31/10/2010 - 11:02

جمال عبد الناصر في ذكراه السادسة والثلاثين: تأملات وعبر/د.مصطفى كبها

جمال عبد الناصر في ذكراه السادسة والثلاثين: تأملات وعبر/د.مصطفى كبها
في الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل جمال عبد الناصر، الزعيم العربي والرئيس المصري الأسبق، والتي توافق في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، يجدر بنا أن نستعرض ميراث هذا الزعيم، ماذا تبقى منه؟ وما تأثير هذه البقية الباقية على صياغة معادلات ما يحدث من تفاعلات في الوطن العربي الذي أراد له عبد الناصر أن يكون وحدة سياسية واحدة، فضلاً عن كونه وحدة ثقافية وحضارية واحدة عصيّة على التجزئة ورافضة للتشرذم.

لن نتهم، حتماً، بالمغالاة إذا قلنا إن التجربة الناصرية (على منجزاتها وعلاتها)، هي أهم ظاهرة سياسية - فكرية ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين. إذ لم ينحصر تأثيرها في البلاد العربية فقط، وإنما تعداها إلى معظم الدول النامية ودول العالم الثالث، بل لا نجانب الحقيقة إذا صرحنا بأن هذه الظاهرة كانت من أهم المؤثرات على صياغة قوانين لعبة الحرب الباردة التي كانت منطقة الشرق الأوسط واحدة من أهم الحلبات التي جرت عليها مجريات تلك اللعبة.

لقد كان ظهور جمال عبد الناصر، كقائد لثورة تموز عام 1952، والمنطقة ترزح تحت تأثير اتفاقية سياسية سرية وتصريح علني منبثق عنها جرى إبرامهما أثناء الحرب العالمية الأولى بمبادرة من بريطانيا العظمى، قائدة الاستعمار الغربي في ذلك الحين، يتم من خلالهما رسم حدود المنطقة العربية وصياغة التفاعلات فيها بعد انهيار الدولة العثمانية، بشكل لا يسمح بتوحدها من جديد، ولا يعطي فرصة لظهور قوة فتية جديدة بحجم تلك الدولة التي شكلت، على مدار قرون عديدة، مصدر رعب للشعوب الأوروبية منذ وصول طلائع قواتها إلى مشارف فينّا وحتى تراجعها واضمحلال قوتها وتحولها إلى ما سماه الغرب ب"الرجل المريض" الذي لم يعجل اختلاف ربابنة السياسة الأوروبية بوفاته، ولم يزوده قباطنة التخطيط الاستراتيجي الغربي بأمصال الشفاء.

كانت انعكاسات اتفاقية سايكس - بيكو المبرمة عام 1916 والمجسدة بشكل فعلي في اتفاقيات السلام التي تلت الحرب الكونية الأولى وابتداع "قناع الانتداب" ليوارى به وجه الإستعمار القبيح، هائلة ومؤثرة إلى درجة جعلت تلك التغييرات الطارئة على المنطقة العربية تبدو أبداً سحيقة موغلة في القدم، صدق تبعاتها أبناء تلك الكيانات الممسوخة يهللون لها ويبالغون في تقديس رموزها التي صيغت، بمعظمها، في حمأة التكوّن والتصميم لتلك الكيانات في عهد الانتداب البغيض. وكذا الأمر ينسحب على تصريح بلفور الصادر في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 والذي تم تنفيذ مقتضياته حثيثاً على الأرض طيلة عهد الانتداب البريطاني على فلسطين. وقد وصل تنفيذ تلك المقتضيات قمته أثناء حرب ونكبة عام 1948 وتأسيس "الوطن القومي" لليهود بشكل رسمي في الخامس عشر من أيار من نفس العام.

في خضم كل هذه الظروف ظهر جمال عبد الناصر، وللوهلة الأولى أدرك، بحاسة الزعيم الملهم، أهم صعيدين من التحديات كان من المفروض أن يبكر، قدر استطاعته، بمواجهتهما: أولهما تصاعد تأثير الاستعمار الجديد، متمثلاً بالولايات المتحدة، بعد أن غادرت، ولو بشكل جزئي، رموز الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) معظم بلاد المنطقة العربية. وثانيهما تنامي تجذّر ظاهرة الوطنية المحلية التي غذّتها كتابات مجموعة من المثقفين المنبهرين بحضارة الغرب وهلوسات زعماء انتهازيين طاب لهم الجلوس على عروش بنتها تلك النزعات المحلية مستعينة بالقوى الاستعمارية، وقد وحّد الطرفين ذلك الخوف من الأفكار العروبية الوحدوية التي روجتها بعض بقايا الاستقلاليين من تلامذة ساطع الحصري وشكيب أرسلان الذين نأوا بأنفسهم عن المناصب الرفيعة التي منّاهم بها ذلك التحالف، غير المقدس، بين القوى الانتدابية الاستعمارية وأصحاب العروش المفتعلة، مع العلم أن بعض رفاقهم قد طالتهم صنارة ذلك الإغراء فرفلوا برفاهية المناصب ومتعة النفوذ.

بالنسبة للصعيد الأول، كان على عبد الناصر أن يختار خياراً صعباً بين قطبي السياسة العالمية اللذين أفرزتهما الحرب العالمية الثانية: من جهة كانت الولايات المتحدة التي سعت لأن ترث بريطانيا وسياستها الاستعمارية العريقة المتمثلة بالسيطرة على موارد الشعوب ومقدراتها وذلك من خلال إغرائها بالرفاهية ورغد العيش تحت ظل نظم رأسمالية مبنية على المبادرة الحرة والاقتصاد المنفتح تارة، وتهديدها بالقهر والعقاب والحرمان تارة أخرى. ومن جهة أخرى كان الاتحاد السوفياتي الذي جعل من سياسة ترويج شعارات العدل الاجتماعي وأخوة الشعوب والتحرر القومي والوطني أداة للحد من المد الرأسمالي الذي تزعمته الولايات المتحدة والدول السائرة في فلكها.

كان الاختيار الصعب بين معسكر يتبنى فكراً كان عبد الناصر يمقته وبين معسكر جعل ديدنه فكراً لم يستسغه. لقد مقت عبد الناصر الفكر الرأسمالي الذي رأى به فكراً استغلالياً يعطي فرصة للأغنياء والمتسلطين أن يمتصوا دماء الفقراء و"الناس الغلابة" كما كان يحلو له أن يسميهم، ولم يستسغ الفكر الشيوعي لتعارضه، في بعض مفاصله، مع فكره القومي -العروبي ومكوناته التي تقف الحضارة العربية الاسلامية منه موقف العصب من الجسم.

كان إنشاء منظمة الدول غير المنحازة بالتعاون مع نهرو وتيتو هي المعادلة الفصل بالنسبة لدوامة الاختيار، سيما وأن رفض الولايات المتحدة وحليفاتها لهذه المنظومة واستعداد الاتحاد السوفياتي لقبولها والتنسيق معها، قاد إلى تبني سياسة ما عرف ب"الحياد الإيجابي" الذي كان فيها الكثير من المناوأة للغرب والمعسكر الرأسمالي وتفهم لمواقف المعسكر الشيوعي وتأييد للكثير من مواقفه. ولعل أهم ما ميّز أداء عبد الناصر في هذا المضمار هو انعكاس الحياد الإيجابي على السياسة المصرية الداخلية، حيث تبنى المسار الاشتراكي ومبدأ العدل الاجتماعي ( الإصلاح الزراعي، القوانين الاشتراكية، الميثاق وبيان 30 مارس) دون أن يتبنى الفكر الشيوعي.

أما على الصعيد العربي الداخلي، فلم تكن متاعب عبد الناصر بأقل منها على الصعيد الآخر، كانت مناداته بالوحدة العربية الشاملة مربكة لبعض الأنظمة التقليدية المحافظة التي درجت على تبني نظام الأسر الحاكمة، الذي كان مسيطراً على العالمين، العربي والإسلامي، منذ قرون طويلة خلت. ذلك النظام الذي لا يسأل فيه الحكام عن رغبات المواطنين وتطلعاتهم ولا تطرح شرعية النظام ومدى تمثيله لتطلعات المواطنين على محك البحث الجماهيري ومجهر الرأي العام، بل أن بعض هؤلاء الحكام غالى في تأكيده لمدى شرعيته بشكل جعله يرى في نظامه تجسيداً للإرادة السماوية على الأرض. كما أنها كانت مقلقة لبعض الأنظمة التي أفرزتها فترة الانتداب ومنظومات الحماية بحيث وصل إلى السلطة في هذه البلدان لفيف من أبناء العائلات المتنفذة وطبقة المتعلمين الجدد (الأفندية) الذين كونوا معاً طبقة من"الإنتلجنسيا المتكيفة" التي تبنت طريق مهادنة الاستعمار وأعوانه من خلال معادلة من الحركات الوطنية الهجينة ذات الشعارات الفضفاضة، والتي أحسنت المناورة بين مصالحها الانتهازية ومصالح شعوبها. وفي الحالتين خاطب عبد الناصر أبناء الشعب العربي في تلك الدول من على رقاب حكامها بلغة دغدغت مشاعرهم القومية، وأذابت الحواجز الحدودية التي صنعتها اتفاقيات سايكس- بيكو ورسختها المصالح المشتركة للدول الاستعمارية (بأثيابها وأشكالها المختلفة) ولأعوانها في العالم العربي الذين لم يكونوا بالقلة.

لم يكن من السهل على جمال عبد الناصر أن يتعامل مع هذين التحديين بالنجاعة المطلوبة والنجاح المرجو. صحيح أنه حقق، في درب مقارعة المصالح الاستعمارية، منجزات لا تنكر، بدءاً من إفشال خطة حلف بغداد ومروراً بتأميم القناة وإفشال العدوان الثلاثي وترسيخ منظمة الدول غير المنحازة وإنشاء منظمة الوحدة الأفريقية الخ... وصحيح أنه جعل من القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى، بل قضية العالم الثالث برمته، وصحيح أنه نمّى مشاعر الوعي القومي وصاغ الأسس الممكنة لتجسيد هذه المشاعرمن خلال محاولة الوحدة مع سوريا ودعم الحركات التحررية التقدمية في دول عربية أخرى، مروراً بالثورة الاجتماعية والتقنية الهائلة التي حققها في مصر، إلا أن مقارعته لكل تلك التحديات وفي ذات الوقت، جعلت قدراته القيادية، العظيمة بلا شك، تنوء عن حمل كل تلك المسؤليات معاً هذا فضلاً عن تضافر جهود جبارة وظفها خصومه الكثيرون في سبيل إفشال المشروع الكبير الذي أخذ على عاتقه أمر إرساء أسسه وقواعده. هذا إذا أضفنا لذلك كله تجاوزات كثيرة نفذت باسم النظام ودمغت بعض رموزه بشكل أساء أيضاً لرأس النظام الذي لا تعفيه مسؤولياته الجسام، بأي شكل من الأشكال، من مسؤولية مراقبة المتجاوزين والضرب على أياديهم.

قد يقول قائل إن الشعب العربي لم يكن مهيئاً بعد لمثل ذلك المشروع، وقد يقول آخر إن الظروف الدولية لم تكن مهيئة هي الأخرى، وقد يقول ثالث إن فوران عبد الناصر الشعوري وحماسته القومية الزائدة أوقعته في بعض المطبات التي قصمت ظهر المشروع، كانفصام الوحدة مع سوريا وحرب اليمن وهزيمة حزيران عام 1967. ومع علمنا أن بعض الأقوال فيها بعض الصحة، إلا أن السؤال الأقوى يبقى في أي عصر ينتظر الزعماء الكبار الظروف كي تكون مواتية بشكل تام ليبدأوا الأعمال التاريخية التي ينوون القيام بها؟ وهل الإنتظار والتريث كان دائماً مكفول النجاح؟ وإذا استرسلنا بالتساؤلات وسألنا عن مدى جهوزية الشعوب العربية بعد نصف قرن ونيّف على بداية المشروع الناصري، لوجدنا أن مستوى الجهوزية سار في دالة متصاعدة مع المشروع، وتوقف مع بدء الردة علية مباشرة بعد غياب فارسه وتولي أنور السادات زمام الأمور في مصر، تلك الردة التي كان لها بالغ الأثر على المنظومة السياسية في المنطقة كلها وشديد الانتكاس في كل ما يتعلق بتحرير الفرد العربي من أغلال رواسب الفئوية والطائفية التي أراد له عبد الناصر أن يتحرر منها. تلك الرواسب التي تشكل، هذه الأيام، مادة الإشعال لعملية شرذمة العالم العربي وتقطيع أوصاله.

لقد كانت الضربات التي تلقاها المشروع السياسي الناصري، في مصر والعالم العربي، موجعة وقاصمة بشكل غيّب، إلى حد كبير، المفاهيم الأساسية لهذا الفكر عن الوعي العام لجماهيرمرحلة ما بعد عبد الناصر، ولكن البذور التي بذرتها تلك الفترة على قصرها (لم تتعد الثمانية عشر عاماً) في وعي من عايشها لم تمت بتاتاً، بل شهدت اندفاعات حميمية إلى السطح ساهمت في إيصالها إلى الأجيال الجديدة، خاصة وأن فترة الردة لم تأت بأكلها حتى للذين تبنوها وجعلوها منبراً لذم المرحلة الناصرية ورموزها.

التعليقات