31/10/2010 - 11:02

حكاية ام محمد في سجن النساء في السليمانية../ هيفاء زنكنة*

حكاية ام محمد في سجن النساء في السليمانية../ هيفاء زنكنة*
نحن محاطون بالأرقام والإحصائيات. إحصائيات مثل سور يرتفع يوميا، حولنا، حتى يكاد يخنقنا لفرط ثقله. أحجاره مصنوعة من إشارات مجردة قد يراها البعض مجرد خربشة أطفال. الإشارات المجردة لا تمنحنا الإحساس بما يجري، قد تعطينا تصورا عاما الا أنها أعجز من أن تمنحنا الحس الإنساني العميق. فما هو معنى مليون قتيل من ضحايا الاحتلال؟ وما الذي يتركه في النفس ذكر إحصائية الخمسة ملايين مهجر من بيوتهم سواء إلى خارج أو داخل وطنهم؟ ومن منا يستوعب أرقام الخسارة المادية التي تكبدتها أمريكا في غزوها للعراق، وقد أطلت علينا بالتريليولانات، ونحن بالكاد قد توصلنا، في استيعابنا، إلى حدود المليار؟ وما الذي يعنيه اختفاء مليارات الدولارات العراقية جراء الفساد الأمريكي وتفرعاته العراقية؟ وهل للمليون أرملة وخمسة ملايين يتيم أصوات تصل الأعماق فتهزها أم أنها مجرد أرقام يكررها الجميع مثل اسطوانة مشروخة لم تعد تصدر غير الضجيج بدلا من الموسيقى؟

أن المستعمر (واعني بالمستعمر المحتل الأمريكي وملحقاته من العراقيين) يخشى الإحصائيات الفاضحة لجرائمه وإخفاقاته غير انه يخشى، أيضا، وقائع ما يجري للضحايا ولو كانت تتعلق بقصة شخص واحد. وأقصى ما يخشاه المستعمر أن يكون لضحية جرائمه وجه واسم. حينئذ يقع المحظور فيصبح 'الإرهابي' أو 'الصدامي التكفيري' أو 'المشتبه به' إنسانا، مواطنا، ينتمي إلى عائلة ومنطقة وله تاريخ شخصي ولديه، مثل بقية الناس، الحق في الحياة. وهذا أمر يود المستعمر طمره إلى الأبد إن أمكن إذ انه يود إحكام قبضته وهيمنته على ناس بلا وجوه وبلا أسماء، على حشود بلا هوية بلا مواطنة بلا حقوق. وهذا ما فعله النظام السابق، أيضا، حين اعتقد، تدريجيا، بأنه يمتلك حقا إلهيا في استهداف كل من يصنف تحت مسميات 'الغوغاء' و'التبعية'.

وقد استلمت، قبل أسابيع، عبر البريد الألكتروني، رسالة بعنوان إحصائيات وأرقام عن العراق بعد مرور ست سنوات على الاحتلال، تم تجميعها من قبل احد المتابعين للشأن العراقي، لرصد الوضع العراقي بكافة جوانبه الصحية والتعليمية والإنسانية والمعاشية اليومية. وهي أرقام كبيرة بكل المقاييس. وهي موثقة وصحيحة ومفيدة لفضح الواقع الكارثي الذي يعيشه المواطن العراقي، غير أنها، على الرغم من أهميتها في توضيح ملامح الصورة العامة، تفتقد الحس الإنساني وما يدفع القارئ إلى التماهي مع صاحب المصاب بحيث يدفعه إلى اتخاذ موقف.

وقد قامت وحدة توثيق الانتهاكات في هيئة إرادة المرأة، وهي منظمة نسوية عراقية، بتقديم نموذج يستحق الاقتداء به عند الكتابة عن مآسي أبناء شعبنا. إذ جمعت في شرح حال المواطنة أم محمد ما بين التوثيق الذي يمكن الأخذ به لتقديم المتهمين إلى العدالة أو تبني قضيتها من قبل المنظمات الحقوقية الإنسانية الدولية وما بين التعبير الإنساني الذي يجعل حالتها مثالا لما قد يحدث لأي مواطن آخر. يخبرنا تقرير الهيئة: 'أن أم محمد من محافظة الرمادي، مثلها مثل مئات وآلاف الأمهات والزوجات والأخوات، خاضت طريقها إلى السليمانية لزيارة أخيها المعتقل في سوسة، وبمجرد أن أنهت زيارتها، وهي في طريق العودة إلى بيتها، تم اعتقالها عند أول سيطرة خارج المعتقل، بتهمة باطلة ادعت فيها القوى الأمنية بان هوية الأحوال الشخصية التي تحملها أم محمد هوية مزورة'. وقد أكدت المعتقلة في لقائها مع الهيئة، لغرض توثيق حالتها، بأن التهمة رائجة وأن أعدادا كبيرة من النساء اللواتي يتكبدن عناء الوصول إلى ذويهن من المعتقلين في سجون السليمانية يواجهن ما واجهته هي أي التهمة بالهوية المزورة، ثم الاعتقال، ثم دفع الكفالة وقدرها ملايين من الدنانير (من 3 إلى 5) ملايين دينار عراقي.

وقد عوملت أم محمد إثناء التحقيق معها من قبل الأسايش (الأمن الكردي)، بطريقة سيئة تنضح بالعنصرية. وبعد تحويلها إلى القاضي عاملها، هو الآخر، بالطريقة ذاتها موجها لها الشتائم والكلام الجارح واصفا إياها بأنها 'صدامية تكفيرية'، ثم أمر بنقلها إلى سجن النساء 'كشتي' التابع إلى محافظة السليمانية. وتروي أم محمد بعض ما شاهدته في السجن الذي بقيت فيه 45 يوما، قائلة: 'في اليوم ذاته التي نقلت فيه إلى السجن أتوا بامرأة أخرى اسمها (س) من محافظة صلاح الدين، متهمة مثلي بان لديها 'هوية مزورة'. وقد اعتقلت عند أول نقطة تفتيش مرت بها بعد انتهاء زيارتها لأحد أقاربها، أظن انه ابنها. كانت المسكينة مريضة بالقلب، أجريت لها عدة عمليات جراحية باطنية وكانت تنتظر عملية أخرى، انهارت صحياً حد الموت، فتم الإفراج عنها بعد دفع الكفالة النقدية، وبعد أن تعهد ذووها أمام القاضي بإعادتها إلى المعتقل بمجرد أن تتجاوز مرحلة النقاهة في إثر العملية التي تحتاج إلى إجرائها، إلا أن المعتقلة توفيت قبل أن يسمح القدر بإعادتها إلى السجن.

وإغلاقاً لملف اعتقالها وحياتها معا، جلب ذووها إلى القاضي شهادة وفاتها. وكان معنا في المعتقل ثماني نساء أخريات' . وتصف أم محمد حال السجناء من الرجال بمرارة وألم قائلة: ' كان سجن الرجال لصيقا بسجننا، وبطريقة لن اكشف عنها (اعترفت المعتقلة أمامنا، بالطريقة التي أوصلت المعتقلات لمعرفة ما يجري خلف جدران قفصهن، وطلبت منا أن لا نكشف عنها حتى تبقى طريقا للأخريات يفضحن بها المستور وحتى لا نكشف للسجانين سرها). تبين لنا شهية السجان سالار لأجساد المعتقلين من أبنائنا، كان يدخل الشوكة في جسد أحد الرجال، كان صراخه يدمي قلوبنا، وبعد أن ينهي حفلته التعذيبية، يخرج والشوكة بيده والدماء تقطر منها ومن بين أصابعه، ويقوم بغسلها وغسل يديه من الدماء مبتهجا، ويشاركه السجانون الآخرون الضحك والابتهاج.

وتضيف وهي تسترجع تلك اللحظات بألم: كان الألم يعتصر قلوبنا، كان صراخ المعتقلين الذين يتعرضون للتعذيب طوال الليل يمنع عنا النوم، ويشوشنا الصراخ من جديد أثناء النهار، كان السجانون يتلذذون بتعذيب المعتقلين.

سألناها فيما إذا تعرضت هي أو النساء إلى التعذيب قالت: 'لم نتعرض للتعذيب الجسدي، كان من حسن حظنا إننا اعتقلنا بعد فضيحة نشرتها إحدى المعتقلات قبلنا في الإعلام الأجنبي وتحدثت فيها كيف أنها تعرضت للاغتصاب من قبل السجانين وبالمناسبة، فإن المعتقلة كانت كردية، في إثر الفضيحة جيء بسجانات من النساء، كان التعذيب معنويا، كن يشبعننا الشتائم وكن عنصريات بامتياز'.

وكان وضع أم محمد الصحي متردياً، إلى حد أنها أغمي عليها ونقلت، مقيدة اليدين إلى مستشفى السليمانية، وفيها تم اكتشاف إصابتها بالسرطان. خلال ذلك تمكن أخوها من تدبير مبلغ (5) ملايين دينار ودفعها ككفالة نقدية إلى المحكمة مقابل إطلاق سراحها، بعد أن عجز عن الإتيان بكفيل، حسب شروط المحكمة، التي كانت تشترط أن يكون الكفيل: كرديا، ألا يقل عمره عن 35 سنة، مدنيا، تاجرا ويحمل هوية غرفة التجارة الكردية.

وهي شروط، حسب تعبير أم محمد 'تعجيزية لاسيما أننا بعيدون عن السليمانية، ومن الصعب علينا معرفة شخص بهذه المواصفات'.

إن اعتقال أم محمد وغيرها، بعيدا عن مدنهن، وفي ظروف صعبة ومهينة، ومن ثم ابقاءهن كسجينات لحين تدبير المطلوب من المال، أمر اقل ما يوصف به هو انه اختطاف، وان النساء اللواتي لم يرتكبن إثما غير زيارة فلذات أكبادهن، هن في الحقيقة رهائن لدى نظام فاسد ماديا وإداريا لحين دفع الفدية.

إن ما تقوم به هيئة إرادة المرأة من توثيق واتصالات مع المنظمات العالمية ضروري جدا خاصة في حال انعدام وجود الدولة وسيادة حكومة الميليشيات. كما أن لتوثيق حياة الضحية ـ الفرد بتفاصيلها الصغيرة بدءا من الاسم والعمر ومكان الإقامة وانتهاء بشرح المشاعر وردود الأفعال، أهمية بالغة. فقد يصبح ذلك الفرد، ومن خلال الإحساس الجماعي بإنسانيته، الممتد عبر المشاركة وألفة الأشياء المتحدث عنها، رمزا للضحايا والمقاتلين والمقاومين. كما قد يؤدي التوثيق الصحيح المستند إلى الحقائق، ذات يوم، نهاية للمزايدات بحياة الضحايا، خاصة حين يتحقق مفهوم العدالة في ظل قضاء مستقل.
"القدس العربي"

التعليقات