31/10/2010 - 11:02

بعد غزة: العودة إلى ما قبل 1967../ جميل مطر*

بعد غزة: العودة إلى ما قبل 1967../ جميل مطر*
هل بالغ المعلقون في التعليق على أحداث فلسطين وتحليلها واستشراف نتائجها؟ أم أن الأحداث فعلاً خطيرة، ليس فقط لفلسطين أرضاً وشعباً ومسيرة ولكن أيضاً لنا جميعاً أهل هذه المنطقة، حكومات وشعوباً؟

جمعني لقاءان أحدهما في ابوظبي عاصمة الإمارات والثاني في العاصمة الأردنية عمان مع أشخاص أعرف أنهم من أكثر العارفين بتفاصيل الأحوال في الشرق الأوسط ومن القادرين أن يكونوا موضوعيين في وقت عزت فيه الموضوعية. خرجتُ من اللقاءين وقد ازددت اقتناعاً بأن العرب وصلوا إلى موقع على الطريق وضعت عليه علامة مرور تحذر من الاستمرار فيه، وإلى جانبها علامات أصغر إحداها تحذر من أحجار وصخور تتساقط وأخرى من تربة تتهاوى وثالثة من طريق صاعدة بانحراف شديد ورابعة من عصابات وجماعات قتل واختطاف وخامسة من متاريس إسرائيلية للتفتيش والاعتقال، وتنصح واحدة منها بالعودة إلى الوراء، وهي في الحقيقة تأمرهم بذلك أو تجبرهم فلا طريق أخرى صالحة للسير على صعوبتها سوى تلك التي أتوا منها.

هكذا بدت الصورة في اللقاءين إذ أخذت مواقف الدول العربية وسلوكياتها خلال الأزمة وبعدها حيزاً كبيراً في المناقشة بحثاً عن أدلة تؤكد حال الانسداد. وسأحاول في السطور القليلة الآتية عرض خلاصات الآراء التي طرحت وأسمع أنها تتكرر في أماكن أخرى.

أولاً: عاد حديث التدويل يهيمن على أجواء صنع القرار في عواصم العرب والغرب معاً، وليس سراً أن تدويل الأمن في المنطقة اتخذ في السنوات الأخيرة أشكالا مختلفة، منها الشكل الموجود تحت عنوان قوات دولية في أفغانستان والعراق ولبنان وشكل آخر تحت اسم قوات شبه دولية في الصومال وسيناء، وقوات دولية تتشكل لاحتلال أقاليم في السودان، وقوات خاصة أميركية ومتحالفة في شمال أفريقيا وإقليم الساحل. هكذا يكاد يكون الغرب استكمل «عسكرة» الشرق الأوسط دولياً أو أميركياً، وإن بقيت فلسطين حتى الآن رهن حصيلة النقاش الدائر حول التدويل، وأظن أن إسرائيل كانت، وما زالت، الحائل الأهم الذي يمنع إقامة قوات دولية في الضفة أو غزة، فالقوات الدولية، إن وجدت على أراض فلسطينية لأي سبب، سوف تعني أن إسرائيل لم تعد في حاجة لدعم مالي وبالأسلحة والسياسة من الغرب.

لن تكون إسرائيل، في ظل الوجود العسكري الدولي، دولة مهددة من جيرانها فتسقط حجتها الأزلية بأنها أمة مهددة. وأعتقد أن حكومة مصر ستتردد في الأمر، إن كان لها في الظرف الراهن أن تبدي رأياً أو تقرر أمراً، فالقوات الدولية إن وجدت في غزة تبطل حجة مصر في يوم قريب أو بعيد إن هي رغبت في استعادة سيادتها العسكرية كاملة على سيناء وصولاً إلى الحدود مع غزة والنقب، لتتحقق لها إعادة ترتيب سيناء على نحو يضمن سلامة الأمن القومي المصري.

لقد كانت أحداث غزة فرصة جديدة، أتاحت للمعلقين العرب اكتشاف خريطة حديثة للمنطقة، وبخاصة هذا الجزء الممتد من سيناء إلى بغداد، إذ بدت مدولة عسكرياً معظم المواقع والممرات والطرقات والمياه العربية.

ثانياً: أسفرت أحداث غزة، وفلسطين عموماً، عن تدهور جديد في العلاقات، حيثما وجدت، بين حكومات العرب والتيارات الإسلامية فيها. ففي حالات معروفة ازداد الشك ميلاً نحو اليقين بين طرفي العلاقة، طرف يتوقع انقلاباً على نمط «انقلاب حماس»، كما يطلق على سلوكيات «حماس» في الآونة الأخيرة، وطرف يتوقع تصعيداً في الاستعداد لانقلاب استباقي ضد التيارات الإسلامية. يحدث هذا بينما صارت أغلبية أعضاء النخب الفكرية والسياسية تتوقع نكوصاً في كل المنطقة عن وعود الإصلاح السياسي وعودة عن إجراءات الانتقال إلى الديموقراطية، وإن كانت شكلية.

بالإضافة إلى ذلك، لاحظنا، أو أكثرنا على الأقل، أن الأحداث في فلسطين وما أثارته من عبارات وشعارات لتأجيج المشاعر أو إشعال الفتن الوطنية مثل قيام إمارة أو حكومة إسلامية على حدود مصر أو الأردن أو غيرهما، أثارت حساسيات كانت راقدة. قيل وتردد في التأجيج المضاد وبنيات مبيتة السؤال عن التناقض بين اعتراض حكومة دولة تدين بالإسلام على قيام إمارة أو حكومة إسلامية على حدودها بينما هذه الحكومة ذاتها تقبل التعامل مع حكومة يهودية، ولكن تردد ما هو أخطر باعتبار التذكير بعقد الستينات أي بالعودة إلى ما قبل 1967. تردد السؤال عن السبب وراء الاعتراض على وجود إمارة إسلامية في فلسطين، بينما تقوم حكومات إسلامية في المنطقة. إنها لغة لم يستعملها اللسان العربي منذ زمن «الحرب الباردة» بين العرب.

ثالثاً: كما أصبح التدويل العسكري للمنطقة حديثاً شائكاً تنشغل به اللقاءات وتكتب عنه التعليقات باعتباره شكلاً من أشكال العودة إلى السيطرة الاستعمارية الغربية على المنطقة، أصبح الفصل النهائي بين الضفة وغزة الحديث القرين له باعتبار هذا الفصل شكلاً من أشكال العودة إلى الوضع القائم قبل 1967، وهي فوق هذا عودة ناقصة، فلن تعود الضفة كما كانت بكامل أراضيها ومدنها وقراها، ولن تعود غزة كما كانت أقل فقراً، وإن عادت فلن تكون بالشروط ذاتها ولا بمصر ذاتها ولا سيناء ذاتها. ستعودان، إن عادتا، بيأس أشد وضغينة أفظع وكراهية أعمق للإنسانية والعالم.

والمعنى أو الهدف واضح، فالمسؤولية التي ستتحملها الأردن ومصر، مسؤولية ضخمة وتتجاوز قدرتهما، كما نراها الآن تتجاوز قدرة الولايات المتحدة والحلف الاطلسي. ستبقى حالة أميركا في العالم الإسلامي درساً لكل حكومة عربية أو إسلامية تلجأ إلى تفضيل ممارسة القمع والظلم والإرهاب المضاد على ممارسة العنف المشروع، وساعتها لن تكون غزة أو الضفة سوى «الذاكرة» اليومية للقوى المغلوبة على أمرها في المنطقة، أو المتمردة أو المعارضة.

رابعا: يصح أحياناً القول إن الدعوة لانعقاد مؤتمر في شرم الشيخ تحضره إسرائيل مع أطراف عربية وفلسطين، ثم انعقاده فعلاً، رصيد يحسب للديبلوماسية المصرية، وربما يصح أيضاً القول إن هذا الانعقاد دليل على دور سياسي ما زالت حكومة مصر قادرة على ممارسته، ويكون على حق ذلك القائل إن انعقاد المؤتمر في حد ذاته في ظل ظروف كتلك التي نشهدها وبالشكل الذي جرت به الدعوة يسيء إلى دور مصر أكثر مما يفيده، فالمؤتمر في نظر كثيرين بدا كلقاء حلفاء أو قادة حلف على طريق التشكيل وفي انتظار «معتدلين» آخرين ينضمون إليه لاحقاً، وأستطيع أن أفهم منطق الواقعيين الذين يريدون كسب ود أميركا ورضاها في هذه المسألة وسكوتها في مسائل أخرى.

أعتقد أن أدوار الأمم أو الحكومات لا تصنعها المؤتمرات ولا تضيف إليها أو تنتقص منها، وإنما النتائج المباشرة التي تنجم عن انعقادها والتي تدل على أمرين: كفاءة الإعداد للمؤتمر وتوافر قدرة التأثير وحسن تشغيلها للحصول على نتائج معينة، وأكاد، بالعودة إلى مؤتمرات شرم الشيخ وزيارات القادة الإسرائيليين، أجزم بأن العائد لقضية فلسطين والعراق والسلاح النووي والجاسوسية ولبنان والاستقرار الداخلي في مصر ومكانة مصر الدولية والإقليمية لم يكن مجزياً، وربما لا يستحق الثمن الباهظ الذي ناء بحمله الدور المصري ومؤسسات هذا الدور.

مصر خسرت من وراء انعقاد مؤتمر شرم الشيخ ولم يكسب الفلسطينيون، وأعرف بالتأكيد أن سمعة «فتح» تضررت أشد الضرر حين بدت أمام الرأي العام العربي الإسلامي أنها تحالفت مع إسرائيل ضد إقليم غزة شعباً وحكومة، وإن حاول رئيسها إنكار ذلك.

عادت أمور في الشرق الأوسط إلى أوضاع كانت عليها قبل حرب 1967، وعادت أمور أخرى إلى أوضاع أسوأ مما كانت عليه قبل حرب 1967. عادت الضفة وغزة منفصلتين عن بعضهما بعضا، وعادت ملامح حرب باردة عربية كانت مشتعلة آنذاك، وعاد الدور المصري مقيداً، قيدته وقتها حرب اليمن والوضع العسكري الدولي في سيناء، وعادت إسرائيل تستعد لضربة عسكرية قاصمة بدعم من الولايات المتحدة.


"الحياة"

التعليقات