31/10/2010 - 11:02

تركيا: مفارقات "العلمانيّة الملحدة" و"العلمانيّة المؤمنة"../ نظام مارديني*

تركيا: مفارقات
تواجه السياسة التركية تحدّي ضرورة العثور على الحلول المناسبة لجملة من المشكلات المرشَّحة لتمزيق نسيج المجتمع ما لم يتم التعامل معه بشكل متوازن. ولعلّ المشكلة الطارئة حالياً هي تلك المواجهة القائمة بين «العلمانية الملحدة» و«العلمانية المؤمنة»، التي حالما تختفي تعود من جديد عند كل مفصل حرج تعيشه تركيا، كما هو قائم الآن.

ليست حكاية المواجهة هذه بين «العلمانيّين» ضحية ساعتها، بل هي بدأت منذ أجاز البرلمان التركي في التاسع من شباط / فبراير الماضي، التعديلات الدستورية التي ألغت الحظر المفروض على الحجاب في الجامعات والمعاهد التعليمية العليا. وقد جاء رد المحكمة الدستورية العليا في الخامس عشر من آذار / مارس الماضي، والمطالبة بحظر نشاط حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، مثل الصاعقة التي فجّرها المدّعي العام عبد الرحمن يالشينكايا في وجه المجتمع التركي بعد ما اتهم الحزب بأنه تحوّل إلى «بؤرة خطيرة تهدد العلمانية» في تركيا.

في ضوء هذه الوقائع يبدو التصعيد بين قرار المحكمة الدستورية بحل الحزب وإغلاقه ومنع 71 من قياديّيه من مزاولة العمل السياسي بمثابة ضربة قاصمة للحزب من زاويتين، الأولى عنصر المفاجأة الكبرى، والثانية شمول عريضة الادّعاء على سجل تفصيلي لتحركات وأقوال زعماء الحزب ووضعها في سياق يؤكد خروج الحزب عن مبادئ الدولة التركية. والإجراءات التي سيتخذها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لإنشاء حزب جديد يكون بديلاً عن «العدالة والتنمية». هذه الوقائع زادت من توتر الشارع التركي الذي ما زال يتذكر تداعيات قرار إغلاق حزب «الرفاه» بقيادة نجم الدين أربكان، في السادس عشر من كانون الثاني 1998 بعد ما اتهمته المحكمة الدستورية بانتهاك المادتين 68 و69 من الدستور اللتين تحظران النشاطات المعادية للعلمانية من جانب الأحزاب السياسية.

ولكن، ثمة من لا يرى خطورة من مواجهة بين المحكمة الدستورية وحزب العدالة والتنمية، وهم يستندون بذلك إلى أربعة أسباب:

الأول، يشير إلى أن حكومة أردوغان قامت خلال السنوات السابقة بإحداث تعديلات قانونية ودستورية، بصورة هادئة، كان من شأنها تخفيف قبضة العسكر على الشأن السياسي.
الثاني، أنّ أحد أسباب قوة الجيش في المجتمع ومصدر شرعيته هو أنه يتناغم مع المزاج الشعبي وفي الحالة الراهنة، يبدو أن غالبية الشعب التركي لا ترفض تعديل القانون الذي يسمح بتشريع إصلاحات جديدة.

والثالث، أنّ أردوغان أعدّ خطة للتعامل مع قرار المحكمة الدستورية إذا قبلت الدعوى التي تقدم بها المدعي العام الجمهوري بإغلاق الحزب، خلال حزيران / يوليو المقبل، رغم وجود تقديرات تشير إلى صعوبةٍ تواجه المحكمة في اتخاذها قرار إغلاق الحزب، وهو ما أكده البروفسور فاهيت بيشاك المتخصص في القانون الجنائي، الذي يرى أن القانون التركي يتضمن صياغات غير واضحة وغامضة مما يجعل الأمر في النهاية مرهوناً بتقدير المدعي العام أو القاضي في المحكمة وهو أمر يهدد التطور الديموقراطي.

أمّا السبب الرابع، فيرى أن الأسلوب الأمثل أمام أردوغان، هو بإنشاء حزب جديد،إذا ما بدا أنّ الأمور ستصل إلى إلغاء الحزب الحالي، ومن ثم تنتهي قضية من تلقاء نفسها، ويجعلها بلا أساس، مع أخذ الاحتياطات القانونية المناسبة التي تحول دون المسّ بالحزب الجديد مستقبلاً.

أما السؤال المطروح بقوة فهو: هل ستتمكن القيود التي ستفرض على قادة حزب «العدالة والتنمية» من لجم نفوذ الإسلام السياسي في تركيا بصورة دائمة، أم قد تؤدي هذه القيود إلى إنجاب طبقة متنامية من المجتمع السياسي المنبوذ الذي ينتظر لحظة الانتقام بفارغ الصبر؟.

يقود هذا الكلام إلى استنتاج يقول إن حزب «العدالة والتنمية»، ربما كان قوة سياسية إسلامية معتدلة، غير أن ذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال أنه ما زال مدافعاً مقنعاً عن الديموقراطية العلمانية، عند شريحة كبيرة من المجتمع التركي.
وإذا ما تمّ تغيير اسم الحزب، وعاد إلى السلطة، فإن فوزه لا يمكن اعتباره إلا تعبيراً عن حصول أردوغان على فرصة جديدة لاستكمال إصلاحاته الدستورية في البلاد.

ولذلك، عندما نجح أردوغان في سياسته، فإنّ بعض العلمانيّين لجأوا الى أسطوانة العلمانية من خلال الإقصاء والمنع والتهديد بالجيش، مع أنّ حزب العدالة والتنمية لم يتجاوز الدستور العلماني، ولم يخرج على تلك المبادئ التي يصوّرها البعض كأنها مقدسة لا تقبل التجديد أو التطور أو التطوير، لكنها شماعة للحصول على مكاسب سياسية وبطريقة تخالف الديموقراطية العلمانية التي قالوا عنها: لا ديموقراطية من دون علمانية، فإذا بهذه العلمانية، أو الذين يدّعون أنهم يحمونها ينتهكون قوانينها وأنظمتها القائمة. ولذلك فإنّ العلمانية التركية لم تكن حركة إصلاحية بل كانت أقرب إلى الفكرة الانتهازية التي تبرر ما يفرضه الواقع القائم، ودليلنا على ذلك أن العلمانية في تركيا الكمالية، غير العلمانية في أوروبا، وعلمانية الولايات المتحدة، غير علمانية روسيا وشرق أوروبا، بل إنّ العلمانية في بريطانيا غير العلمانية في فرنسا.

والمفارقة هنا أنّ حديث القوى العلمانية المتكرّر عمّا يُعدّ أسلمة تركيا وتحوّلها إلى نموذج إيراني آخر، وإن استُخدم على نطاق واسع على سبيل الدعاية السياسية السوداء، فإنّه لا يقنع أحداً. فبعض الباحثين الأتراك يرون أنّ أسلمة تركيا بهذا المعنى غير قابلة للتحقيق لأن أي محاولة جدية في هذا السياق معناها حرب أهلية بمعنى الكلمة. فالعلمانية هي أسلوب حياة وإن اختلفت درجة انفتاحه أو انغلاقه على الدين، والدولة العميقة في تركيا بمؤسّساتها المختلفة لن تسمح بهذا الأمر تحت أي ظرف كان.

لا شك أن الديموقراطية في تركيا، ترتبط أوّلاً ارتباطاً لا انفصال له بالعلمانية. فبرأي الكماليين (نسبة إلى كمال أتاتورك) يتساوى تبني العلمانية مع الإيمان بالديموقراطية، ولا بد من اعتبار أيّ قوة سياسية غير علمانية، بصورة آلية، قوة لا ديموقراطية. ثانياً، لم يسبق لحزب العدالة والتنمية أن كان شديد الغموض في موقفه من العلمانية والديموقراطية، بل لقد دأب قادة الحزب على المبالغة في الإطراء على العلمانية والديموقراطية.

ثالثاً، كانت ممارسات حزب العدالة والتنمية السياسية في الحكم منذ 2002، معتدلة من جميع النواحي، بل إنّه لم يتسمّ رد فعله منذ آذار الماضي، مع خطوة المحكمة الدستورية، بالتطرف، إذ لا يزال حريصاً على التمسك بأدواره في معالجة «الهجمة» القضائية. غير أن المسألة الأبعد أثراً تبقى متمثّلة بماهيّة النتائج التي قد تترتّب على الديموقراطية التركية في المدى الطويل.

ليس الخيار الحقيقي بالنسبة إلى الأتراك اليوم هو في عملية تصميم دولة ديموقراطية حديثة قادرة على مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين، خيار بين علمانية معادية للدين من ناحية، وعلمانية مؤمنة من ناحية ثانية. بل هو خيار بين أسلوب قائم على دولة أكثر تسلّطاً على تنظيم مجتمع سريع التغيّر، يمثّل فيه الإسلام عاملاً اجتماعياً يتعذّر استئصاله من جهة، وأسلوباً قائماً على مجتمع مدني أكثر ديموقراطية في التعامل مع عملية التغيير من جهة ثانية.

لا شكّ في أن مستقبل تركيا بكل تأكيد في أيدي الاتراك، لكنْ للغرب دور مهم يؤدّيه هنا. فالولايات المتحدة وأوروبا في حاجة إلى القيام بما تستطيعانه للتأكيد على استمرار تركيا في رؤية مستقبلها جزءاً من الغرب، ويحتاج كل من الاتحاد الأوروبي وأميركا إلى أن يتعاملا بجدية مع الأولويات الوطنية التركية، كما يحتاجون إلى أن يبيّنا تقديرهما لشراكة تركيا، ومساهمتها في الأمن والديموقراطية الإقليميّين في ظل جيرة معقدة وغاية في الصعوبة.

في هذا المنحى تأتي دعوى المحكمة الدستورية القضائية ضد حكم «العدالة والتنمية»، لتقدم مخاوف إلى القوى الليبرالية الأوروبية التي أصبحت تخشى من انضمام دولة ما زالت تجربتها الديموقراطية غير مستقرّة حتى الان، وهذا الأمر يعني أن مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ستتعرّض لمصاعب جديدة، تضاف إلى المصاعب الأخرى التي تتعرّض لها، والتي دفعت الاتحاد الأوروبي إلى تأخير هذا الأمر، بل وإلى طرح صيغ بديلة له تعطي تركيا بعض مزايا الانضمام، من دون أن تصبح عضواً كاملاً في الاتحاد الذي دخل على خط «العراك» السياسي القائم الآن في تركيا، وقد أعلن تأييده لحكومة «العدالة والتنمية» وما قامت به من إصلاحات سياسية واقتصادية، رافضاً من حيث المبدأ إغلاق الحزب بالسبل القانونية وليس بالطرق الديموقراطية.
"الأخبار"

التعليقات