31/10/2010 - 11:02

الوحدة في سياق تنموي ديمقراطي../ د.عبدالإله بلقزيز

الوحدة في سياق تنموي ديمقراطي../ د.عبدالإله بلقزيز
إذا كانت التنمية والديمقراطية أقصر السبل إلى إنجاز عملية التوحيد الوطني (والقومي)، كما دلت تجارب التاريخ الحديث والمعاصر، فلأن التوحيد ليس شيئاً آخر غير تحقق الاندماج الاجتماعي وتكون الأمة والوطن. وهذه جميعها مما تشكل التنمية والديمقراطية أهم الديناميات الدافعة نحو قيامها.

لم يُخطئ من قال إن القوميات والأمم في معناها المدني والسياسي الحديث نشأت في علاقة اقتران بميلاد وتطور السوق الرأسمالية وكانت من نتائج الثورتين الصناعية والبرجوازية، ذلك ان نمو المراكز الاقتصادية الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أنتج المصالح المادية التي قادت إلى تكوين الأوطان والأمم، أو قل إلى تكوين الدولة الأمة.

وعلى النحو نفسه، سمح قيام النظام الديمقراطي في الغرب بانتقال عملية الدمج والصهر من نطاقها الاقتصادي والاجتماعي، من طريق الرسملة والتحديث وتفكيك البنى الإنتاجية التقليدية أو قبل الرأسمالية، إلى نطاق سياسي تفككت فيه الروابط والأطر الانتمائية والتمثيلية التقليدية ونشأت في أعقابها علاقات المواطنة بما هي إعادة صوغ للبنى السياسية على قاعدة المساواة الكاملة في الحقوق المدنية والسياسية لأفراد المجتمع الوطني كافة الذين أطلقت الديمقراطية فرديتهم من عِقَال الجماعات التقليدية.

نحن أمام ديناميتين صاهرتين لا يستقيم التفكير في عملية التوحيد الوطني بمعزل عن التفكير في الآثار التي تولّدانها في مجرى تكون المجتمع والدولة والأمة. فالتنمية وحدها تفتح طريق الاندماج الاقتصادي، وهو شرط تحتي لأي اندماج اجتماعي. إن التجمعات الاجتماعية التي تعيش في عزلة طبيعية عن بعضها البعض، لا تخرج من عزلتها إلا متى مدت الجسور بينها (إنشاء الطرق ووصل بعضها ببعض، مدّ شبكات الكهرباء والمياه، إدماج الأرياف في النظام الاقتصادي..)، ولا يمكن تنمية تلك الجسور إلا بتعميم التعليم وتيسير سبُل التواصل الثقافي. ولكن، كلما أمكن التقدم في تحسين شروط الحياة وخلق فرص العمل وتعظيم المصالح الاقتصادية، كلما أمكن التقدم أكثر على طريق تسريع وتائر الاندماج الاجتماعي.

في المقابل، كلما تعرضت مناطق أو جماعات اجتماعية للحيف والتهميش، في مقابل مناطق أو جماعات أخرى محظوظة أو ذات امتياز، كلما تعثرت عملية الاندماج بسبب انكفاء من أصابهم الحيف، أي مَنْ قد لا يجدون لديهم مصلحة تبرر لهم الاندماج في الكيان. وليس من باب المصادفة ان الكثير من دعوات الانفصال نشأ في بيئة هذه المناطق والجماعات المعرضة للنبذ والإقصاء الاجتماعيين في كل المجتمعات التي عانت من عُسر في الاندماج والتوحيد مثل المجتمعات العربية.

إن الشعور بالانتماء إلى وطن وإلى شعب أو أمة يقوى كلما اقترن معنى الوطن ومعنى الأمة لدى الناس بالشعور لديهم بأن كرامتهم الانسانية تتحقق في ذلك الانتماء ومن خلاله. ولا ينبغي ان يؤخذ مفهوم الكرامة، هنا، في معناه الأخلاقي الدارج حصراً، بل ينبغي فهمه في مدلوله الاجتماعي بوصفه مرادفاً لمعنى الشعور بإشباع الحاجات الإنسانية: المادية والمعنوية. يتمسك الناس بأوطانهم حينما يقر في نفوسهم انهم يعيشون بكرامة في تلك الأوطان: يجدون العمل الشريف، ويوفرون لقمة عيشهم، ويفيئون الى مساكن تليق بهم، ويرسلون أبناءهم إلى المدارس، ويجدون العلاج لأبدانهم، وتتوافر لهم فرص تنمية مداخليهم وترقية وسائل حياتهم، يكف الوطن حينها عن أن يكون مجرد جغرافيا فيصبح الرحم والحضن الذي فيه ينشأون ويترعرعون، فينمو الشعور بالعصبية الايجابية لهذا الحضن الذي يمنح الوجود الانساني معنى ويحمل الفرد على الشعور بأنه جزء من جماعة يشرفه الانتماء إليها هي الأمة أو الجماعة الوطنية أو القومية.

ولا يكتمل معنى الكرامة إلا بحملها على وجهها السياسي. ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، ولذلك لا يحمل الشعور بالولاء للوطن إلا من تولدَ لديه الاقتناع بأن هذا الوطن يحفظ حقوقه السياسية: حريته في الرأي والتعبير، حريته في المشاركة السياسية من خلال المؤسسات الرسمية والأحزاب والجمعيات السياسية، حقه في المشاركة في صنع القرار وتقرير المصير من خلال صوته في الاقتراع النزيه ومن خلال حقه في الرقابة والاحتساب، حقه في تقلد المسؤوليات طبقاً لمقتضيات الكفاءة، وبكلمة: حقه في المواطنة كاملة غير منقوصة، الديمقراطية هنا كالتنمية مركب مأمون إلى بناء الأوطان وقيام الأمم، لأن بها يتحقق الوجه السياسي للاندماج الاجتماعي الذي لا يكون توحيد وطني من دونه، أي أنها توفر سبيلاً آمناً نحو نمو الوعي الجمعي بفائدة المواطنة في حفظ الحقوق العامة وصونها، وبالحاجة إلى الدفاع عن الوطن والدولة اللذين يكفلان تلك الحقوق كشكل آخر للدفاع عن تلك الحقوق.

إن المشروع السياسي التوحيدي الذي يضع هدف التنمية والديمقراطية في صدارة أولوياته البرنامجية يختصر طريقه نحو هدف التوحيد الوطني والقومي، لأنه بكل بساطة يزدرع الأسباب التي ستثمر ذلك التوحيد ويطمئن المجتمع على الفوائد الناجمة عن ذلك التوحيد، ناهيك بأنه يهيئ له السبيل من خلال مفاعيل الصهر والدمج المتأتية عن عمليتي التنمية والتطور الديمقراطي. إن الناس لا تنقاد الى التوحيد بالقوة والعنف حتى وإن كان في التوحيد مصلحة لها (هذا إذا أدركت أن فيه مصلحة ولو يقترن في وعيها بالأسلوب القهري الذي يدار به)، لكنها قلما تتردد في أمره إن سيق في سياق مشروع تنموي ديمقراطي: يجيب عن حاجاتها ويشعرها بأنها مشاركة في صنعه بإرادتها الحرة. ويخطئ من يعتقد بأن الوحدة الكيانية تصبح ممكنة فقط حين يحصل وعي فكري بها وبغاياتها السامية. فالمسألة هنا ليست فكرية أو ثقافية أو إيديولوجية إلا لدى فئة قليلة من المجتمع هي النخبة: التي تتوسل في أحكامها بمقاييس نظرية، أما السواد الأعظم من المجتمع، فمعياره الأول للحكم على الأشياء ومنها قضايا السياسة واهدافها العليا هو المصلحة، بل والمصلحة بمعناها المادي العياني. وما لم تتبين مصلحة في التوحيد الوطني أو فائدة مادية، فلن يجري وراء هدفه أحد. وهي تتبين مما يتحقق في جبهات الاقتصاد والاجتماع والحقوق السياسية من انجازات ملموسة.

هذا نمط آخر من التوحيد الوطني (التوحيد الجاذب) يختصر على نفسه طريق الانجاز ويفكك العقد ويزيل العوائق. وإذا كان من حسناته أنه يحفظ لفكرة التوحيد اعتبارها ويرغب فيها ويجنبها مقاومات اجتماعية هي في غنى عنها فإن أكبر حسناته أنه يطلق طاقات المجتمع المحجوزة من اصفادها ويزج بها في المعركة: معركة بناء الوطن. ها هنا لا يصبح التوحيد عملاً حصرياً للدولة، وإنما يغدو عملاً للدولة والمجتمع على السواء.
"الخليج"

التعليقات