31/10/2010 - 11:02

بمناسبة رأس السنة: عن طفولة مهددة / عزمي بشارة

بمناسبة رأس السنة: عن طفولة مهددة / عزمي بشارة
لا يمكن اعتبار "وضع اطفال العالم للعام 2005"، وهو تقرير سنوي ل"يوينسيف" صدر في هذا العام تحت عنوان "طفولة مهددة"، بطاقة معايدة بمناسبة رأس السنة. ولكنه يكتسب أهمية وراهنية خاصة في هذه الأيام بالنسبة لكاتب هذه السطور لاعتباري العيد بالمجمل، أي عيد أكان دينيا أم مدنيا، شأنا للأطفال، أو هو في حالة الكبار ظاهرة إصرار البالغين على الطفولة. لا أكثر. وما دام العيد فرح طفولة فإن تقرير "يونسيف" ينسف أساس الغطرسة العالمية في عيد رأس السنة إذ يذكرنا بأطفال بلا أعياد.

الطفولة حالة براءة انسانية لا تتكرر، مرحلة من البراءة من الشر تمر ولا تعود. ولذلك ربما يحق لها ما لا يحق لغيرها. ولكنها على عكس ذلك تحصل على اقل مما يحق لمراحل غيرها. إذ يبقى الانسان غير قادر على القيام بنشاط يسد حاجاته الأساسية حتى جيل متأخر نسبة للحيوانات. فهي جسديا حالة عجز وعدم قدرة. ولذلك فهي أكثر تأثرا من غيرها بآفات النظام الاجتماعي وبالحروب والامراض وغيرها، لانها معتمدة بشكل تام على الآخرين ولا تعوض بنشاطها الذاتي عن انعدام العدالة. ورغم أن الاطفال هم الاقل ذنبا في الحروب، والاصح أن يقال انه لا ذنب لهم في الحروب وفي الاوبئة وفي آفات السياسات الاجتماعية والفقر والإفقار إلا أنهم الأكثر تأثرا بها ومعاناة منها.

ويضاف الى تأثرنا بألم وبكاء الأطفال نتيجة لبراءة من يتألم، أي يضاف الى شعورنا أنه لا يستحق أن يتألم، ذلك الشعور المحبط والمخيف بعجز هذا المخلوق الصغير البريء الذي يعاني. مما يضاعف من تضامننا مع معاناة الطفل. ففي كل دمعة طفل يلمع نداء استغاثة. ليس لدي شك في ذلك.

تثبت المعاناة الإنسانية عجز البشر عموما وضعفهم ووهنهم أمام الألم النفسي والجسدي. ولأن الطفولة حالة براءة وعجز فإنها إنسانية خالصة. وهي ليست معاناة اختيارية، ولا هي نابعة عن استعداد لدفع ثمن موقف سياسي او أخلاقي أو ثمن نضال وطني أو غيره. فالطفولة لم تسأل ولم يؤخذ رأيها، لا في الاستعمار ولا في النضال ضده، لا في الاخلاق ولا في التضحية من اجلها. وكما ان معاناة الاطفال ليست مترتبة على خيار طوعي، كذلك فإنها ليست نتيجة عقوبة على ذنب اقترفه طفل. فالطفولة لا تذنب ولا تعاقب. معاناة الطفولة محايدة إذًا. ولأنها محايدة ليس بوسع الإنسان أن يكون محايدا تجاهها. لا يستحق الإنسان ان يعتبر إنسانا اذا كان لا مباليا تجاه معاناة الأطفال.

ولم ولن يتخلص مجتمع من معاناة الأطفال غير المبررة، بسبب تجاوزات في عنف الأهل أو المدرسة او المجتمع، أو بسبب تعرض الطفل الى عنف المجتمع وقيمه الاستهلاكية في الإعلام وغيره، أو بسبب الانحرافات السادية على أنواعها. ولكن هنالك فرقا بين العنف الاستثنائي والمعاناة المدانة التي يعاقب القانون مسببيها وبين أنظمة اجتماعية سياسية ونظام دولي من عدم العدل ومن الإفقار تنتج أطفالا أيتاما أو مهجورين، متروكين بلا مأوى وبلا أمن وبلا اسم ولا تاريخ ميلاد احيانا، يبيتون سوية ويتجولون مثل عصابات شوارع في مدن البرازيل والمكسيك والأرجنتين يتعرضون إلى عنف المشغلين من المجرمين والى عنف الشرطة وفرقها التي تلاحقهم وتطلق النار عليهم كالكلاب وكنشالين او كمشردين يعانون من عنف ونبذ المجتمع لهم، أو كأيدٍ عاملة صغيرة في الهند وباكستان وجمهوريات آسيا الوسطى تصلح لنسج السجاد بحياكة ناعمة وقطب صغيرة من خيوط الحرير، أو يخطفون لغرض تصوير أفلام للبيدوفيليين المنحرفين جنسيا.

تقاس حضارة المجتمع، ودرجة تطوره بكيفية تعامله مع الأطفال، أي إذا كان يعوض عن عجزهم غير المغطى عائليا نتيجة لفقر او جهل او عجز من قبل العائلة بعناية مجتمعية، وإذا كان يرفض ان تقذفهم قوانين السوق خارجه على شكل مشردين او فقراء او جياع. فالمجتمع الحضاري إذا كان رأسماليا أو اشتراكيا هو مجتمع يرفض إخضاع الطفولة البريئة والعاجزة الى فعل قوانين السوق الحصري والربح والخسارة.

في مناطق ظلال عالمنا المعتمة يعيش ملايين الاطفال الذين لا يأبه الكثيرون لمصيرهم.

ولا ادري اذا كنا سوف نختلف حول تعريف الطفولة علميا وعلى رسم حدودها ونسبية هذه الحدود تبعا للمكان والزمان والتاريخ، خاصة ازاء التفاوت في الظرف وإزاء أطفال يكبرون لشدة وكثافة المعاناة الجسدية او يهرمون نفسيا من دون نضج ومن دون المرور بمرحلة الشباب، أو يتعبون مما رأوا من دون أن ينمو جسدهم الغض.

ورغم الاختلاف على تعريف حدود الطفولة علميا يحق للطفولة وحدودها في الجيل ان تكون قيميا، أن تكون أخلاقيا عالمية، او أن تعولم حدودها ما دامت قد تمت عولمة الشر والاستغلال و"الاستهلاك حتى الهلاك" فلماذا لا يعولم تعريف الطفولة؟. لماذا لا تعولم حدودها في السن والجيل؟. ولماذا لا يعولم اعتبار تجاوز هذه الحدود جريمة بحق الانسانية؟. عولمة حدود الطفولة يجب ان تنجب حراس حدودها عالميا، وهؤلاء أهم بكثير من قوات التدخل السريع ومن شن الحروب لأسباب امبراطورية. حراس حدود الطفولة هم اولئك الذي يحمونها من العنف ومن اليتم ومن التجارة ومن الأوبئة التي تشكل عدوانا اجتماعيا حقيقيا على الأطفال، فالأوبئة التي تحصدهم ليست ولم تعد ظاهرة طبيعية منذ أن توفر المصل الواقي منها أصبح عدم توفيره للأطفال عدوانا اجتماعيا عليهم.

ويبدو ان "يونسيف" بتفكير أو من دون تفكير قررت حدا أو سنا يعتبر الانسان ما دونه طفلا. ولذلك تمكنت من أن تحصي عدد الاطفال في العالم بما يربو على 2.2 مليار طفل، يعيش 1.9 مليار منهم في الدول النامية. ويبدو ان المنظمة اعتبرت الفقر أيضا مسألة عالمية فقررت أن مليار طفل يعيشون في حالة من الفقر، أي أن كل طفل ثان في العالم هو طفل فقير.

ولنتخيل كمية المعاناة الانسانية العاجزة في الرقم الذي رمته المنظمة في وجوهنا في تقريرها الأخير، إذ يعيش 640 مليون طفل في الدول النامية من دون مأوى، أي أن طفلا واحدا من بين كل ثلاثة أطفال يعيش مشردا من دون سقف فوق رأسه، وبالتالي من دون أهل ومن دون أي نوع من الأمان، ولنتخيل ماذا يتعرض له هذا الكم من الأطفال نفسيا وجسديا بسبب هذه الحقيقة، أي الحرمان من المأوى. ولا تتوفر مياه صحية ل400 مليون طفل، أي لا تتوفر مياه صالحة للشرب لطفل من بين كل خمسة أطفال في العالم، ولا تتوفر خدمات صحية لائقة ل270 مليون طفل، أي لطفل واحد من بين سبعة أطفال.

وقد بلغ عدد الاطفال الذين توفوا في العام الذي سبق صدور التقرير دون بلوغ سن الخامسة 10.6 مليون؛ وهو عدد يساوي العدد الكلي للاطفال في فرنسا واليونان وايطاليا. وكان بإمكان الطب او المجتمع أو تحسين الظرف الغذائي أن يمنع وقوع معظم "حالات" الوفاة هذه. عدد الأطفال الذين يتوفون يوميا دون بلوغ سن الخامسة هو 29158. منها 3900 حالة وفاة تحصل يوميا بسبب عدم توفر المياه؛ أي 1.4 مليون طفل يتوفون سنويا لهذا السبب وحده. ومن الواضح ان هذا موت ممكن منعه لو توفرت المياه التي تتحول في مواسم معينة الى فيضان وطوفان في نفس الدول التي يموت فيها الأطفال نتيجة لشحة المياه. أي انه لو توفرت البنى التحتية اللازمة لدى بعض الدول لأمكن منع موت ملايين الاطفال قبل بلوغهم سن الخامسة.

ومن بين العشرة ملايين طفل الذين لا تسنح لهم فرصة النمو والحياة الى ما بعد سن الخامسة 2.2 مليون طفل يموتون سنويا في حالة معاناة من مرض كان يمكن انقاذهم منه عبر التطعيم بمصل من الامصال المتوفرة وغير الثمينة وذلك بكلفة طائرة اف 15 واحدة او بكلفة غيرها من أدوات الدمار في هذا العالم. ولا ادري كم خطابا وكم مؤتمرا وكم ندوة تسخف وتقزم هذه الحقيقة المليونية التعسة. 32% من الأطفال الذين يولدون في اليمن يولدون دون الوزن الطبيعي؛ وفي السودان 31%؛ وفي الهند 30%؛ أما في السويد فالنسبة هي 4%. ونسبة الاطفال دون الوزن الطبيعي بسبب سوء التغذية في جنوب اسيا 46%، أي نصف الأطفال تقريبا، وفي الصحراء الافريقية 29%؛ في الشرق الاوسط وشمال افريقيا 14%؛ وفي امريكا الاتينية 7%. يجري هذا في عالم يعاني نصفه الشمالي من مصيبة معاكسة وهي زيادة السمنة وزيادة إحتمالات المرض الناجمة عنها لدى اطفال بنفس الجيل وبنفس العجز والبراءة.

عدد الاطفال المتوفين قبل بلوغ الخامسة في اليابان 5000 طفل. يولد الطفل في اليابان ومدى حياته المتوقع له (سنة 2003)هو 82 عاما. في حين أن عدد الاطفال المتوفين قبل بلوغ الخامسة في زامبيا هو 82000 طفل. حيث يولد الطفل ومدى الحياة المتوقع له (بموجب ارقام سنة 2003) هو 33 عاما.إذا كان هنالك قدر فهذا قدر بالنسبة للطفل لم يختره، ولكني اشك إذا كانت هذه أقدار المجتمعات المذكورة أن يكون معدل الأعمار في بعضها اقل من نصف بعضها الآخر. هذه حقيقة اجتماعية اقتصادية يمكن تغييرها وعلى كل حال فإن الأطفال يولدون إليها.

هنالك 15 مليون طفل يتيم بسبب وفاة الأهل من الإيدز في عالمنا حاليا، ولا ندري كم منهم يحمل المرض. وهو على كل حال عدد مرشح للتزايد اذا ما أخذنا بعين الاعتبار انه في بوتسوانا وحدها أكثر من ثلثين، بل ما يقارب ال 40% من البالغين، بين سن 15- 49 يحملون فيروس الايدز. 15 مليون طفل يتيم، هو عدد يساوي العدد الكلي للاطفال البالغ 15.2 مليون في المانيا؛ ويربو على مجمل عدد الاطفال في المملكة المتحدة 13.2 مليون.

خلال السنوات الثلاثين الاخيرة ازداد العمر المتوقع للانسان في العالم بسبع سنوات: من 56 الى 63.اما في الشرق الاوسط وشمال افريقيا فازداد العمر المتوقع للانسان 16 عاما منذ 1970. ومقابل ذلك فإن عدد الدول التى نقص فيها معدل حياة الانسان منذ 1970 في افريقيا 18دولة.

يفترض ان تشغل هذه الحقائق العالم المتحضر، والانسانية جمعاء، أكثر مما يشغله وتشغلها اخبار "الحرب على الإرهاب"، وأن تحتل من اهتمامه حيزا اكبر من أخبار نجوم الفن والسينما وكرة القدم. ولكن سوف نجد من يستغرب حتى كتابة مقال واحد عشية رأس السنة والاضحى يذكر بمن لا عيد لهم في هذه المرحلة، ويذكر أن معاناة الاطفال من الجوع والمرض مقابل هلاك آخرين الجسدي والنفسي نتيجة للافراط في الاستهلاك والبطر في عالم الوفرة ليس قدرا مقدَّرا بل نتيجة لسياسات دول منفردة وسياسات ونظام دولي يفوق ارهابه ضد الأطفال أي ارهاب.

كل عام وانتم بخير

التعليقات