31/10/2010 - 11:02

تركيا والأكراد: من يُنزل الإصبع عن الزناد أوّلاً؟../ خورشيد دلي*

تركيا والأكراد: من يُنزل الإصبع عن الزناد أوّلاً؟../ خورشيد دلي*
بعد فترة من الهدوء النسبي، عاد التصعيد ليكون سيّد الموقف في العلاقة التركية ـ الكردية. ففي الداخل، وتحديداً في مناطق جنوب تركيا وشرقها، باتت أخبار المواجهات بين الجيش التركي وعناصر حزب العمّال الكردستاني تحتلّ واجهة وسائل الإعلام التركية، وعلى مستوى أكراد العراق، ثمّة حرب متعدّدة الجوانب تدور بينهم وبين تركيا، تبدأ من مشكلة وجود عناصر حزب العمّال الكردستاني في المناطق الحدوديّة مع تركيا، مروراً بمصير كركوك، وليس انتهاءً بمخاوف تركيا من ولادة دولة كردية، تنعكس بظلالها على أكراد تركيا وتطلّعاتهم القوميّة التي تتجاوز حدود الدولتين. واللافت في التصعيد الجاري حالياً، اللهجة الندية لأكراد العراق الذين يشعرون ـ وربما للمرة الأولى ـ أنّهم يملكون من القوّة والدعم الأميركي العلني، ما يكفيهم لعدم الرضوخ للتهديدات التركية الهادفة إلى إشراكهم في عملية عسكرية مشتركة ضدّ معاقل حزب العمّال كما كانت الحال في منتصف التسعينيات، في حين أنّ اللافت على الجبهة التركية، أنّ هذا التصعيد يأتي وسط توافق بين حكومة العدالة والتنمية والجيش بعد أزمة الانتخابات الرئاسية بينهما، وهو توافق يرجعه البعض إلى تحوّل الأزمة مع حزب العمّال إلى بورصة للمزايدة بين الجانبين لحسابات تتعلّق بمن يملك القرار التركي.

بغضّ النظر عن هذا البعد الداخلي للأزمة الذي يظهر على شكل تواصل علني ـ خفي للصراع بين «العدالة» والجيش، فثمّة مؤشّرات قد تترتّب عليها تداعيات خطيرة على الأمن في المنطقة إذا ما اجتاحت تركيا شمال العراق بعدما حشدت عشرات آلاف من جنودها هناك، ولعلّ في مقدّمة هذه التداعيات، أنّه في ظلّ عدم وجود موافقة أميركية وعراقية على أي تدخل عسكري تركي في شمال العراق، فإنّ مثل هذا التدخل قد يتحوّل من مواجهة مع حزب العمّال، إلى مواجهة مع أكراد العراق. وإذا تطوّرت الأمور، قد يتّجه إلى مواجهة تركية ـ عراقيّة أو حتى أميركيّة، بما يؤدّي إلى اختلاط الأوراق في المنطقة ككلّ، وربما الدفع بدول أخرى في هذا الاتجاه، وتحديداً إيران التي ترى نفسها معنيّة بقوّة بما يجري في العراق وعندها حساسية خاصة تجاه تركيا، لأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية وأمنية، فضلاً عن أنه ينبغي عدم الاستهانة بالعامل الكردي وتأثيره في الأمن والاستقرار في تركيا إذا ما علمنا أن عدد أكراد تركيا يزيد على 15 مليون نسمة، ويشكّلون غالبيّة سكّانية في المناطق الحدودية مع إيران والعراق وسوريا، ويتواصلون مع أبناء جلدتهم في هذه البلدان.

اليوم، ومع وصول الأمور إلى نقطة حرجة بعد تفويض البرلمان التركي إلى الجيش القيام بعملية عسكرية، وحمى التعبئة في الشارع على وقع هتافات الموت لحزب العمال الكردستاني، وقدرة الأخير على إلحاق خسائر كبيرة في صفوف الجيش التركي، وتعبئة مماثلة في الشارع الكردي الممتدّ بين أربيل والسليمانية ودياربكر... كلّ هذا يجعل من أية عملية عسكرية تركية تحمل معها تداعيات خطيرة على الأمن في المنطقة، إذ إنها تستدعي التوقف عند ما يلي:

أوّلاً، إنّ مثل هذه العملية غير مضمونة النتائج، وقد تكون بمثابة مغامرة عسكرية، نظراً إلى عاملين أساسيّين: أوّلهما، رفض أكراد العراق الذين تحوّلوا إلى شبه دولة لمثل هذه العملية، خلافاً لظروف التحالف الذي عُقد بين هؤلاء والجيش التركي في منتصف التسعينيات ضد حزب العمّال. وثانيهما، احتمال الاصطدام مع الإدارة الأميركية، وخصوصاً إذا وجدت هذه الإدارة أنّ العملية التركية ستضرب خططها في العراق، ولا سيما في إقليمه الشمالي الذي يعرف أمناً واستقراراً نسبيَّين، ولعلّ هذا ما يفسّر التحذيرات الأميركية المتواصلة لأنقرة من القيام بعملية عسكرية.

ثانياً، إنّ أكراد العراق، ورغم انصرافهم إلى تأسيس كيانهم الخاص، فإنّ لهم نفوذاً كبيراً على مستوى العراق في قراره السياسي. وبسبب هذا النفوذ، فإنّ أي نزاع تركي ـ كردي عراقي قد يتحوّل إلى نزاع عراقي ـ تركي، وخصوصاً إذا أدّت العملية إلى مواجهات مع أكراد العراق وأسفرت عن خسائر بشرية كبيرة.

ثالثاً، من شأن تدخّل تركيا عسكريّاً في شمال العراق، اختلاط الأوراق الإقليمية في المنطقة، وربّما دفع دول أخرى في هذا الاتجاه، وتحديداً إيران.

رابعاً، إنّ تركيا التي تقول إنّ هدفها من العملية العسكرية هو القضاء على حزب العمّال الكردستاني، تدرك قبل غيرها استحالة تحقيق هذا الهدف من خلال عملية عسكرية، نظراً إلى طبيعة المنطقة الجبلية هناك، وقدرة عناصر الحزب المذكور على حرب العصابات والاختباء والهروب. وتؤكّد الاجتياحات العسكرية التركية السابقة هذه الحقيقة، إذ قامت تركيا بأكثر من عشرين عملية ولم تنجح في وضع حدّ لمشكلة حزب العمّال الكردستاني. والغريب أنّ العديد من القادة الأتراك، بينهم رئيس الحكومة رجب طيّب أردوغان، أشاروا في وقت سابق إلى أنّ المشكلة الأساسية هي في داخل تركيا، ولا تتوقّف عند بضع مئات من عناصر «الكردستاني» في شمال العراق، وهو الأمر الذي يرسم أكثر من علامة استفهام، وفي الوقت نفسه يعمّق الإحساس لدى أكراد العراق بأنّهم وكيانهم وتجربتهم الحديثة، مستهدفون من العملية التركيّة، وليست معاقل حزب العمّال الكردستاني فحسب.

كذلك يعمّق احتمال الاجتياح الشرخ والانقسام بين تركيا وأكرادها ويقضي على الآمال السلمية التي تعزّزت بعد وصول 22 نائباً كردياً إلى البرلمان في الانتخابات الأخيرة.

من دون شكّ، فإنّ هذه المعطيات والمخاطر لا تقلّل من أهمية السياسة التي اتبعتها تركيا تجاه العراق منذ تعرّضه للاحتلال الأميركي، حيث اتسمت هذه السياسة خلال السنوات الماضية بالاتزان والحرص على سيادة العراق ووحدته وعدم الانجرار إلى المستنقع العراقي في ظلّ الاحتلال. ومثل هذه السياسة مطلوبة في هذه المرحلة أكثر من أيّ وقت مضى، نظراً إلى أنّ التحوّل عنها سواء لأسباب داخلية تركية أم لأسباب تتعلّق بالخشية من الصعود الكردي في العراق أو في تركيا، قد يدفع بالعراق والمنطقة إلى تطوّرات أمنيّة خطرة تزامناً مع ما تشهده المنطقة (لبنان والأراضي الفلسطينية وتصاعد الضغوط الأميركية على سوريا وإيران...) من أحداث كبيرة.

المشكلة الكردية، وتحديداً مشكلة حزب العمّال الكردستاني في تركيا، ليست جديدة، وحلّها بنظر الكثيرين يحتاج إلى وقفة تركية شجاعة تجعل من وجود 22 نائباً كردياً عن حزب المجتمع الديموقراطي الذي يشكّل بنظر الكثيرين، واجهة سياسية لحزب العمّال الكردستاني، فرصة لنقل هذه المشكلة من المواجهات الجارية في الجبال والمناطق الحدودية، إلى البرلمان والمدن، وللتأسيس لحل سياسي ديموقراطي، إذ طالما سعت تركيا وتسعى إلى العضوية الأوروبية وتطرح نفسها نموذجاً للاقتداء به من دول المنطقة، فالعقلانية مطلوبة مع مشكلة قديمة ـ جديدة لا يمكن حلّها إلا أن يكون سياسياً، وتجاهلها لم يعد بالإمكان بعدما بلغت القضيّة الكردية مستويات متطوّرة، وإلا فإنّ العملية العسكرية المرتقبة لن تزيد إلّا من تعميق الجروح، وستثقل التاريخ بمزيد من المآسي التي يناقش الكونغرس الأميركي هذه الأيام وجهاً من وجوهها المتمثل في الحالة الأرمينية قبل نحو قرن.

لقد سبق أن ذهب أردوغان إلى مدينة دياربكر، معقل أكراد تركيا، قبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وقال من هناك: «إن القضية الكردية في تركيا هي قضية الديموقراطية، وهي قضيتي، وسأحلّها بالطرق السلمية». وعليه، ما الذي يدفع أردوغان إلى ركوب دبابة العسكر؟ هل هم العسكر الذين يزايدون عليه في الوطنية التركية؟ أم الطورانيون الذين ما زالوا يعتقدون بأن حدود إمبراطوريتهم القومية تمتد من بحر الأدرياتيكي إلى سور الصين؟ إذا كان الجواب بنعم، فإنّ التجربة التاريخية تخبرنا بأن لا شيء يدفع بالكردي إلى النزول من الجبال وترك السلاح والتضحية أمام دورة الأقدار المليئة بالأحلام حتى الموت. معادلة تبحث عن عقلانية حتى وإن كانت الإصبع على الزناد.
"الأخبار"

التعليقات