31/10/2010 - 11:02

حق يأبى النسيان../ رشاد أبوشاور

حق يأبى النسيان../ رشاد أبوشاور
هذا العنوان الذي يعلي من شأن ( الحّق) وتشبّث صاحبه به_ وهو هنا شعب فلسطين_ من اختيار قناة (الجزيرة)، التي جعلته عنوانا لبرنامج متميّز، ما زالت تبثّه بمناسبة الذكرى الستين ( للنكبة).

على مدى الأربع وعشرين ساعة، تبّث الجزيرة، وتعيد بّث هذا البرنامج المتميّز، والغني بفقراته، واللقاءات التي تجريها المراسلات، والمراسلون، على امتداد الأرض الفلسطينيّة، وفي المنافي القريبة والبعيدة، مع شهود أحياء عاصرو النكبة، وفي قرى مدمّرة تشهد خرائبها على فظاعة جرائم العصابات الصهيونيّة.

من يتابع برامج الجزيرة، ستقع عيناه على مشاهد من نكبة ال48، تزوّده بما لا يعرف إن كان من جيل ولد بعد النكبة، وسمع عنها دون معرفة الوقائع والتفاصيل، وبهذا فالبرنامج ينشر ثقافة ( حّق العودة) على المستوى العربي، يثقّف، ويقدّم دروسا من تاريخ ماثل، ويحرّض.. بدون ضجيج، أو صرخ.

فإن كان المشاهد من جيل النكبة، وعايشتها، وقد بلغ الثمانين، أو يزيد، فإنه سيتابع الوقائع، والشهادات، وستسعيد ذاكرته معارك خاضها شعبنا آنذاك، ربّما كان له شرف المشاركة فيها، بتنهدات وحسرات ممزوجة بالدموع، والآهات، والتشبّث بالأمل، إن لم يكن بالعودة العاجلة، فبإعادة ( العظام) ولو بعد حين، لتدفن هناك في مسقط الرأس.

صورة المرأة الفلسطينيّة الممتلئة، الجالسة مغمضة العينين، كأنما لا تريد أن ترى هذا الهول، أو كأنها ترتّب في ذاكرتها تفاصيل ما جرى، في مقدمّة البرنامج، السيّدة الفلسطينيّة الفلاّحة بوقارها، وجلال حزنها، تعبّر عن الرعب، وثقل سقوط النكبة على رأس شعبنا.

تلك الصورة تقول أكثر مّما تقوله ( الموناليزا) التي قيل إنها بابتسامتها الغامضة المحيّرة عبّرت عن حزن فقدانها لابنها!
هذه الصورة، ذلك الوجه المتغضّن الذي يعتصره الوجع، هو تعبير الأبلغ إنسانيّا عن حدث رهيب لا شبيه له في عصرنا: اقتلاع شعب من وطنه، وإحلال مجموعات مجلوبة من أنحاء العالم لتسرق الأرض، والحقول، والبيوت، بعد اقتراف مسلسل جرائم وحشيّة دفعت أكثر من أم فلسطينيّة في لحظة الهول أن تحمل وسادة بدلاً من طفلتها، أو طفلها، ثمّ لتعود، أو ليعود الأب، لاقتحام الخطر، ومواجهة الموت، تضحيةً بالنفس لإنقاذ فلذة الكبد!
صورة السيّدة تلك، تحديدا الوجه، وطريقة جلسة الجسد، هي صورة الألم، والقهر، والغضب...

في برنامج ( حّق يأبى النسيان) التقينا بأمهات، وجدّات، برجال طعنوا في العمر، بالذاكرة اليقظة ( الثابتة)، حتى لكأنها توقّفت هناك في العام 48، عام النكبة، رافضة أن تتزحزح ولو مليمترا واحدا، فآخر مشاهد البيت، والحقل، والقريّة، والأهل، والجيران، ودّم الشهيد، هي المشهد الذي لا يمكن تجاوزه إلاّ بالعودة للانطلاق من عنده، من باب البيت، وبوّابة ( الحاكورة)، أو البيّارة، وهديل الحمام في الحرش المجاور...

تلك الجدّة تروي ما جرى عن مذبحة ما، وهذه العمّة ترسم المشهد كأنها يقع الآن، مشهد القتل في قريتها وكأنه أمامها لا يبارح ذاكرتها، وهي من جديد تغمض عينيها لأنها لا تريد أن ترى ما رأت، والمفارقة أنه ساكن في تلك الذاكرة!.

ذلك العجوز يزور قريته، ويتوقّف عند قبور أهله، وملاعب طفولته، فهو حفر في الصخر هذه الحفر الصغيرة ليلعب مع أصحابه ببزر المشمش، فجاء اليهود و.. فجّروا رأس صديقه، وطيّروا بزر مخّه، محققين وعد الرّب، ووعد بلفور!

ذلك العجوز _ رأيتموه بالتأكيد _ وسمعتموه وهو يتمنّى أن يجد من يلغمه، ويعينه ليذهب ويفجّر نفسه في محتلي بلده. أيستغرب أحد هذه المشاعر؟! أهو ( متطرّف) لأنه يحقد على عدوّ دمّر حياته؟! كيف بربّكم يمكن له التفاهم مع ذلك العدو؟!

الحق الذي يأبى النسيان هو حّق العودة، وحّق الفلسطيني في المقاومة لتحقيق هذه العودة، العودة التي ستظّل قريبة مهما بدت بعيدة، ففلسطين على مرمى النظر، وفي نبضات القلب.
الحّق الذي يأبى النسيان هو الحّق الذي لن يتحقق إلاّ بالمقاومة التي هي حّق للمقهور وسبيله لرفع الظلم، وتحقيق العدل والإنصاف.

مرّةً سمعت من يقول: لو كانت الفضائيات موجودة عام ال48 لما وقعت النكبة!
اليوم الفضائيات موجودة، في العالم كلّه، وبكّل اللغات، ونكبتنا مستمرّة مع ذلك، وهي تزحم فضاء الوطن العربي، تحكي بالعربيّة الفصحى، والمكسّرة، ورخص الأجساد وابتذالها، وقليلة هي التي تلّح على الحّق الذي يأبى النسيان: الجزيرة في المقدمة، بقوّة حضورها، وتأثيرها، وانتشارها، ولذا تستحّق أن نحييها، لا الفلسطينيين وحدهم، بل كّل ملايين العرب الذين يكتشفون بالأرقام، والحقائق، بالصورة والكلمة، بالقصيدة، والنشيد، بالحكاية، بالصرخة، بالمواّل والأغنية، حجم تضحيات عرب فلسطين، وقسوة العدو، وحشيته وجرائمه، من الطنطورة إلى دير ياسين، إلى الدوايمة، إلى يافا، إلى...

تعيد الجزيرة في حق يأبى النسيان سرد الرواية بلغة عربية، بالدم الفلسطيني الواضح تكشف الغطاء عن الجرائم، تجسّد صورة العدو كما هي، وتمضي بالعربي إلى القول الفصل، مطمئنا: أخي العربي الفلسطيني رغم كّل هذه المعاناة لم يستسلم، لم ييأس، وفلسطين هذه الساكنة في روحه، وعقله، ودمه.. تأبى النسيان، وحقّه فيها بتمامها وكمالها لن ينقص أبد الدهر، وعظمته أنه يقاوم ولا يستكين.. وهذا العدو بسجّل جرائمه، لا يمكن التعايش معه أبدا...

أهمية ما تفعله الجزيرة بهذا البرنامج الحيوي والحي، أنه يقول بفصيح الصورة والكلمة أن النكبة التي وقعت عام 48 لا يمكن أن تستمر، وأن الشعب المنكوب سيخرج من نكبته، ويعود لأرضه، سيعمّر بيوته، سيعلّق المفاتيح الكبيرة على صدور البيوت، فهذه المفاتيح برائحة لحم أيدي وصدور الأمهات، هي التي أعادتنا، رسمت طريقنا، صقلت أرواحنا، وقوّتها.

هذه المفاتيح الكبيرة التي تملأ الذاكرة، لتلك البوّابات الضخمة التي حطّمت، عادت، وهي بعودتها أنجزت العهد والوعد، وهي أوسمة شعب تعذّب و.. تكللت مسيرته بالانتصار.

نحن نتسلّح بالإيمان، والحلم، والمخيلّة، ولذا فحقّنا يأبى النسيان، والنكبة التي تلّح على حياتنا، ستكون يوما ما غير بعيد وراء ظهر شعبنا، فصلاً مشؤوما من فصول تاريخ فلسطين، ينطوي كما انطوى احتلال الفرنجة، وكما اندثرت ممالكهم في القدس، وعكّاء...

التعليقات