31/10/2010 - 11:02

بين القول والواقع في الشأن الفلسطيني لعرب48../ ناصر السهلي*

بين القول والواقع في الشأن الفلسطيني لعرب48../ ناصر السهلي*
ظاهريا، يبدو ما جاء في مقدمة الدكتور عزمي بشارة للطبعة الثالثة لـ"العرب في اسرائيل رؤية من الداخل" والمنشور في موقع "عــ48ـرب"، (نشرت الطبعة الثالثة في هذه الأثناء) يبدو وكأن المفكر العربي بشارة لم يشأ أن يصوب في مقاربته باتجاه الواقع كما هو بشخوصه وسطوره المقروءة في الداخل الفلسطيني بكثير من التشويه وقليل من الشفافية، ربما لاعتبارات عهدناها عند د.بشارة في تناول خصوصية الشأن الفلسطيني داخل الخط الاخضر. وهو بالمناسبة خطاب يشمل تجربة بشارة حتى في أكثر اللحظات التاريخية حرجا على امتداد السنوات العشرة الاخيرة من الفكر السياسي الذي يطرحه في تناوله الأشمل والأوسع للواقع العربي عموما.

يتأكد الأمر في التحليل المُقدم عن بنية الدولة الاسرائيلية ونقده اعتبار البعض الاقلية العربية مجرد أقلية تعيش حالة تمييز وتهميش، والمسألة في جوهرها تكمن في الخطاب والممارسة السياسية اللتين أقدم عليهما تيار ثقافي وسياسي عربي تحت سقف من الخطابين الاستشراقي الصهيوني، في اعتبار هؤلاء ( أصحاب الأرض الأصليون) مجرد تقسيمات دينية، وبالتالي الانخراط في تقديم خطاب استجدائي مقسم وغير موحد. ومن هنا نشأ ساسة ومجموعات بأسماء عربية مرتدة الى تقسيمات فرضتها العقلية الاستعمارية للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين.

من غير المفهوم، تاريخيا على الأقل، في مسار النضال الفلسطيني لتثبيت الانتماء العربي للأرض والشعب الفلسطينيين مقابل كل التزوير التاريخي الذي مارسته الصهيونية السياسية والدينية، أن يتمترس هؤلاء الذين تركوا أنفسهم، وبالتالي شعبهم الذي يدعوون تمثيل مصالحه، في مهب الخطاب الضيق الانتماء، وإن تحت أسماء عربية وأحيانا دينية، وكذا عرضة للتشويه الفكري والسياسي الذي إنعكس بالتأكيد على المصالح الأوسع لعرب فلسطين.

قد أتفهم تماما بأن لا يذهب مفكر عربي فلسطيني بحجم د.عزمي بشارة أبعد مما يمكن لنا وبكل بساطة أن نقرأ ما بين السطور، وبالتالي فإن الفرق الكبير بين القول والواقع في الشأن الفلسطيني لعرب 48 لا يمكن أن تكتمل دورة إكتشافه دون قراءة مقاربة مهمة جدا فيما ذهب إليه الدكتور بشارة في المقدمة المشار إليها أعلاه، علنا نقارب نحن ما أراد قوله بين السطور.

في الفقرة الثالثة يعرض من خلالها بشارة للفهم البنيوي للبعض عن الفلسطينيين العرب، بكل الانتماءات، أصحاب الأرض، على اعتبارهم كجالية تقيم في احدى الدول الأوربية تبحث عن حلول آنية وضيقة ليومياتها بعيدة عن فهم جدلية العلاقة بين مسألة الفهم الصهيوني لوجود "الأقلية" العربية وهوية الدولة. ومع الأسف الشديد ضيع الكثيرون الوقت والجهد لفهم ما كان يقدمه الدكتور بشارة، وحصره البعض في مجال ضيق يختص فقط بعرب 48، بينما أثبتت السنوات أن جل النقد الذي وجه لـ"رؤية من الداخل" لم يكن في الواقع نقدا فكريا بقدر ما هو جولة أخرى في اثبات ما ذهب اليه المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي عن طبيعة التفكير العربي. وحقيقة هي مسألة السلبية التي يراد للإنسان العربي المتلقي أن يبقى أسير مسلمات ومحظورات ممنوع الاقتراب منها وشخصنته للعلاقة بين الفكر والفعل والتركيز على تخطئة من يحاول أن يقدم قراءة مختلفة مع تلك المسلمات والخروج من ظلمات "ما باليد حيلة".

لمست شخصيا، وبالتجربة العملية، أن فكرا يقوم على التساوق، بحسن نية ربما، مع التصنيف الصهيوني للعرب الفلسطينيين هو فكر عدمي لا يألو جهدا في استخدام كل الأدوات والشخوص المتاحة للإبقاء على عملية ضيقة من الانتماء. بمعنى واضح وصريح أكاد لا أفهم معنى الشعار القائل "أصوات المسلمين للمرشحين المسلمين" في ظل وضع غير طبيعي في ظل دولة تمارس الابارتهايد بصنوف أخطر من ممارستها في جنوب افريقيا سابقا. بل والأخطر في حسن نية من ينطلق من "التعددية" المتاحة في ظل النظام السياسي الاسرائيلي أنه، وهنا أجتهد في قراءتي للموضوع، لا يدرك بأن تصنيفا صهيونيا للفلسطينيين العرب على النحو الذي يقسمهم الى تقسيمات اثنية ومذهبية واهية يعد وضعا مريحا جدا لرؤية اسرائيل لنفسها، وبالتالي للكيفية التي تسوق وتعرض نفسها أمام العالم.

وإسرائيل التي نتحدث عنها ونعايشها، بعيدا عن الرومانسية التي يفترضها البعض، لوحظ تصاعد خطابها في السنوات الأخيرة نحو مطالبة مكشوفة ومفضوحة للإعتراف بها كدولة يهودية، وهي دعوات كانت أصلا قائمة لدى عدد من الكتاب الصهاينة في أواخر الثمانينيات وإن حملت طابع المطالبة بالاعتراف بالصهيونية "كحركة تحرر قومي لليهود" مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر وطني للشعب الفلسطيني بمفاهيم مبهمة للعلاقة بين مفهوم التحرر والاصرار على شرعنة وجود إسرائيل على أساس ديني يهودي لليهود، وهو بمثابة تمهيد للطريق نحو ربط آخر لسلسلة طويلة من تصفية مجمل قضية الشعب الفلسطيني، وفي هذا المجال نجد، ومع كل التراجع المؤسف، انعكاسات ما يُصاغ بين المفاوض الفلسطيني والصهيوني على واقع حال الاحزاب العربية في 48، وخطاب صار يرى في مسألة الاندماج الكلي في الدولة الصهيونية مهربا من فكرة الترانسفير بدلا من مواجهة مخاطره بالكثير من الافعال والقليل من الانشائية والعاطفية.

وفي هذا الصدد أيضا يمكن الملاحظة وبالملموس أن قضية الانتماء القومي للشعب الفلسطيني، والمقصود بكل تأكيد الانتماء للأمة العربية، يُراد استبداله بأسرلة تطل برأسها من جديد، مستندة على تراجع الوضع العربي الرسمي ودخول البعض في علاقات علنية وسرية مع إسرائيل وتواصل اللقاءات الفلسطينية- الإسرائيلية، وكأن القضية الفلسطينية ما عادت مسألة وجود وحقوق وطنية مشروعة بقدر ما هي فقط مسألة ما يستطيع هذا الحزب أو الجماعة تحقيقه من مؤسسات دولة تنتهج الأولوية في التضييق على هؤلاء لمصلحة إحلال اليهود ( وغير اليهود) مكانهم. والممارسة البرلمانية على هذا الشكل المقلد لـ"شاس" مثلا، لا تبشر بالكثير مما يحمله المستقبل لأجيال عربية يُراد لها أن تكفر بعروبتها وتنتمي للدولة على أساس حل إشكالية الدولة مع من تعتبرهم مضطرة ربما مواطنيها، في حين ترغب قوى وأحزاب صهيونية في رؤية هؤلاء وقد جرى إزاحتهم عن أرضهم.

إن أي قارئ متواضع يستطيع تلمس مأساة التشتت الذي أصاب الجسد العربي في فلسطين التاريخية، وبدون أن أكرر نفسي انعكست الحالة الفلسطينية (كمنظمة وقوى وطنية) على تجربة نضالية طويلة خاضها عرب 48 في وجه كل أشكال الاقتلاع. وقد أسهمت هذه الأوضاع، شئنا أم أبينا، في زعزعة وخلخلة الذهنية الجمعية للمصير والمستقبل..

في الفقرة الرابعة من المقدمة يعرض بشارة ما لمسناه واقعا. فيكتب د.بشارة ويحاضر عن هذا الواقع الأليم الذي مر البعض عليه كحدث خارج السياق التاريخي لحياة شعبهم، ولنتأمل هذه الفقرة قليلا "... من الانضواء تحت لواء الأحزاب الصهيونية وتشكل "العربي الإسرائيلي" وحتى إقامة أحزاب عربية قولا وإسرائيلية في الممارسة. لقد نشأت قوى سياسية ذات خطابين واحد بالعربية وآخر بالعبرية، كما نشأ في ظل التنافس الانتخابي تحت السقف الإسرائيلي نواب الخدمات الذين يتواسطون بين مطالب المواطن الفرد والسلطة الإسرائيلية الحاكمة بلغتها، أما الموقف الوطني عند هؤلاء فمسألة تُمَارسُ خطابةً في الإعلام العربي".

تحت هذا العنوان تحاول المؤسسة الرسمية الصهيونية، وحتى من خلال أصوات "عربية" في الداخل أن تجعل من الأسرلة أمرا طبيعيا بالتنظير "للخدمة المدنية" كالتفاف على الرفض العربي للانخراط في جيش الاحتلال، وإن كان البعض قد غرد خارج السرب كما ذكرت سابقا، إلا أن مسألة الرفض تأخذ أشكالا وأبعادا تحاول بعض الأصوات والأطراف أن تطبعها بتوزير هنا وانتداب سفير هناك للإيحاء بأن بديل الترانسفير هو الانصهار الكلي في دولة اليهود، إذ لا مشكلة في استمرار الحالة الديمغرافية على ماهي عليه واعتبار عرب 48 مثلهم مثل أي وافد مهاجر غير يهودي.

وفي قراءة العالم العربي لواقع حال الفلسطينيين داخل الكيان الإسرائيلي ثمة ما يثير الملاحظة، فمن ناحية تاريخية لا يمكن القفز عن النظرة المتشككة بمن بقي فوق أرضه وفُرض عليه أن يصبح "مواطنا" تحت تهديد الطرد والملاحقة في ظل حكم عسكري امتد من النكبة إلى أوائل الستينيات من القرن الماضي، وبعد أن اكتشف هذا العالم العربي الحقيقة هيمنت نظرة رومانسية على قراءة العالم العربي لواقع سياسي غير حقيقي لهؤلاء. وهنا يعرض المفكر بشارة في ذات الفقرة الرابعة وبشكل مكثف لهذا المتغير "فقد انتقل قسم من الرأي العام العربي من موقف خاطئ هو تخوين عرب الداخل إلى موقف خاطئ آخر هو اعتبار كل ما يقوله عربي بصوت عال داخل إسرائيل بطولة، وذلك في دولة يتوفر فيها هامش واسع لحرية التعبير، ولا يكلف فيها الكلام كثيرا".

أليس حقيقة قاسية هذا الذي عرضه د.بشارة في كل محاولاته لإثارة الانتباه إلى أن القول شيء والممارسة شيء آخر؟ وبأن التمحيص الدقيق عن الفكر ومقاربته بالممارسة يمكن أن يختصر الكثير لاكتشاف ما هو مذهل وصادم، ليس لمجرد الاكتشاف، بل لغياب الفكر والبرامج الصحيحية لمواجهة الواقع بدل الاستكانة له تحت ستار الهروب منه باتجاهات تنتج عقلا جامدا لا يرى في الأفق سوى ما تقدمه تلك الأحزاب "المشتركة" أو "الفردية" بحجة الدفاع عن المصالح التي يمكن أيضا أن تكون حلولا فردية ومؤقتة وجبانة وفي إطار المجموعة التي تمثلها ( ودائما حسب تصنيفات الحركة الصهيونية منذ البداية للعرب في فلسطين) في مواجهة مشروع إستعماري بحجم المشروع الصهيوني.. وإلا، لو كان الواقع غير ذلك فلماذا كان قسم كبير من شباب الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الخط الأخضر ينأى بنفسه عن هذه التصنيفات ويبحث عما هو أوسع في الانتماء؟ هذا سؤال بحجم جوابه الذي يمكن أن يؤشر إلى الوعي المبكر في صفوف شعب الداخل في فلسطين 48.. وكم من هؤلاء راجع أصلا مواقفه وانتماءاته لتكون أوسع مما كانت المؤسسة الأمنية الصهيونية تريده في ملاحقاتها المستمرة لهم من الورشة حتى الكلية.

نعم أقول أسهمت الكثير من وسائل الاعلام العربية، سواءا بحسن نية أو بالتوافق مع الجو شبه التطبيعي المتدرج، على تقديم الشخوص في القالب الذي نتحدث عنه، لكن في المقابل، وحتى في الوعي المتشكل داخل المدن العربية في فلسطين التاريخية، فإن الأمر لم يعد مسكوتا عنه أو مبهما عند الرأي العام العربي الذي أصبح يملك أدوات التمييز وإن كانت في بداياتها. وهو مشروع يستحق العمل عليه في خضم تعرض الهوية العربية عموما لضربات آتية بلسان عربي تتهم كل من يتحدث عن القومية بأسوأ ما تتحدث عن الخطاب الصهيوني.

في ذات المجال وفي الجزئية المتعلقة بإشكالية الأحزاب العربية، هذا إذا لم نتحدث عن إشكالية العرب في الأحزاب الصهيونية، يُلاحظ الانشغال ببعضها البعض. وبكل ألم أقولها، تفرد بعض الصحف الناطقة باللغة العربية في الداخل الفلسطيني صفحات لتناول شخصيات عربية ترفض التحالف والانخراط في الأحزاب الصهيونية، بل لدى بعض القوى ما يمكن تسميته صحافة صفراء شغلها الشاغل تثبيت التلفيقات التي تؤسس لها العقلية الصهيونية لتحطيم إمكانية توحد الصوت العربي. بل لقد لمست أيضا محاولات مستميتة لتخريب المشروع القومي الديمقراطي الذي يعرف الكثيرون عنوانه العملي قبل النظري، تماما مثلما لعب في وقت من الأوقات ما كان يُطلق عليه "اليسار الصهيوني" لعبة الإخضاع ولو بملاحقة ورفض رفع العلم الفلسطيني، فما بالنا بمشروع أوسع يفضح البنية العنصرية والفوقية للدولة الصهيونية.

تجارب عديدة ومريرة قادها شباب الداخل الفلسطيني مع هذا "اليسار الصهيوني" وكانت دائما تنتج تشابكا بين الشاباك وهذا "اليسار" الذي ظل ينطلق من أرضية الولاء للدولة رغم عنصريتها وفاشية ممارساتها حتى مع أصحاب الفكر والقلم والموقف. لقد أثبتت التجربة أن المشروع الوطني الديمقراطي للعرب في الداخل لا يمكن أن يقوم إلا على أكتاف هؤلاء الشباب ومن اكتشفوا مبكرا أو لاحقا عقم البرنامج الاخضاعي الذي تلون بيسارية مريضة وانتهازية مفضوحة. ومع الأسف مازال البعض يراهن عليه بتحالفات سياسية وانتخابية، بل ويدخل البعض في سياسة دمج البرامج دون اعتبار لتوجهات حزب مثل "راكاح" الذي سقط القناع عنه مبكرا على يد أبناء الحركة الوطنية وحركات شبابية قومية ومفكرين من وزن د.بشارة، الذي عرف أن كل التنظير عن التعايش والديمقراطية لا يمكن أن يتم في ظل اصرار الممارسات الصهيونية الوحشية بحق أصحاب الأرض الأصليين.

من يقرأ يوسي بيلين اليوم سيكتشف الطامة الكبرى التي وقع في شباكها البعض. وإذا كانت التعابير تختلف عن طرح جدعون عزرا وقبله رحبعام زئيفي فليس من المستحيل أن يظهر التوافق في الجوهر. وهنا لست أتجنى على بيلين أو الذين اعتقدوا أنه يمثل حالة أخرى من حالات اليسار الصهيوني، كما يقدم نفسه، فما هو التأثير الذي يمكن أن نلمسه عند حزب ميرتس على سياسة سلب ونهب الأرض ومحاصرة عرب 48 بقوانين عنصرية مخصصة لهم دونا عن كل البشر؟


وبما أني بدأت عرضي هذا بما جاء في مقدمة المفكر العربي عزمي بشارة فإنه ثمة تساؤل كبير يطرح نفسه، سواءا إختلف أو اتفق معنا الدكتور بشارة في طرحه، وهو سؤال محير للكثيرين.. إذ لا يكفي المتابع لكل الملاحقات التي تعرض لها بشارة كنوع من الاغتيال الفكري، أن يطرح البعض قضيته وبخجل أو رفع عتب أو حفظا لماء الوجه... أنا أتحمل مسؤولية كلامي هذا، فلا دور المثقف ولا دور السياسي الريادي الذي أداه ويؤديه بشارة دفع بهؤلاء لأن يأخذوا قضيته والدعوات العلنية لتصفيته بجدية كافية، ليس أمام المجتمع الاسرائيلي، بل المجتمع العربي والدولي.

فالإصرار على التناول الضيق لجدلية العلاقة بين الدولة بأغلبيتها اليهودية والفلسطينيين العرب أصحاب الارض الأصليين يحمل الكثير من المخاطر التي قد نكتشف كارثيتها متأخرين جدا عما يجب.


هناك مسألة تستحق التأمل في مجال عمل الحركة الإسلامية، فمن الجيد تعداد المقابر والقبور والمحافظة عليها. ومن الجيد توثيق و فضح الممارسات بحق المساجد، لكن ألا يمكن للحركة الاسلامية أن توسع قليلا من أفق اهتمامها لتشمل مساحات الأرض المنهوبة والكنائس وكل ما احتوته الأراضي؟ هذا إضافة إلى البعد الانساني في مسألة التركيز على البشر والرفع من قيمتهم ومكانتهم عوضا عن التركيز الخطاب العاطفي الذي يبدأ في مكانه وينتهي في مكانه.

إنه سؤال مطروح وبجدية على الحركة الإسلامية لتنظر حولها وترى أنها مطالبة بالترفع عن الخطاب الضيق الأفق كالذي قرأته بنفسي على الجدران بالنسبة للانتخابات ولمن يجب التصويت. فمثل هذا الخطاب لا يمكن أن يخدم الوقوف بوجه حركة صهيونية هي بالأساس تقوم على تقسيم الآخرين إلى أقليات لتشعر بنفسها كأنها الأقوى في النسيج الذي تشكله الرؤية الأمريكية الممهدة في كل مواجهة لمسألة "الشرق الأوسط الجديد"، بل يمكن العودة إلى تحالفات إسرائيل اللبنانية الانعزالية منذ سبعينيات القرن الماضي لفهم المغزى من الإصرار الصهيوني على خلق نسيج آخر قائم على الانتماء المذهبي والديني الضيق في منطقتنا، وفلسطين في قلب هذه المنطقة التي لا يمكن لا بتاريخها ولا بما تواجهه إلا أن تكون فلسطين التي تتسع لشعبها وبتعددية تحترم عقل الإنسان وحرية الإنسان. ولنا في تجربة المؤسسة الرسمية الصهيونية في تأجيج المشاعر الدينية في قضية شهاب الدين وساحة البشارة لنفهم الدور المنوط بمن يحمل فكرا أوسع من الوقوع في فخ ما تريده الحركة الصهيونية.

من المثير للإنتباه ما جاء على لسان مجلي وهبي في محاولة الرد على الكاتب الاسرائيلي جدعون ليفي حول العرب في الاحزاب الصهيونية.. " كان جدعون ليفي يفضل أن يرى الجمهور العربي والدرزي في دولة إسرائيل يتنازل عن حقوقه باسم "النضال القومي" الذي يثمنه كثيرًا. كان يريدنا جميعا أن نرفع أيدينا في النضال من أجل المساواة ونعتكف في "جيتو" الأحزاب العربية وأن نركز على توزيع المواعظ".

كلام مجلي وهبي تعبير عما ذهبت إليه في طرح النماذج التي تسير وفق التصنيف الصهيوني للعرب الفلسطينيين في 48.. التصنيف الذي يتفاخر من خلاله وهبي، وهو ليس حالة منعزلة في مجمل "السياسيين" المنخرطين في أحزاب صهيونية أو هؤلاء الذين يلعبون لعبة الانتهازية باسم التجمعات القومية. فهل تقسيم العرب إلى دروز ومسيحيين ومسلمين وبدو وأحمديين وبهائيين و.. و.. هو الذي يصل بأصحاب الأرض إلى أن يكونوا متساوين؟ وأية مساواة هذه التي تسخر من النضال القومي العربي في كيان يمارس كل أشكال العنصرية بحق العرب الذين عزلهم لتسهل المهمة؟

فإذا كان أمثال وهبي في الوسط العربي فرحين جدا بانتماءات ضيقة، وهنا لا أعتقد أن العرب من بني معروف يعتبرون أنفسهم خارج الانتماء القومي، بالتفاخر بمرجعيتهم الحزبية الصهيونية التي لا تمنحهم سوى مكانا ليكونوا فيه مجرد تكملة لديكور "الديمقراطية" باسم المساواة، فإنهم يُسهمون بلا شك في المزيد من العزلة وإضاعة وهدر كل النضالات التي يخجلون منها، والتي لولا تاريخها الطويل والمرير لكان أمثال هؤلاء ( حتى من الوسط الذي تحدثنا عنه في السابق المتلطي وراء الدين) خارج الزمن والأرض.

شيء محير أن يكون في الوسط الإسرائيلي من يحمل أفكارا كالتي يحملها ويطرحها ليفي، سواءا كانت جادة أم لا، بينما يشعر المرء بأن عربا لا يملكون الجرأة على مواجهة الواقع بفكر يخرج من عباءة الطائفة والقبيلة والتلطي بالقوي( المؤسسة الصهيونية) ظانا أنه قضية ديمومة وقدر لا يمكن تغييره.

خاتمة

في هذا العرض السريع لانفصام الخطاب السياسي ( والفكري) عند ساسة وأصحاب مشاريع "الأسرلة" في الداخل الفلسطيني، أو التماهي مع "الواقع" باعتباره ثابتا وقدرا، أردت بقراءة متواضعة أن نميز بين ساسة "الدلاليين" أو "الواسطة" ومفكري "ما باليد حيلة" وبين الفكر القومي المنفتح على مجتمع أوسع من التقسيم الضيق.. بل الأوسع رغم كل السوداوية التي يقدمها البعض عن العروبة وكيل الاتهامات لمفكريها بأنهم يقدمون خطاب الستينيات.. وهم يضعون أنفسهم في خدمة خطاب الارتداد الى جاهلية السياسة المنتمية الى الطائفة والعشيرة ( وليس بالضرورة التعريف الكلاسيكي).. وللقول بأن مشروعا فكريا كبيرا يحمله مفكر مثل د.عزمي بشارة.. وبكل تأكيد غيره.. يستحق أن يأخذ مكانه حتى خارج النطاق الجغرافي الذي يتجنى البعض على أنه مُقدم فقط له. إنه الفكر الديمقراطي القومي الذي يتجاوز الحدود ويتقاطع مع كل فكر مقاوم للواقع السيء في زمن أصبحت فيه قصة الانتماء الأوسع للأمة العربية تهمة يخجل البعض من مواجهتها. وفي ظل هذا الفكر التوحيدي لا مناص من توافق أوسع وشامل على برنامج يجابه كل محاولات التفكيك والتركيب التي تمارسها الحركة الصهيونية والكومبرادوريات العربية في كافة المجالات من الاجتماعية مرورا بالثقافية والإعلامية وحتى السياسية وما بينهم من مجالات قد لا تبدو من الاهمية التي تستحق.

إنها مهمة كل مفكر عربي أن يضيف في خضم هذا الصراع المفتوح على العقل العربي إسهاما غير مرتجف ومتردد.. فهذا العقل العربي هو المستهدف لتطويعه وبالتالي إعادة صياغته بما يتماشى وعصرا متخلفا يُراد له أن يغوص أكثر في التخلف.

التعليقات