31/10/2010 - 11:02

بعد خراب البصرة ما العمل؟../ عصام نعمان*

بعد خراب البصرة ما العمل؟../ عصام نعمان*

يعبّر وجدان الإنسان العربي غالباً عن ضرورة استدراك نكبة ماثلة بعمل خارق أو بوقفة بطولية “قبل خراب البصرة”. بعد خمس سنوات من الحرب والتدمير والنهب والتشريد بات في وسع الوجدان والعقل العربيين الإقرار بحقيقة جارحة كخنجر في القلب: تمّ خراب البصرة أو كاد. البصرة بما هي رمز لعراق اليوم، من شماله الكردي المتأهب للانفصال إلى جنوبه العربي المشحون بالاضطراب. وينهض سؤال مصيري ملحاح: ما العمل؟

لعل الجواب يبدأ باستنطاق الذاكرة المترعة بدوافع مضمرة لمجرمي حرب دوليين متوحشين، وأوهام مريضة لسياسيين عراقيين من ذوي النظر القصير والشبق الطويل للسلطة والتحكم، وأوضاع إقليمية متناقضة وأقدار أمم متصادمة في ماضيها وحاضرها.

جورج دبليو بوش كان خطط وزمرته من المحافظين الجدد لاحتلال العراق قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ،2001 هذه الأحداث الدراماتيكية الدامية وفرت له الذريعة والغطاء فيما الدوافع ثلاثة: السيطرة على العراق بما هو مستودع الاحتياط النفطي الأكبر في العالم، وتقسيم العراق بما هو بروسيا العرب المهدد لأمن “إسرائيل”، والتمركز في مفصل استراتيجي بين أوروبا وآسيا للتحكم بمقدرات العالم وتطوراته الجيو سياسية والاقتصادية.

لتسويق عدوانه والوصول إلى أغراضه، أطلق بوش كذبتين “تاريخيتين”، أولاهما امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وثانيتهما وجود علاقة سرية وتعاون بين صدام حسين وتنظيم “القاعدة”. كلا الكذبتين فضحتهما لاحقاً تحقيقات أجرتها لجان أمريكية متخصصة، اضطرت إدارة بوش بعدها إلى الإقرار بكذبها علناً.

تعاون مع بوش وزمرته في الإعداد للحرب فريق من السياسيين العراقيين المنفيين، اختياراً أو اضطراراً، من ذوي النظر القصير الذين نظّروا بأن لا سبيل إلى إزالة نظام الاستبداد إلاّ بإحلال نظام الاحتلال. كل ذلك من أجل أن يرِثوا غريمهم في السلطة مهما كان الثمن فادحاً ومدمراً.

الاحتلال لم يلقَ، بادئ الأمر، مقاومةً أو مناصرةً. لكن سرعان ما تفجّرت المقاومة بعدما أعلن بوش، متسرعاً، إنجاز “المهمة الرئيسية”، وهي ما زالت قيدَ صراعٍ متفجرٍ ومتصاعد.

رافق الاحتلال ونجم عنه أكبر عملية نهب، بل انتهاب، في التاريخ مذّ غزت جحافل هولاكو الهمجية بلاد الرافدين. وقامت إدارة الاحتلال في ظل حاكمها المدني غير المتمدن بول بريمر وخلفائه من الجنرالات الأمريكيين والحكام العراقيين السائرين في ركابهم بسلسلة رهيبة من التدابير والإجراءات السياسية والأمنية لتوطيد الاحتلال، ليس أقلها حلّ الجيش العراقي، وتسريح عشرات آلاف الموظفين، ونهب ثروة العراق من الآثار والموروثات الحضارية، وسرقة مليارات الدولارات من واردات خزانته المالية في صفقات مخزية، وإلزامه بموجبات مالية جراء عقود واتفاقات ومقاولات بأرقام فلكية، وتدمير قاعدته الصناعية، واغتيال نخبة وازنة من علمائه وخبرائه، وتفجير حروب أثنية بين أعراقه، وإثارة فتن طائفية بين أديانه ومذاهبه، وإقامة نظام حكم فيدرالي ذي طابع تقسيمي في ربوعه، وتهجير بعض سكانه (أكثر من ثلاثة ملايين) إلى أقطار مجاورة، وتشريد البعض الآخر (نحو مليونين) داخل البلاد نفسها، وتنظيم مذابح دورية ضد المدن والبلدات التي تندلع فيها انتفاضات ضد الاحتلال، ونهب ملايين أطنان النفط يومياً لمصلحة أركان إدارة الاحتلال ومن يسير في ركابهم من متزعمي قوى الأمر الواقع والعصابات، ومباشرة “عملية سياسية” هدفها تدجين قوى الممانعة وتسويغ الاحتلال والسعي لعقد معاهدة بصيغة “اتفاق استراتيجي” بين الولايات المتحدة والفئة الحاكمة لتحلّ محل تفويض الأمم المتحدة الذي ينتهي في نهاية العام الحالي.

يتضح من شهادتي سفير واشنطن في بغداد ريان كروكر وقائد قواتها في العراق الجنرال ديفيد بترايوس أمام الكونجرس أن مقاومة الاحتلال مستمرة ومتصاعدة، وأن الإنجازات الأمنية المتحققة هشة ويمكن أن تتبخر، وأن لا سبيل إلى سحب قسم من القوات هذا الصيف كما كان بوش قد وعد الشعب الأمريكي، وأن سوريا مترددة في الجهد المبذول لإحباط محاولات “المقاتلين الأجانب” التسلل إلى العراق، وأنها ما زالت تؤوي ممولي حركات التمرد العراقية، وأن إيران تقوم ب”تقويض جهود حكومة المالكي لإحلال الأمن والاستقرار من خلال تدريب ودعم عناصر الميليشيات المتورطة في العنف”، وأن حزب الله اللبناني يتولى تدريب مجموعات قتالية يطلق عليها اسم “المجموعات الخاصة” وهي تقوم “بقصف المنطقة الخضراء (في بغداد) بالصواريخ”.

في موازاة هذه الاتهامات الأمريكية، تحدث تطورات لافتة في المشهد العراقي أبرزها ثلاثة : الأول اتساع المعارضة للاحتلال ولحكومة نوري المالكي داخل أهل الشيعة وتنظيماتهم السياسية، واتساعها أيضاً داخل أهل السنّة بتراجعهم عن تأييد “مجالس الصحوة” التي كان الاحتلال قد أقامها لمواجهة المقاومة العراقية تحت ستار التصدي لتنظيم “القاعدة”. الثاني توحيد تنظيمات المقاومة العراقية المتعددة التوجهات في جبهتين رئيسيتين، واحدة ذات طابع قومي عام والأخرى ذات توجّه إسلامي عام، وانخراط عناصر مقاتلة كثيرة شيعية الانتماء في كلا الجبهتين سواء في بغداد ومحافظات الفرات الأوسط أو في الجنوب. الثالث اضطلاع “جيش المهدي” بقيادة السيد مقتدى الصدر بدور متعاظم التأثير، سياسياً وعسكرياً، في مقاومة الاحتلال وحكومة المالكي في مختلف أنحاء العراق، ولاسيما في البصرة وبغداد.

إذ ترتسم الملامح الرئيسية للمشهد العراقي على النحو السالف الذكر، فإن السؤال الذي ينهض في ضؤ ذلك كله هو: ماذا يمكن أن يحدث، وبالتالي ما العمل؟

يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة ليست في وارد الانسحاب من العراق قبل عقد “اتفاق استراتيجي” جرى كشف مسودته في جريدة “ذي غارديان” البريطانية قبل أيام. يهدف الاتفاق إلى تشريع التزام عسكري أمريكي غير محدد زمنياً بالبقاء في العراق، وبشن عمليات عسكرية داخل أراضيه عندما تدعو الحاجة، وتوقيف أشخاص لضرورات أمنية ولفترات غير محددة، من دون أن تنطوي هذه الترتيبات، ظاهراً، على إقامة قواعد عسكرية دائمة.

يتطلب مشروع الاتفاق هذا، بطبيعة الحال، وجود طرف عراقي حاكم موافق على توقيعه والتزام أحكامه، ويبدو أن واشنطن قررت اعتماد نوري المالكي ومن يرغب من القوى والشخصيات في الائتلاف الحاكم ليكون شريكها العراقي في هذا المشروع الشديد الخطورة. غير أن أركان الائتلاف الحاكم لم يفصحوا بصورة واضحة بعد عن موقفهم من مضمون مشروع الاتفاق ومدى استعدادهم لالتزام أحكامه وتنفيذها. أما قوى المعارضة والمقاومة، وفي طليعتها “جيش المهدي”، فقد جهرت برفضها الحاسم للمشروع، كما أكدت بحزم إصرارها وبالتالي تصميمها الجهادي على طرد الاحتلال وصنائعه بلا هوادة.

الحق أنه ليس في مقدور قوى المعارضة والمقاومة إنجاز مهمة التحرير في ظل موازين القوى الراهنة ووضعية العلاقات السائدة بين أطراف المقاومة. يقتضي، والحال هذه، التوافق على نهجٍ للعمل في الحاضر والمستقبل المنظور، لعله يقوم على مرتكزات ثلاثة، سياسية وعسكرية وإقليمية.

سياسياً، لا بدّ لقوى الممانعة والمقاومة، بشتى مذاهبها ومشاربها وتوجهاتها وتكتلاتها، من التحاور والتوافق على تشخيص مشترك للوضع الراهن، وللمهام الرئيسية الواجب إنجازها، والوسائل والآليات الأفضل والأفعل لتحقيقها، وبالتالي إقامة جبهة وطنية عريضة ببرنامج مرحلي متطور للكفاح المشترك، تلتزم بتنفيذه القوى السياسية والميدانية والمدنية المنضوية في الجبهة. إن من شأن الجبهة الوطنية العريضة وبرنامجها وكفاحها ترميم الوحدة الشعبية وتفعيلها وتجاوز العوائق والحواجز التي أقامها الاحتلال.

عسكرياً، يقتضي وضع استراتيجية مرنة لمقاومة الاحتلال وحلفائه في الداخل، تكون لها أهداف ثلاثة: ضمان التنسيق بين قوى المقاومة لتفادي أي احتكاكات أو صدامات في مختلف مسارح العمل والجهاد، والحرص على أمن المواطن وسلامة المجتمع من حيث هما غاية قائمة بذاتها من جهة وشرط لإشراك المواطن والمجتمع في مواجهة الاحتلال وحلفائه من جهة أخرى، والتركيز على قوات الاحتلال لإلحاق أشد الخسائر البشرية والأضرار المادية بها.

إقليمياً، يتوجب على قوى الممانعة والمقاومة أن تحدد، في ضوء برنامجها المرحلي واستراتيجية مواجهتها للاحتلال، سياستها وبالتالي طلباتها من دول الجوار الصديقة والحليفة. من المهم جداً أن تتفاهم مع حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران على أن أي تعاون، سياسي أو لوجستي، معها يجب أن يتمّ في إطار المحافظة على وحدة العراق وعروبته وسيادته وانتمائه الإسلامي، وألا تستخدم الساحة العراقية في مواجهة الولايات المتحدة إلا في ظل شرطين صارمين: تكامل الأهداف الإيرانية مع الأهداف العراقية وتنسيقها في عملية المواجهة، وقدرة العراق، شعباً ومقاومةً وموارد، على التحمّل والصمود. كما يقتضي إرساء علاقات تواصل وتعاون مع سوريا في إطار الهوية القومية الواحدة والانتماء الإسلامي، والتعاهد مع قوى المقاومة الناشطة في لبنان وفلسطين على خطة مواجهة متكاملة ضد الاحتلال الأمريكي الصهيوني، والحرص على أفضل العلاقات القومية والسياسية مع سائر الدول العربية لتعزيز العمل العربي المشترك وصون المصالح العليا للأمة.

هل من سبيل آخر؟

التعليقات