31/10/2010 - 11:02

"حديث المؤامرات" في تظاهرات إيران../ مصطفى اللباد

يتابع العالم التطورات الدراماتيكية الجارية فى إيران وينقسم الرأى العام العربي بين مؤيد للتظاهرات باعتبارها "حقًا مشروعًا" لكل الشعوب، وبين مندد بها بوصفها "صنيعة الغرب" وأداته لتقويض النظام الإيراني.

وإذ دخلت التظاهرات التى تشهدها طهران احتجاجًا على نتيجة الانتخابات أسبوعها الثالث، فإنها خلقت واقعًا جديدًا يجب الاشتباك معه فكريا وفلسفيا. ويبقى السؤال مطروحًا: هل ما تشهده شوارع طهران مجرد "مؤامرة غربية" لقلب نظامها، أم أن التظاهرات تأتي تعبيرًا عن "إرادة شعبية" خالصة لا دخل للغرب بها؟.

يختلف التحليل السياسي عن التحليل الجنائي في أنه لا يتعاطى مع الأدلة المادية والحسية، بل مع المؤشرات والسياق. يبدو أن الإجابة الأقرب إلى الصحة عن السؤال تتلخص في كونها مزيجًا من الاثنين، أي أن التظاهرات تعبر عن إرادة قسم من الشعب الإيراني يستغلها الغرب لتحقيق أهدافه التي عجز عن الوصول إليها بالضغوط السياسية والاقتصادية على إيران.

والدليل على ذلك أن ردود الفعل الدولية على التظاهرات تدرجت وكانت غير منسقة في البداية، فهي بدأت على استحياء مع بداية التظاهرات ثم تصاعدت بالتوازي مع استمرارها وصمودها أمام قوات الشرطة والأذرع الأمنية.

وهنا يبدو بوضوح أن العامل الخارجي لا يصنع الأحداث في إيران، بل يلهث وراءها على العكس من دول شرق أوسطية أخرى، ودون أن يعني ذلك التورط في النفي المطلق لاحتمال أن تكون أطراف ضالعة في التظاهرات مدفوعة من الخارج بالفعل.

بدت حسابات الرئيس الأمريكى باراك أوباما مرتبكة، فقد كان ميالاً حتى لقبول نتيجة الانتخابات عند اندلاع التظاهرات، ثم عادت لهجته للارتفاع مع استمرار التظاهرات بالتوازي مع قرار الكونجرس الأمريكى الأخير بتأييد المتظاهرين بالإجماع تقريبًا.

تعتقد إدارة أوباما أن تيار نجاد يسيطر على الأمور في إيران وأن التظاهرات الحالية لا أفق سياسيا كبيرا لها، وبالتالي فقد حرصت واشنطن على عدم الانجرار إلى تأييد التظاهرات حتى لا تفسد فرصتها في الجلوس مع طهران لاحقًا إلى مائدة المفاوضات. وكان كل ما فعلته واشنطن في الأسبوعين الماضيين هو "تنويعات لفظية" على موقفها المتدنى السقف من التظاهرات.

ولا يفوت فى هذا السياق ملاحظة أن أوباما وجه رسالة إلى مرشد الثورة علي خامنئي عبر السفارة السويسرية، التي ترعى مصالح واشنطن في إيران، وبالتحديد في أوائل شهر مايو الماضي يقول فيها إن واشنطن مستعدة لمحاورة طهران بغض النظر عن شخصية الرئيس القادم.

كانت العواصم الأوروبية الأعلى صوتًا فى دعم التظاهرات وإن كان موقفها متدرجًا أيضًا، لأن الدول الكبرى لا ترسم سياساتها وفقًا للتفكير بالأمنيات ولكن على أساس موازين القوى على الأرض. تجرى اللعبة وفق قواعد وليست عشوائية: كل عاصمة لا تريد أن تكون راكضة وراء الأحداث بمسافة كبيرة لأن ذلك سيمنعها من استخدام التظاهرات للضغط على النظام الإيراني. وبالمقابل يعني الركض أمام التظاهرات واستباق نتائجها بعكس الواقع على الأرض خسارة أدوات التأثير، في حال أفلح النظام في قمع التظاهرات وتثبيت توازناته الجديدة.

على هذه الخلفية يمكن تفسير المواقف الغربية من التظاهرات، فليس الحرص على الديمقراطية هو الأولوية بل المصالح الوطنية لكل عاصمة وهو أمر من بديهيات المدرسة الواقعية في السياسة الدولية.

يبدو أن طهران ارتاحت إلى وصم المعترضين بالعمالة للخارج، لأن ذلك سيعفي الرئيس نجاد وتياره من التعرض للانتقاد تحت أي عنوان، وعندها دائمًا هدف سهل: لندن. اتهمت طهران لندن بالتدخل في شؤونها الداخلية بسبب خلفيات كثيرة من عدم الثقة بين الجانبين، وبسبب الأخطاء التاريخية التى ارتكبتها إنجلترا في إيران منذ فصل أفغانستان عن إيران بموجب معاهدة 1857 وحتى الاتفاق الثنائي الروسي ـ الإنجليزي 1905 على تقسيم إيران إلى منطقتي نفوذ شمالية وجنوبية تتحكم فيهما الدولتان على التوالي.

ولم تتوقف الأخطاء عند هذا الحد، بل إن لندن نسقت عملية الإطاحة بالزعيم الوطني الكبير محمد مصدق عام 1953 مع واشنطن، ولم تتوقف بعد ذلك عن الأخطاء حتى الآن. ويضاف إلى هذه الأخطاء التاريخية عامل مهم عند إجراء الحسابات الإيرانية وهو أن التكلفة السياسية لاتهام لندن أقل بكثير من هذه التكلفة في حالة باريس أو برلين أو واشنطن، بسبب المكانة الثانوية نسبيا التي تحتلها لندن في السياسة الدولية.

تقليب النظر في محتوى الرسالة الإيرانية باتهام الخارج يقود إلى أن لهجة الرئيس نجاد حيال واشنطن كانت هادئة على غير المعتاد، وبالتالي تريد إيران اختيار خصومها من الصف الغربي وتحييد الآخرين مؤقتًا من المواجهة. يعلم الرئيس الإيراني بأن التظاهرات الحالية وطريقة تفريقها بالقوة من طرف الأذرع الأمنية قد منعت فعلاً قيام حوار إيراني ـ أمريكي في الشهور القليلة القادمة، بقطع النظر عن مدى إلحاح رغبة أوباما في ذلك.

يمثل تعثر المفاوضات نتيجة ستسعد مجموعات ضغط بعينها داخل الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما ستناسب بالمقابل أطرافًا معلومة داخل إيران. وفي هذا السياق يبدو ملاحظًا أن عبارات التنديد والشجب الأوروبية الجارية الآن، لا تستهدف دعم التظاهرات فى المقام الأول بل خلق مناخ دولي يجعل مفاوضات أوباما مع طهران ـ باعتبارها تقمع المتظاهرين ـ غير ممكنة التحقق.

يقول التقدير الموضوعي لما يجري في شوارع طهران إن المتظاهرين أظهروا تصميمًا على الاستمرار بالتظاهر في مواجهة الأذرع الأمنية وإعلان مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي الأسبوع الماضي أن النتائج الانتخابية كانت "سليمة" و"نهائية". ولكن الملاحظ أن أعداد المتظاهرين تبدو في تناقص متتال بفعل القوة القهرية التي تواجههم من الشرطة، وبسبب عدم انضمام شرائح اجتماعية أخرى إلى مظاهر الاعتراض والتظاهر، وبحيث بقي المتظاهرون محدودين ضمن فئات اجتماعية بعينها.

وهنا يبدو الفارق كبيرًا بين الإحراج الذى تسببه التظاهرات للرئيس نجاد وتياره وللنظام كله، وبين استنتاج أن هذه التظاهرات هي مقدمة لتغيير أعمق وأكثر جذرية في إيران، وهو تفكير بالأماني لا يعكس واقعًا سياسيا على الأرض.

وجاء تلويح قوات الحرس الثورى بالتدخل في المظاهرات لقمعها بالقوة الجبرية علامة فارقة في التصعيد، لأن الحرس الثوري هي قوة النظام الضارية وأن استخدام الحرس لقمع التظاهرات يعني أن الأخيرة بلغت حدًا خطيرًا على مستقبل النظام وأنه يلعب أوراقه الأخيرة. وبالرغم من الإعلان لم يحدث هذا الاحتمال على أرض الواقع ولم يتدخل الحرس، لأن التظاهرات استمرت تحت سقف منخفض نسبيا، وإن كان التوتر بين التيارات السياسية الإيرانية قد بلغ حدودًا غير مسبوقة.

يتحول النظام السياسي الإيراني في أحوال كثيرة طائرًا خرافيا متعدد الأجنحة، إذ يستعصي المشهد السياسي في إيران على الاختزال في جناحين أو فريقين أو معسكرين فقط كما هى العادة في دول شرق أوسطية أخرى. إذا كانت قوانين حركة الطائر ذي الجناحين معلومة ويمكن توقعها: دائمًا إلى الأمام إما إلى الأعلى أو الأسفل. أما الطيور الخرافية فيصعب وجود ناظم لحركتها من الممكن أن تطير إلى الخلف ومن الممكن أن تطير وتريا وليس بالضرورة عموديا أو إلى الأمام فقط!.

هناك سيناريوهان في الحدين الأقصيين لتقدير ما قد يحدث في إيران: الأول أن يفلح النظام في قمع التظاهرات وهو الاحتمال الراجح، ولكن الشروخ على بنية النظام ستكون واضحة وسيخسر أحمدي نجاد معنويا وشعبيا في كل الحالات حتى مع انتهاء مظاهر الاعتراض. الثاني، أن تستمر التظاهرات لفترة قادمة، وفي هذه الحالة ستتجاوز معاني المظاهرات مجرد الاعتراض على نتيجة الانتخابات لتصبح اعتراض على كامل النظام، وتداعياتها ستكون خطيرة على مشروعية النظام الإيرانى بكل أجنحته.

يشبه ما تشهده طهران منذ أسبوعين ما شهده ميدان "تيان ان مين" في الصين قبل عشرين عامًا، وقتها قمعت التظاهرات ولكن النخبة السياسية أعادت تموضعها وغيرت تحالفاتها، ولم تعد إلى الصورة والنمط التى كانت عليهما قبل التظاهرات، بعضها صعد والبعض الآخر هبط بفعل هذه الأحداث. وينطبق ذلك على إيران ونخبتها فى حال توقفت التظاهرات الآن، لأن انقشاع الغبار عن الشارع سيخلف مشهدًا نخبويا مختلفًا.

تقول التجربة التاريخية لأعمال الاعتراض إن هناك شروطا يلزم وجودها كي تتحول مظاهر الاعتراض إلى تغيير في شكل الحكم، حيث تبدأ الثورات بأن تقوم فئة اجتماعية ما برفع صوتها للاحتجاج، وتنزل إلى الشارع في المدن الكبرى والعاصمة. في المرحلة التالية تنضم إلى الاحتجاج شرائح اجتماعية أخرى، بحيث تتوسع الاحتجاجات إلى مدن أخرى ثم تصبح أكثر عنفًا. وفي المرحلة الثالثة تنتشر المقاومة ضد النظام في المدن المختلفة، فيضطر الأخير إلى نشر قواته وأذرعه الأمنية لقمع التظاهرات. وتتمثل المرحلة الأخيرة في تأثر القوات الأمنية بالمتظاهرين بحيث تمتنع عن إطاعة أوامر النظام، فيتمكن المتظاهرون من الشارع ويغيرون من شكل السلطة.

هذا السيناريو حدث بالضبط في إيران عام 1979 عند سقوط الشاه السابق. وعلى العكس من ذلك تبقى الاحتجاجات في شكلها البسيط ومراحلها الأولية ولا تتطور إلى أكثر من ذلك إذا لم تنضم شرائح شعبية واجتماعية أخرى إلى مظاهر الاعتراض، ساعتها تنجح الأذرع الأمنية في قمع المتظاهرين بالقوة القهرية. وهذا ما حدث بالضبط في ميدان "تيان ان مين" بالصين عام 1989، إذ أن انتفاضة الطلاب لم تشارك فيها فئات اجتماعية أخرى وأصبح الطلاب معزولين اجتماعيا، فتدخلت الأذرع الأمنية وقمعت التظاهرات بسهولة نسبيا. الآن وبعد مرور أكثر من أسبوعين على بدء التظاهرات في طهران، يبدو أن مظاهر الاحتجاج من شرائح الشباب وذلك القسم من سكان طهران لا ترقى إلى مستوى الثورة، بالنظر إلى تجربة إيران التاريخية.

إذن تقف إيران على أعتاب إعادة اصطفاف فى نخبتها السياسية، فالتظاهرات والاعتراضات ستقرر فريقا فائزا وآخر خاسرا، كما أنها ستفرز رابحين وخاسرين على الجانبين وفي كل فريق ستتدرج درجة الخسارة ومستوى الأرباح. ستتحكم القاعدة الطردية التالية في رئاسة نجاد القادمة: كلما استمرت التظاهرات وكلما ازدادت أعداد المشاركين فيها وانتشرت فى أكثر من مدينة، كانت الخسارة المعنوية لرئاسة الجمهورية أكبر. وفي النهاية لا يبدو من تركيبة الدولة الإيرانية وتحالفات نخبتها أن ما يجري في شوارع طهران سيحسم النتيجة وحده، بل أيضًا ما يجري في الدوائر العليا للدولة الإيرانية وبالتحديد مساعي رفسنجاني لتكوين اصطفاف مقابل تيار نجاد.

خلقت التظاهرات من المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي شخصية صنعها السياق التاريخي، فهو وبحكم سنه المجرد ـ 67 عامًا ـ تفصله فجوة عمرية عن المتظاهرين من الشباب، كما أن مواقفه قبل الترشح للانتخابات وابتعاده لعقدين عن السياسة عوامل جعلته فاقدًا للكاريزما والتأثير إلى حد كبير. ولكن موسوي أثبت وبمرور الوقت أنه ينمو مع السياق التاريخي، فلم يستسلم للنتيجة أو لقمع التظاهرات كما كان متوقعًا، بل استمر معارضًا في الشارع ومستخدمًا مصطلحات ذات معان عميقة في وجدان الإيرانيين مثل "أنا توضأت استعدادًا للشهادة".

ومع ذلك يبدو أن الكتلة المستمرة بالتظاهر في الشارع تتشكل من مجموعات متفرقة يربطها خيط واحد هو معارضة سياسات الرئيس الإيراني سواء على خلفية اقتصادية أو المطالبة بمزيد من الحريات المدنية، أو راغبة في الانفتاح على الخارج أو حتى معارضة لكامل النظام الإيراني وليس الرئيس نجاد حصرًا.

والملاحظ على هذه المجموعات كلها أنها ربما تكون أكثر راديكالية من موسوي نفسه ولا ترتبط بنسق من المصالح مع نظام جمهورية إيران الإسلامية مثل موسوي، وبالتالي خطواتها قد لا تكون محسوبة كثيرًا مثل خطواته هو.

يبدو أن إيران تتجه إلى إعادة اصطفاف النخبة السياسية المعارضة لنجاد حول شخصيتين هما: هاشمي رفسنجاني محرك الأحداث الحقيقي في النخبة ومير حسين موسوي باعتباره المرشح الإصلاحي ومحرك المتظاهرين في الشارع حتى الآن، وبحيث سيكون نجاد في ولايته الثانية أضعف كثيرًا مما كان عليه قبل الانتخابات. في النهاية تبدو إجابة السؤال كالتالي: من ينعى على إيران "ديكتاتوريتها" عليه أن ينظر في المرآة أولاً، أما من يتهم المتظاهرين بـ"العمالة للخارج" فيستسهل إعفاء نفسه من مشقة التحليل بعد أن يصادر حق الناس في الفهم والمعرفة!
"العربي"

التعليقات