عبّر عن إعجابه بطبق الحلوى، سألَ عن اسمِها، وما إن علم انها النمّورة، أبعدَ طبقه عنه ولم يزد من غرفه ملعقةً واحدةً.

لم يرد أن «يبدو» شيعيّاً بنظر مستضيفيه المخمليّين. ومرّت زعامة الاسعد في الوسط الشيعي، واندثرت، وستمرّ حركات سياسية أخرى، وتندثر، بما فيها حزب الله وحركة أمل. هذه هي ديناميّة الحركات السياسيّة، وفي كلّ الطوائف. ينسى البعض أنّ القرى الشيعية كانت منقسمة بين قوى اليسار والقومية العربية قبل ثلاثين سنة، ولم يكن هناك وجود لحركات دينية أو أصوليّة. إنّ ثبات المواقف السياسية في أوساط شرائح اجتماعية أو حتى طائفية هي من أضغاث الأحلام، لا أكثر.

وكانت الحلقة في البرنامج المذكور، بالعربي (أو بـ«اللبناني») بادية في مقاصدها في تناولها للمشكلة الشيعية، على طريقة إعلام 14 آذار. ويحاول مصباح الأحدب، الذي دشّن بداية حملته الانتخابية في الشمال على برنامج «بكل وقاحة»، باستخدام خطاب بن لادني، لكنه دوماً يسمّي شيعيّاً واحداً (في منظمة «اليسار الحريري»)، وذلك للتدليل على عدم طائفيته، كما كان بشير الجميل يقول إنه يحبّ سليمان العلي، عندما كان يُتّهم بكره المسلمين.

وهناك منحى شديد الطائفية في خطاب 14آذار عن الشيعة، وخصوصاً من جانب «شيعة» 14آذار أنفسهم، الذين يتحدّثون عن الدولة المدنيّة من ناحية، لكنهم يتحدّثون بمنطق طائفي يفوق لهجة من يؤمن بولاية الفقيه، من ناحية أخرى. وخلاف هؤلاء ليس مع ولاية الفقيه كعقيدة، بل مع شخص الفقيه عينه. فلا يمانع فريق 14 آذار مثلاً في تنصيب صبحي الطفيلي أو مفتي صور المطرود (وطرد مفتي صور من منصبه عمل ديموقراطي بامتياز لأنّ بروز وصعود الفقهاء في التراث الشيعي كان يتمّ من العامة من دون تدخّل الدولة كما يجري اليوم في إيران للأسف، أو في لبنان من جانب المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى).

ويتحدّث فريق 14 آذار بمختلف طوائفه، بخطاب مستعار من الخطاب الصهيوني (المسيحي واليهودي) في الغرب، عن تخلّف المسلمين والعرب ودونيّة ثقافتهم، وهي تُسقَط في لبنان على الشيعة.

لهذا، فهم يكثرون من الحديث عن «ثقافة الموت» و«ثقافة الشموليّة»، لأنّ ثقافة الوهابيّة ــ الليبراليّة العربية هي مُحبّة للحياة، وإن شابها قطع الرؤوس في الساحات العامة، ورجم العشّاق والمحبّين من الفقراء، وقطع الأيدي وما تدلّى من الأطراف العاصية. ويهدف هذا الكلام إلى فصل طائفة بحالها عن باقي المجتمع، وهذا يفسّر خطاب «شيعة» 14آذار، إذ إنّهم يجهدون لإثبات حسن سلوكهم أمام الحضاريّين من قادة ثورة الأرز (بشعيريّة). أي إنّهم يحاولون القول إنّنا «لسنا مثل هؤلاء المتخلّفين». طبعاً، يجب أن نعمل على نقد ونقض التراصّ الطائفي في كل الطوائف، لكن خطاب 14 آذار الطائفي يسهم أكثر من ولاية الفقيه (الذي أسهم العالم اللبناني محمد جواد مغنيّة في كتابه «الخميني والدولة الإسلامية» في توجيه أوّل نقد جدّي لها). فهو لا يتيح أمام الشيعة إلاّ الاصطفاف الطائفي، وخصوصاً عندما تسعى الحكومة السعودية وآل الحريري ومحطة القوّات اللبنانيّة إلى اختيار عنجهي لممثّلي الشيعة، من طراز أحمد الأسعد أو محمد عبد الحميد بيضون ذي السجلّ الناصع في الوزارة (ولا يجب أن ننسى المحاولة المُبكّرة لآل الحريري في فرض نصير الأسعد زعيماً شيعيّاً جماهيرياً آسراً بعد أيام من اغتيال الحريري). وزيارة أحمد الأسعد إلى الرياض هي أبلغ دليل، وخصوصاً أن الحكومة السعودية رفضت زيارة لنبيه بري، الذي لم ينتقد المملكة لهذه الإهانة، كما أن نوّاف الموسوي انتقد المملكة من دون أن يجرؤ على تسميتِها (وتلقّى تقريعاً من السفير السعودي في لبنان، صاحب أكبر موهبة شعريّة منذ المتنبي، بناءً على أحكام «نقّاد» أدبيّين لبنانيّين مثل سمير عطا الله وجهاد فاضل)، مع أنّ الإعلام السعودي لا يستعمل تورية أو رمزية أو تعابير مجازية أبداً في نقده لحزب الله ولكلّ خصومه.

■الشيعيّان التائبان

والفقرة مع علّيق ومع بزي في برنامج جيزيل خوري، كانت أكثر من لافتة. فالرجلان ظهرا، وظُهّرا، كشيعيّيْن تائبيْن. وجيزيل، التي تتخصّص في مقابلة دحلانيّي العالم العربي، أرادت أن تشرح للمشاهدين العمليّة العويصة التي أخرجت الرجليْن من ظلام القمقم الشيعي.

فهي شرحت للمشاهدين أن بزي مولود لأم مسيحية. أي إنها أرادت أن تقول إنه يمكن لنصف الشيعي، غير المُثقل بشيعيّة خالصة، أن يتحرّر وأن يلتحق بركب محبّي الحياة (وبفريق أمين الجميل الانتخابي كما فعلت هي في انتخابات المتن). وبدا بزي زاهياً عندما شرحت جيزيل أمر الأم المسيحيّة للمشاهدين (لا المشاهدات، إذ إنهنّ عورات بنظر فقه آل سعود)، واعترف بـ«زعرنات» قام بها قبل أن يتحرّر.

أمّا بالنسبة إلى علّيق، فالأمر مختلف. وعندما يُسأل عن الدين، وعن أي أمر آخر، يراوغ ويبدو مرتبكاً. وكتابه يُروَّج له (ببراءة طبعاً) في الإعلام الحريري والسعودي، ويضيف علّيق إليه كلاماً عن بطولات عسكريّة له، حتى بدا كأن المقاتل السابق هذا هو الذي وقف وحده في وجه الجيش الإسرائيلي في مارون الراس.

ويحاول علّيق أن يروّج لمقولة حركة «حياديّة» مستقلة يقودها هو، وببراءة شديدة أيضاً، وإن كنا لاحظنا أنّ الاحتفاء بالكتاب يجري في حفلات تكريم يحضرها أفراد من فريق الحريري وجنبلاط، إلا إذا كان علاء الدين ترو ومحمد الحجار، حياديّين مثله وهما استقبلاه بالترحاب في شحيم.

أمّا في المسألة الدينيّة، فعلّيق يتردّد. هو تحدّث في البرنامج عن إيمانه بفلسفة جديدة، واستشهد بالفيلسوف غسان تويني، الذي يُدرَّس في أقسام الفلسفة حول العالم إلى جانب كانط وهيغل. (أما يحيى جابر، فهو يُدرَّس في أقسام الملاحم الشعريّة والاقتصاد).

ويقول علّيق في مقابلة مع جريدة نفطيّة التمويل والهوى، تشديداً على خروجه من تخلّف الشيعة، إنّه اجترح ديناً خاصاً به يمزج ـ كما نمزج البطاطا والكزبرة ـ بين المسيحية والإسلام (كلما بان رأس الفتنة من وراء الأكمة في لبنان، تعانق الصليب والهلال في لبنان، والقمم الروحيّة في التاريخ اللبناني تسبق عادة جولات ضروس من الحروب الأهلية). وتردّد علّيق في إجابته في موضوع الدين، إلى أن أسعفته جيزيل بتذكيره بتأثير مار شربل عليه كما يروي في كتابه.

أي إنّ خلاصه من الشيعيّة تمّ على يد رمز ديني لبناني هو أبعد ما يكون عن تجربة الشيعة من الناحية العقيديّة. (كان يمكن لعلّيق أن يذكر تأثير أبيكم يعقوب الكبوشي، لكن تطويبه تلى نشر الكتاب، فاقتضى التنويه). والقابل المسيحي لولادة علّيق «الثانية»، كما يُقال في خطاب المعمدانيّين في أميركا، ضروري لشرعنة تحوّله من الشيعيّة إلى اللبنانيّة، فأهلاً به إلى رحاب الوطن الغنّاء. وكانت تلك الإشارة من جيزيل ضروريّة لإفهام المشاهد أن تغيير علّيق هو حقيقي وشرعي ومقبول.

ويضيف علّيق، مثله مثل كل أطراف فريق 14 آذار الشيعي، على صغره (وهذا لا يقلّل أبداً من السحر الجماهيري لباسم السبع عندما يترجّل من طائرة الحريري الخاصة والذي لا يزال يؤثّر في أفئدة الملايين) كلاماً عن الشيعيّة الحقّة، وكلاماً عن الاعتدال وعن «العودة إلى الدولة» ــ كأن جنوب لبنان والضاحية خرجتا عن الدولة، لا العكس. ولا يلحظ هذا الفريق أن ما يساعد على رص صفوف الشيعة وراء حزب الله وأمل هو لهجة 14 آذار عن الشيعة التي تحتوي الكثير من التحقير ومن الإهانة ومن الخطاب الاستعلائي.

فوليد جنبلاط لا يجد حرجاً أبداً في توجيه الشيعة باستعلائيّة ووعظهم في الفقه الشيعي. وفجأة، اكتشف فريق آل الحريري موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين (وخصوصاً في وصاياه، أو وصايا سعود المولى)، والاكتشاف زائف لأنهم يروّجون لما يرونه متناسباً مع توجّهاتهم.

يغفل هذا الفريق مثلاً أنّ موسى الصدر كان من أقرب حلفاء سوريا في لبنان، بعد الحرب الأهلية وأثناءها، وهو خرج عن المزاج العام في جنوب لبنان في تأييده للتدخل العسكري السوري في عام 1976. ويغفلون أيضاً مواقف الصدر وشمس الدين في تبنّيهما لقتال إسرائيل، وتسويغهما هذا القتال من الوجهة الدينيّة حتى من أجل تحرير فلسطين العزيزة.

كادوا أن يحوّلوا الرجلين إلى عدنان داوود أو أحمد فتفت أو سعد حداد. وعمل إبراهيم شمس الدين، بالاشتراك مع اليساري السابق سعود المولى (متخرّج آخر لمنظمة العمل الشيوعي) على إعادة إنتاج ليبراليّة (موالية للسعودية وللكيانيّة اللبنانية) لفكر محمد مهدي شمس الدين (الذي هادن نظام أمين الجميل قبل أن يسير مع المزاج العام ضدّه).

■«الشيعي الصالح»

ويدرج في إعلام 14 آذار الترويج «للشيعي» الصالح، وإلى وعظ الشيعة عن ضرورة اتّباعهم لحسن السلوك من أجل دعوتهم للدخول في الوطن، لكن من دون أن يحقّ لهم الجلوس على كنبة ــ فهم ليسوا من أهل البيت، وإن سُمح لهم بجلب منافض سجائر للضيوف ــ. فهذا يروّج لشمس الدين وآخر للصدر، واليساري السابق (المتدرّب في مدرسة فارس خشان للإعلام المبدئي، والذي بات يعزو إلى «تقارير غربية» أخبار عن تدفق للسلاح من الحدود السوريّة) يروّج لحسين الصدر. نسي أن يخبر قرّاءه أن العراقيّين يذكرون الصدر بسخرية، لأنه معروف بطبعه لقبلات وافرة على وجنتي بول بريمر، لا لإنتاجه الفكري. لكنه متعاون مع الاحتلال، وهذا يكفي في الإعلام السعودي ـ الحريري.

لكنّ علّيق يبدو مبهماً في موضوع معيّن. فهو لا يركن إلى تعليل واحد في عزوه لحظة اكتشافه لحب الحياة. فهو ساعة يعزو ذلك إلى دخوله حرم الجامعة الأميركية في بيروت، وساعة يعزو ذلك إلى تنعّمه بتنشّق هواء أميركا العليل، مع أنه طُرد من أميركا (أو مُنع من دخولها ثانية) وإن علّل ذلك بسبب رفضه الحازم للتعاون مع الأجهزة الأميركية ــ التي تحبّ الحياة هي أيضاً، إذ «بدّها تعيش».

ولحظة التحوّل عند الشيعي السابق مهمّة لأنّها ترسم خطّاً فاصلاً بين لحظة تخلّف ولحظة حضارة و... حبّ الحياة. وهذا ما عناه عميد اليساريّين السابقين الذي أفتى بعدم إمكان المساكنة بين التخلّف والتحضّر في لبنان، المتمثّل بقدوة الحضاريّين العرب، أي محمد دحلان أو عبد الستار أبو ريشة.

■احذروا سامي

لكن هناك ظواهر مضحكة جداً في الصحافة اللبنانية، وهي تساعد على الترويح عن النفس. فهناك مثلاً سامي الجميّل يهدّد ويتوعّد ويتحدث عن «مقاومة» لبنانيّة عمرها 1500 سنة، ويحذّر من أنه لا يُلعب معه. «ما في مزح» مع الشيخ سامي، احذروا. وحازم الأمين أجرى تحقيقاً ميدانيّاً من طرابلس (لجريدة الأمير خالد بن سلطان) أظهر فيه أنّ المعارك هناك هي في حقيقتها بين حلفاء سوريا، ليس إلّا: فحلفاء عمر كرامي كانوا يتقاتلون مع جماعة علي عيد، على ما روى الصحافي الأمين (الدقيق أحياناً بالرغم من هواه السياسي الواضح).

أمّا ميليشات الحريري فلا وجود لها. أما مصباح الأحدب، فهو ابتدع نظريّة مبتكرة عن المحافظين الجدد (الذين استضافوه في مؤسسة واشنطن، الذراع الفكرية للوبي الصهيوني): فهو برّأهم من شرور التصقت بهم. هو قال إنّ الإيرانيّين (أو الفرس، كما يرد في الإعلام الوهّابي، كأن الشعب الإيراني لديه ما يخجل به من الإرث الفارسي العريق) هم الذين جرّوا المحافظين الجدد إلى مغامرات غير محمودة العواقب.

ويكفي أن مصباح الأحدب وجد شيعياً واحداً غير شرّير. أما الأمير سلمان بن عبد العزيز، فهو أكّد أنّ المملكة ستستمرّ في نهجها المعتدل، وهو أمرَ لهذه الغاية زيادةً في القطع الدوري للرؤوس وفي الرجم في الرياض. أما الشيخ خليفة بن زايد، فهو أخبر سمير عطا لله أنّ لبنان هو «الحضن الدافئ» للعرب. يبدو أنّ نيران الفتنة تلطّف من برودة الجو العربي. أمّا سمير فرنجية، وهو «يسار» 14 آذار، فأخبرنا أنّه لا يؤيّد لا الحلف الأميركي ولا الحلف الإيراني. هو يختار ــ بجدّ ـ الابتعاد عن الحلفين عبر التحالف، كما قال، مع الأنظمة العربية «المعتدلة» طبعاً. أي إنّ النظام السعودي والمصري والأردني، متباعدون عن كل صراعات الأحلاف في المنطقة. هم في منزلة بين الأحلاف، كما يروي فرنجيّة. إذا كان حديثه لكم غير مقنع، فليس هناك ما يقنعكم.

وميشال المرّ عائد. أي إن الفساد زال من لبنان، وإلى الأبد. لكن ماذا لو نشر رستم غزالة مذكّراته، مقرونة بصور تذكارية من سنوات إقامته في ريف بيروت وعنجر؟ ولكن هناك ما يرفع الرأس وهناك ما يسبّب الضحك. ألا يفخر الشعب في لبنان بحاكم مصرفه الذي ينال سنة بعد سنة «جائزة أفضل حاكم» مصرف، والجائزة تخضع لنفس المعايير العلميّة التي تخضع لها عملية انتخاب ملكة جمال التفاح في لبنان؟ أمّا ما يسبّب الضحك والترويح عن النفس، فهو مذكرات سامي الخطيب (الذي هدّد الشاعر الفذ، محمد الماغوط، بنتف شعر عانته في السجن، والذي يروي في مذكراته أنه كان على أهبة الغطس، بمعيّة صبية من محلّة قصقص، في البحر المتوسط لهزيمة وطرد الأسطول السادس في 1958 لو لم يثنه فؤاد شهاب عن عزمه، والذي أمعن في تعذيب المساجين القوميّين بعد الانقلاب الشهير).

الرجل الذي سبق عاصم قانصوه وفايز شكر في الارتهان لاستخبارات النظام في سوريا، ظهر فجأة معارضاً للنظام، وهو يزعم ـ هو أيضاً ــ أنه حورب من النظام في سوريا. تقرأُ ذلك وتضحكُ حتى تستلقي على قفاك.
"الأخبار"

التعليقات