31/10/2010 - 11:02

انحسار شعبية أميركا رصيد للدول الصّاعدة../ جميل مطر*

انحسار شعبية أميركا رصيد للدول الصّاعدة../ جميل مطر*
تؤكد الإحصاءات أن الولايات المتحدة ما زالت تتفوق على كل الدول الكبرى وبينها الدول الصاعدة في كل أسباب القوة المادية والملموسة أو معظمها. يكفي أن نعرف أنها تنفق على التسلح والدفاع عموماً ما يعادل إنفاق عشرين دولة من الدول صاحبة الموازنات الأكثر سخاء في مجال الدفاع، وما زال نصيبها في التجارة الدولية والناتج القومي الأعلى بين أنصبة الدول المتقدمة والغنية، وإن كانت الزيادة فيه متناقصة، والنصيب نفسه في قطاع أو أكثر يتناقص عاماً بعد عام.

لذلك يحق القول بأنه بحساب الإحصاءات والأرقام وأسباب القوة الملموسة تبقى أميركا الأقوى، وستبقى هكذا لمدة غير قصيرة في المستقبل المنظور. وفي الوقت ذاته يرى فريق آخر أنه وإن كان لا يختلف مع قول القائلين إن أميركا تحتل موقع الأولوية بمسافة بعيدة عن أقرب منافساتها بالحسابات المادية إلا أنه بحسابات أخرى يراها، أي يرى أميركا وتراها الدول الصاعدة، محافظة على مكانتها في الصدارة لفترة أقصر جداً من الفترة التي يقدرها الباحثون المتمسكون بالحسابات المادية.

الباعث لمناقشة هذا الموضوع هنا، هو معرفتي بأن الأمر على هذا النحو مثار هذه الأيام على نطاق واسع على مستوى النخب الحاكمة والفكرية في روسيا، ومعرفتي أنه محل نقاش وإن على استحياء في كل من الهند والصين وعلى غير استحياء في البرازيل، وهي الدول الأربع التي تتشكل من حروفها الأولى كلمة BRIC وصارت ذائعة وكثيرة التداول. وعلى الناحية الأخرى، أي في الولايات المتحدة، يلفت نظرنا الاهتمام الشديد بواحدة من هذه الرباعية أكثر من الدول الثلاث الأخرى وأكثر من اليابان والاتحاد الأوروبي. هذه الدولة هي روسيا.

ونستطيع أن نفهم الدافع وراء هذا الاستثناء في الاهتمام. فالبرازيل والهند مقيدتان بظروف ديموغرافية وجغرافية وصعوبات في البنية التحتية تجعل معدل الصعود أبطأ مما يتمناه الطامحون في الدولتين لموقع تنافسي مع أميركا. أما الصين، فحالها تكاد تكون خاصة، وربما بقيت على هذا النحو الذي يحير علماء العلاقات الدولية منقسمين على مدى أهمية كثافة التشابك التجاري والمالي في رسم طبيعة العلاقة بين الدولتين وتحديدها. ويتساءلون عما إذا كانت هذه الحالة من التشابك المكثف قادرة على أن تتطور كحالة «تكامل» غير مسبوقة في التاريخ الاقتصادي وفي مسيرة النظام الدولي.

ولا يعني هذا التشابك الشديد، أو التكامل المتوقع من جانب مفكرين ومحللين سياسيين، أن تتوقف الدولتان، أميركا والصين، عن ممارسة السباق الجاري على القمة. بل العكس صحيح. إذ يبدو واضحاً أن إحداهما تحاول بكل طاقتها الاحتفاظ بأسباب قوتها المادية ومكانها في القمة، والأخرى تحاول كذلك بشتى الطرق وفي ظروف فريدة تعظيم أسباب صعودها كافة، الملموس منها وغير الملموس، لاحتلال موقع آخر على القمة. ويساعد الصين كما يساعد روسيا والبرازيل في صعودها جميعاً إلى مواقع قريبة من القمة كحد أدنى أو مواقع أخرى الى القمة كهدف أقصى، عنصر ليس من صنع أي منها أو فضله، هذا العنصر هو استمرار انحسار شعبية أميركا.

لقد أصبح هذا العنصر تحديداً المحرك الأقوى تأثيراً في كثير من ممارسات روسيا حكومة ونخباً وكنيسة وشعباً، وأحد أهم محفزات تسريع الصعود لاستعادة مكانة روسيا في القمة. ولا شك أن ما يحدث في روسيا الآن يستحق التوقف عنده، ليس فقط بسبب أهميته على صعيد النمو والاندماج والإصلاح الداخلي ولكن أيضاً بسبب أهمية آثاره على الصعيد العالمي، تلخصه عبارة كثيرة التردد بين مراقبي تطورات الأوضاع في روسيا، وهي أن في روسيا شحناً للطاقات كافة وحشداً لكافة العواطف القومية والدينية اعتماداً على شعور شعبي جارف مناهض للسياسات الأميركية وشامت بأميركا باعتبارها الدولة الأدنى شعبية في العالم، ومتحفز للانتقام من الإهانات التي لحقت بروسيا على أيدي مبعوثي أميركا الذين جاؤوا كمستشارين للرئيس يلتسين، فهؤلاء متهمون بأنهم مع عدد من رجال المال وضعوا سياسات اقتصادية واجتماعية ونفذوها بهدف تفكيك الاتحاد الروسي وتحطيم معنويات شعوبه وإثارة الفوضى تحت ذريعة إقامة الديموقراطية وتحرير الاقتصاد.

لذلك، ولأسباب أخرى بطبيعة الحال، حقق فلاديمير بوتين النصر الذي سعى إليه حين قرر إجراء انتخابات حزبية جديدة. لقد نجح بوتين على امتداد السنوات الأخيرة في أن يستفيد إلى أقصى درجة ممكنة من تضافر ثلاثة عناصر جوهرية، أولها الشعور الشعبي المناهض لأميركا في داخل روسيا، وثانيها التشغيل الجيد لأجهزته الديبلوماسية والإعلامية لاستغلال انحسار شعبية أميركا في آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، بل وفي أنحاء من أوروبا ذاتها، وأخيراً الميل الواضح من جانب قطاعات أساسية من الشعب الروسي للانتقام من أميركا والتشفي منها عن طريق إلحاق بعض الأذى بها. ويضيف معلقون غربيون عنصرين آخرين ساهما في تحقيق انتصار بوتين، أولهما الزيادة الهائلة في دخل روسيا من النفط والغاز وثانيهما غياب البدائل. ويقلل بعض هؤلاء من أهمية عنصر انخفاض شعبية أميركا في روسيا ومن الرغبة العارمة وبخاصة لدى الأجهزة الأمنية والسياسية الحاكمة لتحقيق تقدم اقتصادي وعسكري سريع للتعويض عن سنوات المهانة التي فرضتها أميركا، ويعلق أهمية كبرى على عنصر النفط والغاز على أمل، يتكرر الإعراب عنه في الغرب، في أن يحدث للنفط ما حدث في عام 1986 ثم في عام 1998، حين أدى اعتماد روسيا على دخل النفط إلى كارثة اقتصادية أعقبتها حالة عدم استقرار.

جاء فوز حزب بوتين فرصة لشن حملة إعلامية وسياسية تذكّر بأيام الحرب الباردة. يقال الآن في بعض عواصم الغرب، وبخاصة في الإعلام الأميركي، وفي سخرية واضحة، إن الشعب الروسي كان دائماً يؤيد استمرار الحاكم في الحكم ويؤيد في الوقت نفسه رحيله. وكانت المفارقة المثيرة حين قرر بوتين الرحيل كرئيس للجمهورية والعودة كرئيس للوزراء، وكأنه يؤكد المقولة الذائعة في الغرب عن الرغبة المزدوجة لدى شعب روسيا بتأييد استمرار الزعيم في الحكم ورحيله عنه. ومع ذلك لا يخفي خصوم بوتين في الغرب اعتقادهم أن الشعب الروسي الذي ذاق حكم الديموقراطية ومارسها واستمتع بها لن يستمر طويلاً في تأييده «البوتينية» كنظام حكم.

يشككون أيضاً في استدامة ولاء الأجهزة التي دشنت حملة النهوض الروسي وتقودها، وهي الأجهزة التي جاءت ببوتين إلى الكرملين ويأملون أن لا يدوم ولاؤها لأنها أولاً ستختلف في ما بينها على نصيب كل منها من كعكة الفساد وثانياً لأن النخبة السياسية الجديدة راغبة في أن تكون روسيا جزءاً من الغرب وليست مناهضة له، والدليل الذي يقدمه الإعلام الغربي على نقص ولاء هذه النخبة هو أن كثيرين من أعضائها اشتروا مساكن في الغرب وهربوا أموالهم إليه وبعثوا بأولادهم ليتلقوا العلم في مدارسه، ويطرحون في الغرب نموذج رومان آبراموفيتش محافظ إحدى مقاطعات روسيا الذي اشترى نادي تشيلسي الانكليزي لكرة القدم ويتنقل أسبوعياً بين موسكو ولندن مثل كثيرين من أعضاء النخبة الحاكمة في روسيا.

وفي محاولة واضحة للرد على الحشد البوتيني للرأي العام الروسي يسعى الإعلام الغربي لتقديم بوتين في صور لا يرتاح إليها الإنسان الغربي، ففي أحيان يقدمه كقيصر جديد أو ستالين آخر كما جرى تقديمه على أنه يجمع ملامح شخصيتين، شخصية دنغ تسياو بنغ الزعيم الصيني الذي فجر الانطلاقة الراهنة في الصين وشخصية المرشد الايراني علي خامنئي. بمعنى آخر يريدون تصويره كزعيم إصلاحي لن يسمح بانتقاد سياساته وبرامجه حين يتمكن كرئيس حزب الأغلبية أن يشرح قوانين وإجراءات جديدة تمنحه حصانة ضد النقد ومكانة فوق الرد. وعلى كل حال فإن من يقرأ اتجاهات الرأي في روسيا يعرف أن الشعب هناك راغب الآن أو على الأقل غير ممانع في تحسين صورة ستالين والقياصرة الذين يعود إليهم الفضل في تحديث روسيا من دون النظر إلى الثمن الذي دفعه الشعب الروسي من حرياته وحرمانه من الحقوق. وهي الرغبة أو عدم الممانعة التي لا يمكن أن يفهمها العقل الديموقراطي في الغرب، ولكنها الرغبة التي يفهمها بوتين ويقدرها أثمن تقدير، فهو صاحب القول إن تقاليد روسيا السلطوية تتساوى أخلاقياً مع تقاليد الغرب الديموقراطي.
"الحياة"

التعليقات