31/10/2010 - 11:02

توسيع الاستيطان الإسرائيلي إذ ينفخ بلاغة العاجزين والمستغربين../ حسن شامي

توسيع الاستيطان الإسرائيلي إذ ينفخ بلاغة العاجزين والمستغربين../ حسن شامي
بعد يومين فقط على انعقاد المؤتمر الدولي في أنابوليس لإطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن إطلاق مناقصة واستدراج عروض لبناء أكثر من ثلاثمئة وحدة سكنية في حي استيطاني في مستوطنة "هارحوما" المقامة على جبل أبو غنيم في القدس الشرقية.

ليس مهماً ربما أن يكون قد جفّ أم لم يجفّ بعد حبر التعليقات والتقويمات والشروحات التي دارت في معظمها، ومن مواقع وزوايا نظر مختلفة، على الطابع الاستعراضي الدعوي للمؤتمر الذي حضره ممثلون عن 44 دولة. وليس مهماً أيضاً أن نعرف إذا كانت أنوار بعض الغرف والقاعات قد بقيت (أو نُسيت) مضاءة بعد انفضاض المؤتمرين.

الأمر المهم هو أن نلتقط دلالة ومغزى صدور القرار الإسرائيلي بتوسيع الاستيطان وتوقيته الصارخ عشية بدء المفاوضات مع الفلسطينيين والتي يفترض بها أن تتناول قضايا الحل النهائي وفقاً لخريطة الطريق ولـ «خرائط» دولية أخرى تنص كلها على ضرورة تجميد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

على اننا سنضع جانباً، وإن موقتاً، تقدير البعض، ومنهم كاتب هذه السطور، أن التصرّف الإسرائيلي الذي بدا لكثيرين فظاً وأرعن، إنما يرمي الى التدليل، لمن غمضت عليه الأمور بعض الشيء، على أن هذا التصرف مشتق من جملة الشروط التي استدعت انعقاد المؤتمر، وهي شروط تتعلق بتلميع صورة الرئيس الأميركي المشرفة ولايته على الانتهاء.

بعبارة أخرى، يتضمن الإجراء الإسرائيلي إعلاناً بأن الحفلة انتهت. وهذا ضرب من التوضيح الاستباقي الساعي الى تصويب القراءة وتبديد أي وهم أو مغالطة قد تراود بعض القادمين الى المؤتمر في ما يخص موازين القوى وأحوالها.

كثيرون وجدوا ويجدون أنه من الغريب أن يعلن طرف مدعو نهاية الحفلة كما لو أنه الداعي والمدعو في آن معاً. ثمة في الدولة العبرية من يجد ضرورة قصوى لتقديم مثل هذا التوضيح. من الطبيعي، في هذه الحال، أن تشخص الأنظار نحو راعي المؤتمر والداعي المفترض إليه، أي الإدارة الأميركية الحالية، لمعرفة رد فعله على توضيح يخصها، ليس في نهاية المطاف فحسب، بل كذلك من بدايته وفيها. وهذا ما سنخوض فيه بعد أن وضعنا جانباً قراءات وتقديرات البعض.

لقد طلبت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس «توضيحات» من الحكومة الإسرائيلية حول قرارها بتوسيع الاستيطان في القدس الشرقية. والحق أنه كان من الصعب على رايس ألا تفعل ذلك. فهي ناضلت على غير جبهة لإنجاح المؤتمر، ليس كإطار مرجعي للتفاوض السياسي، بل لإنجاح حفلة انعقاده التي يرفضها أركان آخرون في الإدارة الأميركية يتحلقون حول نائب الرئيس ديك تشيني، بعد أن أصبح مكتبه قبلة المحافظين الجدد وقلعتهم.

من المحتمل أن يكون طلب التوضيحات طريقة للتعبير بلغة ديبلوماسية عن تذمر ما وعن امتعاض ما. على أن هناك مؤشرات كثيرة تسمح بالظن أن التوضيح المطلوب لا يتعدى الحدود الأدبية (في المعنى العربي الكلاسيكي للأدب) والجمالية لرفع الغموض عن إجراء واضح جداً إذا ما وضعناه في نصابه السياسي. أي انه ليس قصيدة نثر غامضة جمالياً بحيث تستدعي التأويل وفك الرموز والإيحاءات. وهو ليس أحجية أو لغزاً أو تورية مما يتطلب كشف المستور.

وهذا بالضبط ما قام بتوضيحه وإبانته وزير الشؤون الاستراتيجية ونائب رئيس الوراء الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان حين أعلن على شاشة التلفزيون الإسرائيلي أن أعمال البناء الاستيطاني ستتواصل بالسرعة القصوى وأنه يجب إبلاغ هذا الأمر الى أصدقائنا. ذلك أنه «من الواضح للعالم أجمع أن هارحوما جزء لا يتجزأ من إسرائيل وستظلـ«.

فلنضع خطاً تحت عبارة «من الواضح»، ولننظر في ردود الفعل الأخرى. الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أعلن مشكوراً أن القرار الإسرائيلي المذكور «لا يساعد» عملية السلام في الشرق الأوسط، وأنه سيبحث هذه المسألة مع الأعضاء الآخرين في اللجنة الرباعية الدولية.

ورأى وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، أن استئناف الاستيطان يدفع الى الثقة في عملية التفاوض. ولم يفت الوزير المصري أن يدعو في حديث تلفزيوني المجتمع الدولي والولايات المتحدة الى التحدث مع إسرائيل والقول لها «إما أن تتفقوا على عملية السلام أو أنكم تهدرونها».

الاتحاد الأوروبي أعرب، من جهته، عن قلقه من خطط التوسع الاستيطاني في القدس، داعياً الدولة العبرية الى الوفاء بالتزاماتها في مؤتمر أنابوليس. ونددت الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي بمواصلة الاستيطان لأنه «يشكل انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي»، ويتنافى مع ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر أنابوليس، كما أن هذا الإجراء الاستفزازي، بحسب الأمانة العامة نفسها، يبرهن على نيات الإسرائيليين تكريس الأمر الواقع، «ويؤشر الى عدم الجدية في الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، ويدفع الجميع الى فقدان الثقة في جدوى عملية التفاوض».

لهجة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى جاءت أشد نبرة فهو طالب الولايات المتحدة واللجنة الرباعية الدولية والأمم المتحدة باتخاذ «موقف حازم» من «الخرق الإسرائيلي الخطير» الذي يشكل انتهاكاً للتعهدات التي ذكرت في قمة أنابوليس، فضلاً عن أنه انتهاك للقانون الدولي الذي يعتبر الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، أراضي محتلة.

كما أنه أشار، مشكوراً أيضاً، الى أن «هذا الخرق الإسرائيلي الفاضح يدمر أجواء الثقة المطلوبة قبيل استئناف مفاوضات الوضع النهائي (...)، ويثير الشكوك حول نيات إسرائيل الفعلية وعدم التزامها بما جاء في أنابوليس». حتى وزير الثقافة اللبناني، ووزير خارجية البلد الصغير (لبنان) بالوكالة، المثقف واللبق طارق متري، رأى من جهته أنه «ليس مستغرباً (ضعوا خطاً تحت هذه العبارة) أن يتفلّت الإسرائيليون من التزاماتهم مرة بعد مرة، أو ينفوا أنهم لم يتعهدوا في الأصل الإحجام عن توسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المصادرة. بل المستغرب (ضعوا خطاً تحت هذه العبارة) ألا يتعدى رد الوزيرة رايس الانتقاد المخفف والقائل إن بناء الوحدات السكنية في المستوطنات لا يساعد في بناء الثقة».

ورأى الوزير متري، شكوراً بدوره ومن دون مزاح، أن دور الحكَم الذي أعلنت الولايات المتحدة عزمها على الاضطلاع به يستدعي موقفاً أكثر حزماً، وأنه يتوجب على الدول العربية الأعضاء في لجنة مبادرة السلام العربية مطالبة الولايات المتحدة بممارسة ضغط فعلي على إسرائيل، «إذا ما كانت حريصة على صدقية العملية التفاوضية التي تعمل على إطلاقها».

اقتراحنا بالتوقف عند بعض عبارات الوزير متري، تحديداً تلك التي تتحدث عن الاستغراب وعدمه، يعود الى اعتقادنا بأن الاستغراب وعدمه أصبحا شعيرة من شعائر لغة «سياسية» شائعة لدى قوى 14 آذار ومثقفيها وإعلامييها. فالبيان الصادر عن أول اجتماع عقدته هذه القوى بعد حرب تموز (يوليو) الاسرائيلية على لبنان في عام 2006، أعلن «عدم استغرابـ« قوى 14 آذار لوحشية العدوان الإسرائيلي لأن هذه الوحشية من طبيعة هذه الدولة وطبائعها، مما يعني أن الاستغراب يطاول، من باب أول، من يتحرش بها وهي النائمة، وإن بعين واحدة، على حدود البلد الصغير.

لا داعي لتناول مواقف وتصريحات المسؤولين الفلسطينيين في السلطة الوطنية. فهم يجمعون، بطبيعة الحال، على اعتبار توسيع الاستيطان عقبة كبيرة أمام البدء في المفاوضات. وإذا ما أضفنا الى لوحة عبارات الاستنكار والتنديد والاستغراب (أو عدمه) توغل الجيش الإسرائيلي في غزة، وإن وصف بأنه محدود ويهدف الى تدمير البنى التحتية (دائماً البنى التحتية) للإرهاب الفلسطيني، حماسياً كان أو فتحاوياً أو غيرهما، لا يعود هناك شك في أن توسيع الاستيطان يسعى الى دفع الفلسطينيين نحو حرب أهلية تدمر ما بنوه ويبنوه من بنى تحتية. وسيكافأ مثل هذا التدمير للبنى التحتية ولشروط الحياة المادية بانتفاخ في البنى الفوقية ومعه جمالية بلاغية لا تقول شيئاً سوى بلاغيتها، كما يستفاد من قاموس التصريحات التي عرضناها. فلنحافظ على جمالية أخلاقنا، في الأقل، في انتظار أن يبلغ العرب وغيرهم سن الرشد السياسي وتعهد شروطه ومسالكه.
"الحياة"

التعليقات