31/10/2010 - 11:02

تقرير الاستخبارات الأمريكية متساوي الحدين../ بشير البكر

تقرير الاستخبارات الأمريكية متساوي الحدين../ بشير البكر
لم يكن أحد ينتظر في هذا الوقت بالذات، أن يصدر تقرير امريكي يسقط صفة الخطورة عن المشروع النووي الإيراني. كان الانطباع السائد هو أن يتصاعد زخم حملة التهويلات السياسية والإعلامية باقتراب العالم من حافة الكارثة، التي اختصرها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في معادلة لا تقبل الجدل: إما القنبلة الإيرانية أو الحرب.

ورغم المكابرة في واشنطن ولندن وباريس، فإن صدور تقرير أجهزة الاستخبارات الأمريكية كان له وقع الصدمة، لأنه قبل كل شيء موقع من 16 جهازاً، وفي الدرجة الثانية لكونه قال بوضوح إن إيران علقت سنة 2003 مشروعها النووي العسكري.

سيكون من الصعب التخفيف من تأثير هذه الصدمة والحد من تداعياتها. أكثر من ذلك هي مرشحة للتفاعل بسرعة، ولن تلبث أن تخلط الأوراق، وتحرف هذه القضية الشائكة عن اتجاهها، الذي سارت فيه خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بل هناك من يعتقد بأنها ستنقلها إلى مرحلة جديدة. ويتوقف الكثير من المراقبين عند مفاجأة التوقيت، لأن العالم كان يحضر نفسه في الشهر الحالي لصدرو سلسلة من العقوبات النوعية ضد ايران، عن طريقي مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي. وقد بقيت هذه الخطوة معلقة تنتظر منذ أسابيع عدة صدور تقرير المفوض الأعلى للخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، حول حصيلة اتصالاته مع المسؤولين الإيرانيين طيلة الأشهر الماضية.

كما ان هذا التقرير كان سيتضمن خلاصة اجتماع باريس في الأول من الشهر الحالي، بين مديري وزارات خارجية الدول الست، الذي غابت عنه روسيا لدواع فنية، وكذلك نتائج جلسة المفاوضات التي جمعت سولانا مع سعيد جليلي المسؤول الايراني المكلف الملف النووي، والتي وصفها المسؤول الاوروبي بأنها مخيبة للآمال.

رغم المحاولات الأمريكية الفرنسية للتخفيف من وقع التقرير، فإن الاعتقاد السائد هو انه سوف يضع نقطة فصل ما بين ماضي هذه المسألة ومستقبلها، ولكنه لن يكون نهاية المطاف، بل سوف يفتح الباب واسعاً في اتجاه احتمالي التصعيد والتهدئة في نفس الوقت.

ولكي لا يخطئ المرء في تهجي علامات المرحلة المقبلة، فإنه تجدر الإشارة إلى نقطتين مهمتين: الأولى ان تقرير الاستخبارات يحتمل جملة مختلفة من القراءات التي تصل الى حدود التضارب أحياناً، نظراً لتشابكات الملف وتعقيداته الإقليمية والدولية، وبالتالي سيراه كل طرف من زاويته. والثانية، ان أجهزة الاستخبارات الأمريكية أرادت من خلال هذا التقرير ان تعيد الاعتبار لنفسها، وتغسل عار الاتهامات بالتقصير وعدم الكفاءة، في ما يتعلق ببدعة أسلحة الدمار الشامل في العراق، ولهذا رمت على الطاولة ورقة ثمينة من هذا الطراز لتقول، إنها تعرف ماذا يدور في العالم، وهي تتابع عن كثب القضايا الحساسة، ولذلك لم تكتف بكشف تطورات البرنامج النووي الإيراني، بل إنها وضعت للإدارة الأمريكية ما يشبه "خريطة طريق"، لكي تختار المخرج المناسب لهذه الأزمة. وتكون الأجهزة الأمريكية بذلك استفادت من دروس العراق، وأعفت نفسها من المسؤولية.

المفارقة المثيرة في الأمر أن رد الفعل الرسمي للإدارة الأمريكية وحلفائها، في كل من لندن وباريس وبرلين بدرجة أخف، اقتصر على ضبط إيران بالجرم المشهود متلبسة في برنامج نووي عسكري سري، ولم يتم التوقف عند أهمية النصف الملآن من الكأس، وهو قرار تجميد هذا البرنامج سنة 2003. ومن هنا فإن الرئيس الأمريكي جورج بوش، بدلاً من أن يتعظ ويبدأ بمراجعة النفس، فإن نشوته بدت طافحة ومضاعفة، لأن المسألة الأساسية بالنسبة له هي، أن “نبوءته” حول تصنيف إيران في “محور الشر” (العراق، كوريا الشمالية، ايران) قد تحققت ووجدت تغطيتها في تقرير استخباراتي محترف، ولهذا بقي ثابتاً في إطار خيارين أحلاهما مر: إما إعلان إيران التوبة والكشف عن البرنامج النووي برمته، والموافقة على تفكيكه على غرار ما حصل في ليبيا وكوريا الشمالية، أو استمرار الضغوط والعقوبات والتلويح بالحرب.

لهذا بقيت نبرة الموقف الأمريكي - البريطاني - الفرنسي على نغمة واحدة، “لا تغيير” وأن “الدبلوماسية المثلى هي في إبقاء كل الخيارات مطروحة” بما فيها الخيار العسكري. ويتسلح هؤلاء بحجتين أساسيتين من أجل الاستمرار في خط التشدد: الأولى أن الضغوط والعقوبات هي التي أجبرت إيران على تجميد برنامجها النووي العسكري، ولهذا أشار بوش صراحة الى نجاح سياسة “العصا والجزرة”. والثانية إصرار إيران على استمرار مشروع تخصيب اليورانيوم. وهم يطرحون السؤال: إذا كانت طهران قد أوقفت برنامجها العسكري، فلماذا تصر على التخصيب؟ ويجمعون على أن الدافع هو امتلاك السلاح النووي.

لم يكن ينتظر أحد من واشنطن وباريس ولندن أن تأخذ التقرير بحذافيره، وتعترف مباشرة بالأخطاء والفشل، وتقرر بناء على ذلك تغيير أسلوب تعاملها مع المسألة، ولكن ذلك لا يعني أن هذه الدول لن تتصرف بوحي التقرير، أو انها لن تقبل مضطرة بنتائجه. ففي المجال الأول فتح التقرير باباً للإدارة الأمريكية لتخرج من تهورها، وقدم لها مرة أخرى الفرصة لكي تتفاهم مع إيران.

أما في ما يخص الجانب الثاني فإن موسكو وبكين سوف تصبحان أكثر تشدداً في موضوع العقوبات الدولية، ما يعني ان آلية مجلس الأمن سوف تتعقد، وقد تتعطل كلياً. وليس بخاف على أحد ان التقرير أراح الروس والصينيين، لأنه أكد صدقية معلوماتهم عن البرنامج الإيراني، التي كانت الدول الغربية ترفض الأخذ بها. وبالتالي فإن إقناع روسيا والصين بالاستمرار في العقوبات أمر متعذر في المدى المنظور.

في الحالين لن تكون النتائج قصيرة الأجل. فواشنطن وحلفاؤها لن يعترفوا بارتكاب الأخطاء مباشرة، بل سيحتاجون إلى بعض الوقت من أجل تنظيم الخطوة القادمة، سواء لجهة التراجع أو التصعيد.
"الخليج"

التعليقات