31/10/2010 - 11:02

حرب واستعمار وكرة القدم: مفردات أزمة دولية جديدة../ جميل مطر

حرب واستعمار وكرة القدم: مفردات أزمة دولية جديدة../ جميل مطر

مخطئ من يعتقد أن الاستعمار انتهى، وأصبح في ذمة التاريخ، وأن انجلترا لم تعد دولة امبريالية، ومخطئ أيضاً من يتصور أن الولايات المتحدة تستطيع أن تقف محايدة بين حليف، وإن كان متعدياً، وصاحب حق وإن كان جاراً، ومخطئ من قال إن الحالة المصرية الجزائرية المؤسفة كانت حالة نادرة في علاقة كرة القدم بالسياسة ولن تتكرر، ومخطئة جماعة المثقفين الجدد في العالم العربي التي تأمل في مستقبل لقضية فلسطين ينسى فيه شعبها وشعوب عربية أخرى واجب استعادة فلسطين.

مخطئون عديدون جمعتهم في الأسبوعين الأخيرين المواجهة الجديدة، أو بمعنى أدق المواجهة المتجددة بين بريطانيا والأرجنتين. حين أصدرت كريستينا كيرشنر رئيسة جمهورية الأرجنتين قراراً يحرم على كافة أنواع السفن الأجنبية الاقتراب من جزر المالفيناس (الفوكلاند) بعد أن أعلنت شركتان غربيتان عن نيتهما حفر آبار للتنقيب عن النفط، في منطقة من المحيط الأطلسي قريبة من الجزر يقال إن حجم احتياطي النفط فيها يقارب حجم احتياطي المملكة العربية السعودية . أما السؤال عن كيف نجحت المواجهة المتجددة بين الأرجنتين وبريطانيا في الجمع بين أطراف وقضايا كثيرة؟ فتجيب عنه قصة جزر المالفيناس وتطوراتها الأخيرة.

يقع أرخبيل المالفيناس في أقصى جنوب المحيط الأطلسي، ويتكون من جزيرتين كبيرتين هما جراند مالفينا وسوليداد وحوالي مائتي جزيرة صغيرة. ويبعد الأرخبيل عن أقرب نقطة على الساحل الأرجنتيني مسافة أربعمائة ميل بحري. تكاد الجزر في أغلب أنحائها تخلو من الأشجار بسبب شدة الرياح والبرودة والرطوبة، ويعمل سكانها بتربية الخراف والتجارة في أصوافها.

يبدأ التاريخ المعروف للجزر بوصول ماجيلان خلال رحلته الشهيرة إلى آسيا ماراً بجنوب الأطلسي، ومن بعده جاء مكتشفون فرنسيون وبريطانيون، احتل الفرنسيون منهم إحدى الجزيرتين الكبيرتين، واحتل البريطانيون الجزيرة الأخرى. وفي عام 1770 اشترى الإسبان الجزيرة التي احتلها الفرنسيون، وكانوا في ذلك الوقت القوة الامبريالية المهيمنة في أمريكا الجنوبية، وطردوا الإنجليز من الجزيرة الثانية. وفي عام 1816 ورثت الأرجنتين، بين ما ورثت عن التاج الإسباني، الأرخبيل . وفي عام 1820 أعلنت حكومة بيونس أيرس سيادتها على الجزر.

وبعد ثلاثة عشر عاماً من الإعلان الأرجنتيني وصل الأسطول البريطاني إلى الأرخبيل واستولى عليه، ولكن لم تعلن بريطانيا الأرخبيل مستعمرة إنجليزية إلا في عام 1892. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الأرجنتين عن المطالبة باستعادة الجزر، وأشهد من واقع معايشتي للشعب الأرجنتيني لسنوات غير قليلة أنه بكافة فئاته لم يستسلم لواقع الاحتلال البريطاني لجزء من أراضي الأرجنتين وإن كانت على بعد مئات الأميال.

حدث مثلاً في عهد حكومة الجنرال ليوبولدو جاليتيري، وكان واحداً من أسوأ عهود الظلم وإرهاب الدولة، أن أعلنت الحكومة شن الحرب على بريطانيا وقامت بعملية غزو بحري للجزر واحتلتها لمدة 74 يوماً وانتهت الحرب بهزيمة القوات الأرجنتينية وخسارة 255 قتيلاً لبريطانيا و649 قتيلاً للأرجنتين. مر على هذه الحرب حوالي ثلاثين عاماً، ويبدو أن عواصم كثيرة لم تتصور أن تثير الأرجنتين القضية من جديد وتصعّدها إلى حد إعلان كيرشنر رئيسة الجمهورية فرض حصار بحري جديد على الجزر. وفي أعقاب هذا التطور طرأ توتر شديد على جو العلاقات بين الدول الغربية.

اجتمعت دول أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى في منتجع كانكون الشهير بالمكسيك وقررت دعمها الكامل للإجراءات التي اتخذتها حكومة بيونس أيرس، وتأكيد حق الأرجنتين في سيادتها على الجزر. وبعد أيام قليلة وصلت هيلاري كلينتون إلى العاصمة الأرجنتينية لتقترح على حكومتها إحالة القضية إلى لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة.

وسرعان ما تناقلت أجهزة الإعلام هذا الموقف الذي فاجأ السياسيين في العديد من الدول، إذ لم يعرف عن أمريكا في السابق حرصها على استمرار هذه اللجنة أو إحالة قضايا إليها، كما أن تسرع هيلاري كلينتون خلّف الانطباع بأن واشنطن تتعمد الإساءة إلى لندن استمراراً لحالة خلافات عديدة ناشبة بين العاصمتين منذ فترة غير قصيرة. كان الموقف الأمريكي خارجاً على مألوف الدبلوماسية الأمريكية، بل إن أحداً لم يتصور أن أمريكا ستؤيد يوماً فكرة أن يطرح على المجتمع الدولي موضوع السيادة على الجزر.

كان منطقياً ومتوقعاً رد فعل الإنجليز الذين هددوا عن طريق وسائل الإعلام ورسائل سرية بسحب قواتهم من أفغانستان. بل إن تصريحاً رسمياً صدر في لندن وردت فيه عبارة “بعد كل ما فعلنا منذ سبتمبر/أيلول 2001، كنا ننتظر على أقلّ القليل دعماً معنوياً من واشنطن”. هكذا بدا واضحاً أن الخلافات حول موضوع تعذيب المشتبه في ممارستهم الإرهاب، ونشر تقارير تمس أسرار وكالة الاستخبارات الأمريكية. والإفراج عن عبدالباسط المقرحي المعتقل في سجون اسكوتلندا لإدانته بارتكاب جريمة إسقاط طائرة “بان أمريكان” في عام 1988، وادعاء بريطانيا كذباً بأن الرجل سيموت نتيجة مرض خبيث بعد ثلاثة أشهر، ولم يمت حتى الآن. بالإضافة إلى ما يتردد عن أن لندن لم ترتح إلى أوباما.

لا تنسى لندن ما جاء في مذكرات أوباما “أحلام من والدي” التي حكى فيها عن تعذيب جده على أيدي القوات الاستعمارية البريطانية أثناء نضالات الاستقلال الوطني التي أطلق عليها الإنجليز تمرد “الماو ماو”، فضلاً عن تعليماته التي أصدرها عند دخوله المكتب البيضاوي في البيت الأبيض حين طلب إخراج التمثال النصفي لونستون تشرشل الذي قضى في مكانه بالمكتب ثماني سنوات.

هذه القضايا مجتمعة ازدحم بها ملف الخلافات الأمريكية البريطانية في الفترة الأخيرة. لذلك لم يكن مفاجئاً الموقف الأمريكي الذي أعلنته هيلاري كلينتون، وفحواه أن أمريكا “تؤيد إدارة بريطانيا للجزر ولكن لا تؤيد فرض سيادتها عليها”. من جهتي أعتقد أن الموقف الأمريكي ناتج عن تسرع وسوء فهم أكثر منه انتقاماً من بريطانيا أو كسباً لود الأرجنتين وأمريكا الجنوبية. وأظن أننا سنرى قريباً تراجعاً في الموقف الأمريكي لأن واشنطن لا تملك أن تكون محايدة في السياسة الدولية، وهذه قضية أخرى مكان التفصيل فيها ليس هنا.

في الأرجنتين تحرك الشارع كعادته في القضايا الوطنية مؤيداً لحكومته. المثير أنه في دولة يتمحور النشاط الاجتماعي، وأحياناً السياسي، حول كرة القدم، كان طبيعياً أن يحدث ما يذكرنا بتجربة مررنا بها وكانت مماثلة في الأهداف والتفاصيل. خرج نبأ من الأرجنتين يعلن أن مشجعي كرة القدم الأرجنتينيين قرروا البدء في تنظيم الصفوف استعداداً للسفر إلى جنوب إفريقيا لـ”مقاتلة” المشجعين البريطانيين الذين سيرافقون الفريق الإنجليزي إلى مباريات كأس العالم.

إلى هنا والخبر عادي حتى إن فاحت من سطوره رائحة الاستعداد للمقاتلة. ثم تبين أن حكومة الأرجنتين قررت تمويل سفر ثلاثمائة من الأشخاص المدربين بواسطة أجهزة الأمن الأرجنتينية على مواجهة أعمال الشغب. هؤلاء الثلاثمائة قامت هذه الأجهزة باستدعائهم قبل أيام قليلة عندما نما إلى علمها أن “أعمال عنف يجري التحضير لها في بريطانيا” ضد الفريق الأرجنتيني وقررت أن يسافر مع الفريق عشرون ضابط أمن لمساعدة أجهزة الأمن في جنوب إفريقيا على التعرف إلى العناصر المشاغبة المندسة بين المشجعين الإنجليز.

جدير بالذكر أن السلطات الأمنية في الأرجنتين جنّدت هؤلاء الأشخاص من بين مجموعات من الشبان الخارجين على القانون والمعروفين في الأرجنتين باسم “المشجعين المتطرفين”Barras Bravas. تشتهر هذه الجماعة بممارسة أقسى أنواع العنف وكثيراً ما تستخدمها قوى الأمن وكذلك منظمات الجريمة المنظمة، ويتردد أنها مسؤولة عن إدمان الشباب المخدرات وأن مارادونا نفسه إحدى ضحاياها، ينضوون أحياناً تحت لواء تنظيم أشمل يطلق على نفسه “المشجعين المتحدين” لكرة القدم Hinchas Unidas Argentinas.

هكذا تكتمل الأزمة الدولية بعناصرها المتميزة: تاريخ وجغرافيا واستعمار جيوش وقضية وطنية ومشكلة اقتصادية وصراعات سياسية داخلية ومسجلون خطر وكرة قدم.
"الخليج"

التعليقات