31/10/2010 - 11:02

حكومة عموم الضفة../خليل شاهين*

-

حكومة عموم الضفة../خليل شاهين*

يتعلم الصغار من الكبار، ويقلدونهم في ألعابهم: شرطة وحرامية، عريس وعروس، لكنهم يبقون صغارا وإن استعجلوا الكبر.

تفعل حكومة سلام فياض الأمر ذاته، تحاول أن تتعلم من الكبار، الإسرائيليين والأميركيين والأوربيين، وتسعى لتقليدهم في توظيف لقمة العيش وإغلاق المعابر وقطع الكهرباء والأرزاق للضغط على حركة حماس في قطاع غزة. إنها تستعير سياسات "الكبار" في استخدام أساليب العقاب الجماعي لإحداث التغيير عن طريق الإخضاع، لكنها تبقى صغيرة وإن استعجلت الكبر.

في سياق تقليد "الكبار" ممن يفرضون الحصار على الشعب الفلسطيني، تبدو حكومة فياض كالغراب الذي حاول تقليد مشية الطاووس فنسي مشيته. إنها أصغر حتى مما تعتقد، فهي ليست حكومة لتقلد حكومات "الكبار"، ولا ضير في الاعتراف أنها أقرب ما تكون إلى "بلدية الضفة الغربية"، أو ربما جزء من الضفة، حتى وإن ادعى رئيس هذه البلدية أنها حكومة كل الفلسطينيين على كامل الأراضي المحتلة عام 1967.

ومثل هذا الادعاء يعيد إلى الأذهان قصة ومصير حكومة أحمد حلمي باشا، التي ربما حلمت وادعت بأكثر مما تفعل اليوم حكومة سلام فياض. هل تذكرون حكومة عموم فلسطين؟

خلافا لحكومة فياض التي أعلنت في الضفة، وإن ضمت "منفيين طوعا" من غزة، فقد أعلنت حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، في غزة، يوم 23 أيلول 1948، وقررت الهيئة العربية العليا والحكومة الجديدة، الدعوة إلى عقد مجلس وطني لتأكيد شرعية الحكومة وإظهار تأييد الشعب الفلسطيني لها. وانعقد هذا المؤتمر في الأول من تشرين الأول 1948 في غزة برئاسة الحاج محمد أمين الحسيني، وتم الإعلان فيه عن منح الشرعية للحكومة الجديدة، كما تقرر إعلان استقلال فلسطين وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة، مع رسم حدود فلسطين الدولية مع سورية ولبنان شمالا، وشرق الأردن شرقا، والبحر الأبيض المتوسط غربا، ومع مصر جنوبا، بل وأقر المؤتمر أيضا دستورا مؤقتا لفلسطين.

أما بقية القصة، فنتائجها الكارثية معروفة.. عقد الأردن مؤتمرا فلسطينيا مضادا في العاصمة عمان، في اليوم ذاته الذي انعقد فيه مؤتمر غزة، وأنكر المشاركون فيه تمثيل المؤتمرين في غزة للشعب الفلسطيني، وتلاه مؤتمر ثان في أريحا بتاريخ الأول من كانون الأول 1948، تم الإعلان فيه عن وحدة الأراضي الفلسطينية والأردنية، ثم تلاه مؤتمر ثالث في رام الله لدعم قرارات مؤتمر أريحا، فيما بقيت حكومة عموم فلسطين في غزة رغم اعتراف الحكومات العربية بها، باستثناء شرق الأردن، حتى نفت السلطات الملكية المصرية المفتي الحاج محمد أمين الحسيني وعددا من أعضاء المجلس الوطني، ومن ثم أعضاء حكومة عموم فلسطين، إلى القاهرة. ومع مرور سنوات على هذه الحكومة الشكلية، استقال بعض أعضائها، وانقطع آخرون عن حضور اجتماعاتها، واكتفى من تبقى بالمشاركة "الرمزية" في اجتماعات مجلس الجامعة العربية، حتى مطلع الستينات، وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية.

لا بأس بمثل هذه العودة إلى التاريخ، فهي تنعش الذاكرة لتعود إلى زمن لم تكن فيه الضفة والقطاع تحت الاحتلال بعد، ووجدت فيه حكومة وإعلان استقلال ودستور مؤقت أيضا، لكن في ظل انقسام فلسطيني سياسي وجغرافي، وانكشاف الظهر الفلسطيني أمام شتى التدخلات العربية والدولية. واليوم، بعد ستة عقود من تشكيل حكومة عموم فلسطين، يتكرر مشهد الانقسام السياسي والجغرافي، لكن بصورة أكثر مأساوية وكارثية، فقد بات لدى الفلسطينيين حكومتان لسلطتين تتشكلان في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى الحد الذي دفع بعض الإسرائيليين للقول بشماتة وسخرية: كان الفلسطينيون يريدون دولة فحصلوا على دولتين!

حكومة فياض أكثر تواضعا من حكومة أحمد حلمي باشا، التي أعلنت نفسها "شكليا" حكومة لعموم فلسطين، وانتهت للإقامة والعمل حتى خارج نطاق الأراضي الفلسطينية التي لم تكن خاضعة للاحتلال حينذاك. فحكومة فياض تكتفي باعتبار نفسها "حكومة عموم الضفة والقطاع" فقط، ومع ذلك فهذا الادعاء على تواضع أحلام أصحابه، يجافي حقيقة كونها أقل من "حكومة عموم الضفة". ورغم ذلك، كررت تجربة حكومة حلمي باشا، ولكن في الضفة، فقد تم عقد مؤتمرات للمجلس المركزي لمنظمة التحرير لمنحها الشرعية، كما فعل المجلس الوطني عام 1948، وصدرت مراسيم لدعمها من الرئيس محمود عباس، الذي يذكرنا دوره بدعم المفتي محمد أمين الحسيني لحكومة عموم فلسطين، مع فارق جوهري أن الأخير لم يحظ حينذاك بما تملك يدا الأول اليوم من اعتراف ودعم على المستويين العربي والدولي، إضافة لامتلاك حكومة فياض باشا أيضا مرجعية تتمثل في "إعلان وثيقة الاستقلال" ودستورا مؤقتا اسمه القانون الأساسي.

ومثلما انتصر الانقسام السياسي والجغرافي، والتدخلات الخارجية، على حكومة عموم فلسطين، ينتصر اليوم الانقسام ذاته والتدخلات عينها، إضافة إلى دور الاحتلال، على حكومة فياض، فلا هي حكومة لعموم الأراضي المحتلة منذ العام 1967، ولا حتى "حكومة عموم الضفة".

في واقع كهذا، لا تجد حكومة فياض أمامها من خيار سوى أن تمضي في تقليد "الكبار"؛ أن تنفخ نفسها كبالون لا يحتاج تنفيسه إلى عناء كبير، بل هي تحمل بيدها إبرة قد تفجره في أية لحظة، في ضوء إصرارها على تقليد "الكبار" في أسوأ سلوكهم لا أفضله.

ماذا يفعل "الكبار"؟

إنهم يفرضون الحصار على مليون ونصف المليون فقير فلسطيني في قطاع غزة، مع ضربات عسكرية إسرائيلية متتالية، يغلقون المعابر، يرفضون فتحها حتى أمام المرضى والطلبة والحجاج، يمارسون عقابا جماعيا بحق كل الفلسطينيين أملا بإجبارهم على "الثورة" ضد "حكومة عموم غزة" بقيادة حركة حماس.

فكيف ترد حكومة الضفة؟

إنها تقلدهم وتسعى لاستثمار نتائج سياساتهم العقابية ضد الشعب الفلسطيني؛ تفصل آلاف الموظفين، تقطع الرواتب عن الآلاف، ترفض الاعتراف بقرعة الحجاج ونتائج امتحانات طلبة "التوجيهي"، تمنع الدوام فيما تعتبره وزارات تابعة لها، تعفي كل الشعب في غزة من الضرائب وتمنع الجباية، ثم تطالب حكومة إسماعيل هنية بتحمل مسؤوليتها عن إطعام الفقراء، وعن إيصال التيار الكهربائي إلى كل بيت في قطاع غزة. بل يتحول وزير الإعلام في حكومة فياض إلى "ناطق" باسم الاتحاد الأوروبي مبررا سياسته التي أدت إلى حرمان نصف الغزيين من التيار الكهربائي بسبب سيطرة "حماس" على شركة الكهرباء، كما فعل بتبرير إغلاق معبر رفح! بل أسوأ من ذلك، يظهر الرجل أمام وسائل الإعلام في "نعيم التيار الكهربائي" شامتا بفقراء غزة، متوعدا إياهم بظلام دامس، ما لم يحتجوا على "حكم حماس" بالتظاهرات. إنه يدعو الناس كي تقاتل باسم حكومة الضفة ونيابة عنها، وهم الذين يتعرضون لعقاب جماعي بتواطؤ منها!

ولعل المثير للسخرية بعد كل ذلك، مطالبة الرئاسة وحكومة "وعيد الظلام الدامس" لحركة حماس بالاعتذار للشعب الفلسطيني، وتكرار العبارة ذاتها على لسان الرئيس وجميع المسؤولين والناطقين، وهي مطالبة "حماس" بالعودة إلى ما كانت عليه الأمور في قطاع غزة من دون طرح أي تصور حول رؤية الرئيس وحكومته لكيفية استعادة وحدة الفلسطينيين سياسيا وجغرافيا، وعلى الأقل كيفية العودة إلى الحوار وتشكيل حكومة وطنية واحدة، يمكن أن يطلق عليها، ولو مجازا، "حكومة عموم الضفة والقطاع".

لن يصفق الفلسطينيون لحكومة عموم الضفة، ولن يثوروا من أجل عيونها في شوارع غزة، حتى وإن ضاقوا ذرعا بحكومة عموم غزة. لن يقاتلوا دفاعا عن حكومة لا يوجد ما يقنعهم أنها تدافع عن مصالحهم وحقوقهم، بدءا بالقتال من أجل رفع الحصار وفتح المعابر ورفض تجويع الغزيين وتحويل القطاع إلى منطقة مساعدات إنسانية، مرورا بالقتال من أجل استعادة وحدة الفلسطينيين، وليس انتهاء بالقتال لرفض مقايضة وحدة الضفة والقطاع بمسار سياسي ينذر بإعادة إنتاج اتفاق "أوسلو".

لا، في ظلام غزة الدامس، وضوء كانتونات الضفة، لا يوجد ما يستحق التصفيق!


* كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في رام الله

التعليقات