31/10/2010 - 11:02

تركيا... والانزلاق السياسي../ فاروق حجي مصطفى*

تركيا... والانزلاق السياسي../ فاروق حجي مصطفى*
بعد أن خسر عبد الله غول في الجولة البرلمانية الأولى لترشحه للرئاسة، وبعد أن أوحى غول، بل وأكد أنه سيعمل ضمن الإطار الأتاتوركي، أي سيحافظ على العلمانية الأتاتوركية، عاد الجيش مرة أخرى ليدلو بدلوه في السياسة، وحرّك كل نفوذه في المجتمع. دفع ذلك رجب طيب أردوغان إلى الطلب من الجيش عدم تدخله بالسياسة، وهذا يعني أمرين: أولاً، يوحي أردوغان أن ثمة تطوراً خطيراً قد يحصل في تركيا. هذا التطور، وإن لم يكن انقلاباً عسكرياً، فإنه قد يعرض تركيا لأزمات خطيرة ومعقدة. ثانياً، أراد أردوغان القول بأن ثمة فارقاً بين الديموقراطية الحقيقية التي يؤكد أردوغان دائماً على بلورتها في تركيا، والديموقراطية التي يفهمها الجيش.

في الأمرين، تلوح في الأفق السياسي التركي أزمة سياسية وشعبية. ولعلّ سبب الأزمة هو المواقف التي صدرت عن الجيش بخصوص مرشح العدالة والتنمية وانعكاسات هذه المواقف على الحس الشعبي ومزاجه. بيد أنّ «العدالة والتنمية» كان بإمكانه تجنّب المشاكل، وجذب آراء ومواقف الليبراليين وأنصار وفعاليات المجتمع المدني والحقوقي لو سمع آراء هؤلاء، وقدّم اسماً توافقياً مرضياً من قبل الجميع. عندها كان قد أسهم في تضييق دائرة الجيش وحشره في زاوية ضيقة لا حجة له ولا برهان. والحق أنه لا أحد من العلمانيين ولا من أنصار منظمات المجتمع المدني والهيئات والفعاليات التركية يريد أن يكون عبد الله غول مرشحاً للرئاسة، وذلك ليس تضامناً مع الجيش والأحزاب «العلمانية»، بل لأجل تجنيب تركيا الارتدادات السياسية التي ستنعكس سلباً على الحياة الاقتصادية، فضلاً عن احتمال وقوع انقلاب عسكري يعيدها إلى ما كانت عليه قبل سنوات.

ولا نستغرب أنّ «العدالة والتنمية» يعرف ميول هذه الفعاليات، ويعرف أن هذا الهم هو هم رئيسي لكل المنظمات الإنسانية والحقوقية، ومنظمات المجتمع المدني والفاعلين في حقل الدراسات والبحوث، والعلمانيين الحقيقيين الذين يختلفون في الرؤى والأفكار مع العلمانية التركية (علمانية مصطفى كمال أتاتورك). فهناك شريحة واسعة من المثقفين الأتراك ترى أنه شتان ما بين العلمانية الصحيحة والعلمانية الأتاتوركية. ويعرف أردوغان وغول أن هذه الفئة غير محسوبة على جناحي الصراع، ولا مصلحة لها إن كان المرشح من العدالة والتنمية أو من أي حزب آخر. فهمها الوحيد هو أن تكون تركيا بلداً علمانياً وديموقراطياً يفسح المجال أمام كل الفعاليات وعلى مختلف مشاربها للمشاركة والعمل.

بالمقابل، هناك من يعرف من أوساط الفاعلين في الحقل المدني والحقوقي مبرّرات ترشيح «العدالة والتنمية» عبد الله غول ثانية، ويعرف خوف أردوغان على مستقبل الحزب. فتجديد ترشيح غول يعني لدى «العدالة والتنمية» تجنّب احتمال حدوث انشقاق، بعد أن أصرّ غول على عدم سحب ترشيحه. كما أكّد أكثر من كاتب تركي أنّ الدافع الرئيسي لتجديد ترشيح غول هو أن حزب العدالة والتنمية لا يريد أن يظهر للرأي العام التركي والعالمي أنه ما زال للجيش تأثير قوي على الساحة التركية، وأن ادعاء الحزب أمام الاتحاد الأوروبي أن تركيا خطت خطوات جادة وفعلية من ناحية الإصلاحات هو مجرد هراء.

والحال أن عدم رضى الجيش بأن يكون مرشح الرئاسة من الإسلاميين سيضع تركيا على سكة أخرى من الصراع. فقد لا يفكر الجيش بتقديم حلول تسهم في ترطيب الأوضاع وتهيئ لأرضية توافقية، رغم أن تركيا بلد متعدد في السياسة والاجتماع، ولا يكون العلاج إلا عبر حلول توافقية. فثمّة شعور يسيطر الآن على الجيش والعلمانيين، مفاده أنّ أردوغان لم يتقدّم خطوة تجاه مراعاة مطالب العلمانيين والجيش. كل ما فعله هو بمثابة تحدٍّ من نوع آخر. وهناك شكوى مشروعة من المعارضين هي أن «العدالة والتنمية» لم يشرح (حتى الآن) دور الدين في الحياة السياسية التركية، وماذا سيكون مستقبلاً. ثم إن «العلمانيين» والجيش يرون أنه عند وصول «العدالة والتنمية» إلى قصر رئاسة الجمهورية، سيعمل الحزب جاهداً على تطبيق برنامجه الديني على حساب العلمانية التركية، وهذا ما لا يقبله أي طرف من الأطراف التقليدية العلمانية في تركيا. كذلك، فإنّ منصب رئيس الجمهورية ليس منصباً رمزياً خاوياً، إذ إنّ الرئيس في تركيا يتمتّع بصلاحيات فاعلة، أهمّها قدرته على نقض القوانين التي يصدرها البرلمان.

والحقيقة أن تركيا في طريقها إلى أزمة سياسية جديدة. وإذا كانت الانتخابات قد استطاعت تبديد جزء من الأزمة السابقة، فقد أصبح الأمر هذه المرّة شديد التعقيد، ومن الصعب إقناع الأطراف العلمانيّة بأنّ انتخاب رئيس من حزب العدالة والتنمية لا يعني أنه في الطريق إلى فرض الهيمنة على الدولة ونقل تركيا إلى الاستبداد السياسي وفرض نظام ديني إسلامي مخالف للتاريخ التركي العلماني.
"الأخبار"

التعليقات