31/10/2010 - 11:02

حركة "فتح" أمام مفترق الطرق/ عبد الإله بلقزيز

حركة
لا تشبه الأزمة الحادة التي تستبد اليوم بحركة “فتح” تلك التي اندلعت في صفوفها في لبنان ربيع وصيف العام ،1983 وقادت الى الانشقاق والحرب الداخلية. فالخلاف الفتحاوي في “الهرمل” و”البدّاوي” و”نهر البارد”، ومناطق أخرى من شمال لبنان، كان شديد الصلة بتباين الموقف السياسي بين جناحين من الحركة حيال مرحلة ما بعد خروج قوات الثورة من لبنان وتوزعها على المنافي، وحيال الموقف من الحل السياسي تحديدا: حيث بدا حينها وكأن قيادة “فتح” ومنظمة التحرير أبدت استعدادها للتجاوب معه من خلال فتح قنوات حوار حول “مبادرة ريغان” للتسوية و”مساعي” وزير خارجيته جورج شولتز لتحصيل موافقة فلسطينية على القرار 242 عبر السياسة الرسمية العربية وقمة فاس الثانية. والأهم من ذلك انه كان شديد الصلة بمداخلات عربية رعت حركة الاعتراض داخل “فتح” ورسمت لها صيغة سياسية (“الانتفاضة”)، وشجعتها على الذهاب الى حدود الانشقاق التنظيمي، في سياق مسعى أشمل الى حصاد نتائج اقتلاع الثورة من لبنان والامساك بمقاليد الأمور فيها.

دارت رحى الأزمة الفتحاوية حينئذ حول عنوانين سياسيين متقاطبين ومتنابذين: تصليب موقف “فتح” ومنظمة التحرير وإسقاط خيار الاندفاع نحو الحلول السياسية الأمريكية (على نحو ما جهر بذلك جناح من الحركة سيطلق على نفسه اسم “فتح الانتفاضة”)، ثم حماية وصون استقلالية القرار الوطني الفلسطيني من التدخل أو المصادرة العربيين (على نحو ما دافع عنه فريق القيادة الفتحاوية الرسمية بزعامة الشهيد ياسر عرفات). نظر المطالبون بتجذير خط “فتح” السياسي الى قيادة الحركة بحسبانها جانحة للتفريط بثوابت الحركة وميراثها الوطني؛ ونظرت القيادة اياها وجمهورها الحركي العريض الى المنتفضين بوصفهم ذراعاً داخلية ضاربة لسياسة اقليمية عربية شديدة الوضوح في أهدافها الاحتوائية والوصائية؛ فكان ان ضاعت في تضاعيف هذا التباين التحدي بين الفريقين فرصة استيلاد تسوية داخلية تنقذ وحدة الحركة من الانقسام، وتنقذ علاقاتها الداخلية من مشهد الاقتتال المدمر.

مع ذلك لم يكن خلاف “فتح” في ذلك الحين بخطورة خلافها اليوم، ففي الخلاف الناشب اليوم داخل فلسطين ملامح مختلفة تدعو الى القلق نستطيع ان نرصد منها ثلاثة رئيسية:

* أولها: ان الخلاف يدور بين مراكز قوى داخل الحركة تبلورت اتجاهاتها، وتشكلت دوائرها التنظيمية في مناخ من الاستقطاب الداخلي الحاد حول البرنامج السياسي، والتسوية، والحصص في السلطة، والعلاقة بالمقاومة. وهو خلاف شطر الحركة شطرين، ووقع الأعم الأغلب من وقائعه خارج أطرها التنظيمية (اللجنة المركزية، المجلس الثوري)، وكان في أساس التعطيل المستمر لعقد المؤتمر العام للحركة، وفي اساس شلّ مجمل النشاط التنظيمي فيها طيلة السنوات العشر الاخيرة على الاقل. والاخطر من ذلك انه انتقل من مجرد خلاف سياسي حول مواقف وسياسات الى تعبئة وتجييش وتحشيد وحروب كلامية خرجت عن نطاق تقاليد السجال، لتستعير مفردات التحريض والعنف اللفظي، ولتمزق البقية الباقية من الروابط النفسية بين الفتحاويين. ولم تلبث أحياناً ان وصلت الى حدود التمرد المسلح على قيادة الحركة على نحو ما حصل في غزة في صيف العام 2004.

* وثانيها: ان الصراع الفتحاوي الراهن ينذر بالانتقال من الحيز التنظيمي (الفتحاوي) الضيق الى الحيز السياسي والاجتماعي العام، فيستجر نتائج وتداعيات على مجمل نسيج الحركة الوطنية الفلسطينية ومجمل الوحدة الوطنية والأمن الاجتماعي، بالنظر الى ما تمثله حركة “فتح” من قوة ذات اعتبار على صعيد التمثيل الاجتماعي، وعلى صعيد الحياة السياسية، ناهيك بما في حوزة أطرافها المتصارعة من أدوات قوة أمنية وقتالية بحسبانها حزب السلطة الرئيسي. ويخشى ان تنفلت أوضاعها الداخلية فتستعصي على الامساك والضبط لتنفجر في موجات من الاصطراع العنيف لن ينحصر نطاقه ان اندلع ضمن حدود الحانقين على بعضهم: المتراشقين بالاتهامات. وأحسب ان الأوضاع الفلسطينية اليوم لا تتحمل اية مغامرات من نوع هذه التي يجري التعبير عنها في انزال المسلحين الى الميدان لخوض المعركة السياسية بدل السياسيين.

* أما ثالثها، ففي ان الصراع الفتحاوي الجاري ليس محكوماً بالضرورة بحسابات حركية صرف، ولا مرتبطاً على نحو حصري ب”أجندات” فتحاوية مستقلة، بل غالباً ما كان مفتوحاً على تأثيرات حاسمة لعوامل خارجية، ومتقاطعاً مع الكثير من مطالبها حتى دون ان يقدم نفسه، بالضرورة، أداة من أدواتها الوظيفية. ومكمن الخطورة في المسألة هنا بالذات: ف”فتح” التي كانت عنواناً مستمراً للمعركة السياسية من أجل استقلالية القرار الوطني (في وجه عبدالناصر والأردن وسوريا)، تجد نفسها اليوم امام لحظة مختلفة تماماً من محنة استقلالية القرار أمام أشكال جديدة من التدخل غير العربي فيه محمولا على قوى من داخلها، والأشكال تلك تبدو سافرة غير مبهمة أو مدفوعة الى التستر على النفس. فهي أطلت بوجهها القبيح منذ حصار ياسر عرفات في مقره، ودعوتها الفلسطينيين الى اختيار قيادة جديدة قابلة ل”التفاهم” مع “اسرائيل” (أي للتنازل لها) في القضايا التي تمسك فيها عرفات بالثوابت الوطنية؛ وبات الجميع يعرف حواملها الفلسطينية الداخلية ورموزها وألسنتها.

كان على “فتح” في معاركها الداخلية المؤسفة، صيف العام ،1983 ان تجد نفسها في مواجهة قرار اقليمي عربي بإمساك الورقة الفلسطينية في الصراع العربي والفلسطيني “الاسرائيلي” ومصادرتها من قيادة ياسر عرفات للحركة والمنظمة والثورة؛ وقد أصابت حظاً من النجاح في حفظ قرارها من المصادرة. أما اليوم، فعليها ان تواجه نوعاً مختلفاً من اختراق قرارها شديد الصلة هذه المرة باستراتيجية الهجوم المعاكس الأمريكي “الإسرائيلي” على الداخل الوطني الفلسطيني. ويخشى انها أمام هذا الهجوم الذي لا يقبل أقل من تمزيق ذلك الداخل وإغراقه في تناقضاته واستيلاد أسباب الحرب الأهلية فيه قد لا تستطيع جبهه أو استلال شعرة قرارها الوطني من عجينه.

التعليقات