31/10/2010 - 11:02

تعددية فكرية../ سونيا بولس

تعددية فكرية../ سونيا بولس
يشهد مجتمعنا في الآونة الأخيرة تصعيدا في التصادم بين الحركات السياسية الدينية من جهة وبين الحركات السياسية العلمانية اللبرالية من جهة أخرى، حيث تعدى هذا التصادم مرحلة الإختلافات والنقاشات الفكرية ووصل في بعض الاحيان الى محاولة نزع شرعية الطرف الآخر بصورة غير مباشرة، وذلك من خلال إتهام مؤسسات مجتمعية تتماهى مع الفكر الليبرالي بالعمالة لصالح جهات أجنبية - والمقصود من إستعمال المصطلح "لبرالية" في سياق هذا المقال هو التماهي مع حقوق الإنسان المدنية والسياسية الكلاسيكية بعيدا عن الإضافات الإقتصادية لهذا المصطلح- ويرى الطرف الأول، أي الحركات السياسية الدينية، أنه لا يمكن إختزال الدين بأمور العبادات، إنما الدين هو منهاج حياة متكامل ينظم سلوكيات الفرد بل المجتمع بأكمله. وفي المقابل يؤمن الطرف الآخر، أي الحركات السياسية اللبرالية، بأن الإنتماء القومي العروبي وليس الإنتماء الديني هو الإطار الجامع لجميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن إنتمائاتهم الدينية أو مواقفهم من الدين، وهو يؤمن أيضا، من منطلق تماهيه مع القيم اللبرالية الكونية، بحرية العبادات وحرية ممارسة الشعائر الدينية ويؤكد على أن إمتثال أفراد المجتمع للقيم الدينية يجب أن يكون بمحض إرادتهم الحرة.

إن إنعدام ثقافة التعددية في مجتمعنا وإنعدام إحترام الآخر بالرغم من إختلافنا الفكري معه سيزج بمجتمعنا الى صراعات فئوية مريرة ستدفع بنا حتما الى هاوية من الصعب الرجوع عنها. وعندما نتحدث عن ثقافة التعددية لا يجوز لنا التعامل مع هذه القيمة الجوهرية كشعار رنان وفارغ، يتم تقزيمه لطقوس إجتماعية، تندرج بغالبيتها تحت باب المجاملات (وأحيانا كنوع من النفاق الإجتماعي)، بل يجب على كل الحركات السياسية الفاعلة في مجتمعنا أن تعزز بمجمل ممارساتها السياسية مبدا التعددية الفكرية.

لم يكن إختياري الخوض في ضرورة إحترام مبدأ التعددية الفكرية، تزامنا مع يوم المرأة العالمي ، محض الصدفة. فإنعدام ثقافة التعددية الفكرية ومحاولة تحشيد الرأي العام ضد التيارات الإجتماعية والسياسية ذات المرجعية اللبرالية يمس بشكل مضاعف بمكانة المرأة في مجتمعنا الفلسطيني. فالمرأة الفلسطينية (والعربية عامة)، التي لا تزال تعاني من إهدار كرامتها الإنسانية ومن سلب حقوقها الاساسية كإنسانة وعلى رأسها حقها في تقرير المصير، ستجد صعوبة كبيرة في تحدي القيم الإجتماعية المجحفة وغير العادلة في أجواء مشحونة بمعاداة اللبرالية.

قد يتساءل البعض لماذا وكيف يؤثر خلق أجواء معادية للبرالية على الحركات النسوية في مجتمعنا؟ للإجابة على هذا التساؤل يجب أولا وضع بعض النقاط على الحروف. تعادي بعض الحركات الدينية أو بعض من يتماهون معها المنظومة اللبرالية جهرا، وترفض التعامل مع هذه المنظومة كنهج منافس، له شرعية. وإذا أمعنا النظر في تركيبة مجتمعنا وفي القوى الفاعلة فيه سنجد أن الجمعيات والحركات النسوية هي المؤسسات المجتمعية الوحيدة التي لم تكتف بتبني المنظومة اللبرالية بالمستوى التصريحي، بل عززت ودافعت من خلال مشاريعها ومواقفها بشكل فعال عن الحريات الشخصية دون أية تردد أو تأتأه، حتى وإن عرضها هذا الأمر لهجوم شرس ولحملات التشهير والملاحقة.

فالتزام الحركات النسوية بالدفاع عن الحريات الشخصية يتجلى في العديد من نشاطاتها، فهي أول من طالب وعمل جاهدا على ضمان حرية الإختيار وحرية الفكر لأفراد مجتمعنا عندما سعت لتعديل قوانين الأحوال الشخصية، كي تضمن للفرد فرصة الإختيار بين التوجه لمؤسسات دينية وبين التوجه لمحاكم مدنية في قضايا الأحوال الشخصية. وبالمقابل، لم تشكك أبدا بشرعية خيار الفرد بالتوجه للمحاكم الدينية، كما يزعم البعض، وهي لم تعارض مطالبة بعض الحركات السياسية بممارسة نوع من أنواع الحكم الذاتي الديني للطوائف العربية، بل هي دافعت بالأساس عن حرية الإختيار. كان بإمكان الجمعيات النسوية أن تكتفي بمقولات ليست على هامش الإجماع في مجتمعنا، كالتصريح بأن قتل النساء على خلفية ما يسمى "المس بشرف العائلة" مناف للقيم الإنسانية والدينية، التي لا تجيز قتل النفس بغير حق، بل اختارت الخيار الصعب ودافعت بشكل صريح عن حق المرأة على جسدها، من منطلق إيمانها بالحريات الشخصية، وفي المقابل شددت على أن تسليع جسد المرأة يتناقض تماما مع حقها في الكرامة الإنسانية. النساء في مجتمعنا كن أيضا أول من تحدى إحتكار رجال الدين لتفسير النصوص الدينية وأول من ناقشهم، وذلك من منطلق إيمانهن بحقهم في حرية التعبير عن الرأي وحرية العقيدة، وإيمانهن بحقهم بالمشاركة في تحديث الخطاب الديني، كونه أحد أهم المركبات الثقافية للحياة العامة في مجتمعنا.

وأثبتت الجمعيات النسوية العلمانية إلتزامها بمبدأ التعددية الفكرية في مجتمعنا، ولم تسع يوما إلى إلغاء الآخر ونزع شرعيته. فعندما قامت حركات نسوية جديدة، اتخذت النصوص الدينية مرجعية لها، دعمت النسويات العلمانيات هذه الحركات بالرغم من وجود إختلافات جوهرية بينها، وناقشت طروحاتها بموضوعية بعيدا عن أية محاولة لإنتزاع شرعيتها. كما أن الناشطات النسويات آزرن النضالات العادلة لجميع شرائح مجتمعنا، فعندما تعرضت القيادات الدينية لشعبنا لحملة قمع وملاحقة دينية وعقائدية، شاركن في الفعاليات الإحتجاجية ضد تنكيل أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة بالقيادات الدينية في مجتمعنا.

إذا، عندما تغدو الحركات والجمعيات النسوية أهم رموز الفكر والنهج اللبرالي في مجتمعنا، من السهل أن تصبح مستهدفة من قبل معادي اللبرالية، الذين يحاولون نزع شرعيتها بالمطلق. وماذا يعني نزع الشرعية عن مؤسسة مجتمعية بالمطلق؟ الجواب واضح، نزع الشرعية يعني مهاجمة حق هذا المؤسسات في التواجد، حتى ولو التقت طروحات هذه الجمعيات أو بعضها مع قيم الحركات الدينية. لم يكتف البعض بالمطالبة بمقاطعة الجمعيات النسوية بل كانت هناك محاولات لممارسة الضغط على النساء اللواتي يتوجهن إليها، فقد أخبرتني زميلة لي عن تجربة شخصية تعرضت لها عندما حاولت تفعيل مجموعة دعم للنساء لتطوير مهارتهن الذاتية، حيث أخبرتها بعض المشاركات في الدورة بأنهن تلقين زيارات من أطراف معينة حاولت إقناعهن بمقاطعة الدورة لأن الجمعيات النسوية هي غير أخلاقية. وبهذه المناسبة أريد أن أسأل كل من يسعى لمحاربة الجمعيات النسوية هل يستطيع هو شخصيا أن يقدم المأوى للنساء المعنفات وأطفالهن ؟ هل يستطيع أن يرافق النساء المعنفات لأروقة المحاكم لإستصدار أوامر حماية لهن ولأطفالهن؟ هل يستطيع أن يرافق ضحايا الإعتداءات الجنسية الى المستشفيات، مراكز الشرطة وأروقة المحاكم ودعمهن معنويا؟ هل يستطيع إحتضان المئات من الفتيات في ضائقة وإعادة تأهليهن كي لا يقعن فريسة لآفة التجارة بالنساء والمخدرات وغيره؟ هل يستطيع أن يرافق المئات من النساء الفلسطينيات الى مكاتب التأمين الوطني وأروقة المحكام بعد أن رفضت إسرائيل الإعتراف بحقوقهن الإجتماعية بسبب قانون المواطنة العنصري؟

قد يصعب على البعض مهاجمة التيارات السياسية، التي تعتمد اللبرالية كإحدى مرجعياتها، بشكل مباشر وصريح، لأن معظم نشاطات هذه الحركات السياسية ينصب في صلب الإجماع الوطني، ومهاجمتها من الباب اللبرالي سيبدو مفتعلا. لذا، يجدون مخرجا لذلك من خلال توجيه سهامهم الى الحركات النسوية اللبرالية في المجتمع بهدف نزع شرعيتها بالمطلق، وتصويرها وكأنها حركات دخيلة على مجتمعنا وحليفة لقوى الإستعمار الجديد، وبالتالي يضربون "من الباب الخلفي" شرعية الحركات السياسية التي تتماهى أيضا مع الفكر اللبرالي ومع طروحات الجمعيات النسوية وتشارك أو تدعم بعض من فعالياتها. فمن يشارك "وكلاء الإستعمار" في فعالياتهم ويدعمها، فهو بذاته ليس بمنأى عن تهمة العمالة.

إذا ما هي قواعد اللعبة التي يجب تبنيها حالا لبناء مجتمع يحترم ويعزز مبدأ التعددية الفكرية فبل أن نصل بمجتمعنا الى الهاوية؟ أقترح أولا أن نبدأ بمبدأ "عدم الإكراه" كنقطة إنطلاق. فإذا لم تتفق جميع التيارات السياسية في مجتمعنا على مبدأ عدم الإكراه لن تكون هناك أي بارقة أمل لدينا لبناء مجتمع حضاري، مبني على أساس إحترام التعددية وإحترام خصوصية الفرد. فلا يحق لأي تيار من التيارات السياسية الفاعلة في مجتمعنا محاولة التنظيم الإكراهي للسلوك الفردي في المجتمع.

مبدأ عدم الإكراه لا يقتصر فقط على تحريم اللجوء للقوة لفرض قيم مجتمعية بل يحرم أيضا خلق أجواء مجتمعية معادية لحق الفرد في ممارسة حرية الإختيار وفي ممارسة حق تقرير المصير. هذا بالطبع لا يعني الإنتقاص من حق الحركات الدينية أو أي فرد في المجتمع بتوجية النقد (وحتى اللاذع) للتيارات اللبرالية أو العلمانية أو النسوية وتحديها فكريا، ففتح باب النقاش مع المؤسسات المجتمعية من شأنه تحفيز هذه المؤسسات على تحسين أدائها. لكن هذا النقد يجب يبنى على أساس إحترام متبادل ومن خلال الإعتراف بشرعية وجود الحركات اللبرالية والعلمانية. وبالمقابل يحق للتيارات العلمانية والنسوية أيضا مناقشة خطاب الحركات الدينية، فالاعتماد على الخطاب الديني لا يعني سلب حق الأخرين في نقاشة.

ثانيا، نحن نتوقع من التيارات السياسية اللبرالية في مجتمعا الخروج عن صمتها ونطالبها بأن تخطو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع يحترم ويشجع مبدأ التعددية الفكرية، من خلال المباشرة بفتح حلقات للنقاش الفكري بينها وبين الحركات الدينية المنافسة لها وطرح التحديات الفكرية أمام خصومها السياسيين بجرأة. لقد أثبتت تجربة مجتمعنا أن إنعدام ثقافة التعددية لا يخدم مصالح التيارات اللبرالية. فكيف يمكن للتيارات اللبرالية أن تدافع عن التعددية في مجتمعنا عندما تصمت في وجه محاولات البعض نزع شرعية وجودها، حتى وإن كانت هذه المحاولات من "الباب الخلفي”. فمن لا يدافع عن شرعية وجوده لا يمكنه الدفاع عن شرعية الآخرين.

التعليقات