31/10/2010 - 11:02

حين تستعير المطالب الديمقراطية صيغة "كفاح وطني"../ عبد الإله بلقزيز

حين تستعير المطالب الديمقراطية صيغة
لا تشبه الأخطاء في السياسة الأخطاء في التعبير، أو الأخطاء المطبعية، أو أي نوع من الأخطاء القابلة للتدارك والتصويب؛ إنها بالأحرى أقرب إلى أخطاء السيْر التي تنجم عنها حوادث موت أو عطب مزمن. ذلك أن السياسة بوصفها فعالية حاصل شروط موضوعية لا تتكرر دائما، مثلما هي ثمرة إرادات وأفعال لاتخضع لمنطق مزاجي، ولا تقبل الصفح عن هناتها في سائر الظروف والأحوال. ولذلك يَعْظم أمر السياسة على من اعتادوا على إرسال الأفعال على غير ما يقتضيه دقيق النظر والحساب، لأن أولاء في جُمْلة من قد يرتبون على الجماعة مصائر ما ارتضتها أو أجمعت الرأي على اختيارها. فإذا كان من مشمولات “حق” المرء الفرد أن يخطئ في إدارة ما يتصل به (لأن ذلك في عداد أقل ثمن عليه أن يدفعه لقاء تمتعه بالحرية)، فليس حقاً له أن يمارس “الحق” في إتيان خطأ يفيض عن فرديته، ليطال الجماعة والأمة يرمتها، ويرتب عليها: أمنا، وحقوقاً، ومصيراً، غرامات فادحة.

ذلك ما يصدق شديد صدق على جماعات سياسية أساءت الاشتغال بالسياسة، وأخطأت حسابها، فكان أن فرضت أبشع المصائر على قضيتها وأفدح الأضرار على جمهور تلك القضية من مقاتليها ومحازبيها وأنصارها! ومن علامات الإساءة تلك أنها أخطأت العنوان الإطار لنضالها، فعبرت عن مطالبها بغير ما يفترض التعبير به عنها، فاستعارت لذلك أسماء ليست تناسب نوع المسمى، ثم عمهت سياساتها في غيّ المغلوط من الخيارات، لتسفر المغامرة عن مقامرة، والاختيار عن انتحار.

مثالنا -الأوفى دليلاً على ذلك- حركات النضال من أجل الانفصال والاستقلال في مجتمعات السجال الداخلي حول الحقوق القومية لحقبة ما بعد الحرب الباردة. ولما كانت حالات هذا المثال تفيض عن الحصر وتستعصي عليه، فإن في الوسع إلقاء الضوء على أكثرها التهاباً في المنصرم من أواخر الأعوام، وهي -كما ليس يخفى على متابع- حالات البوسنة، والشيشان، والعراق، وكوسوفو، والسودان. ففي سائر هذه الحالات -وحروبها الضروس- عاينّا كل شيء يعجز العبارة عن الاسترسال والنفس عن الاستسهال والاستقبال. عاينّا الموت الذي لا حدود لجنونه، والدم الغزير الذي لا يبرره مبدأ ولا قضية، والوطن الذي يتمزق ببلاهة دون أن يملك أحد رتق أمشاجه المبعثرة في الجغرافيا والنفوس. عاينّا كيف تصبح السياسة ضرباً من الحماقة، وكيف تتحوّل الحماقة من شعور إنساني مرضي أو ضعيف إلى برنامج واستراتيجيا في العمل السياسي.

من المفهوم لدينا -تماماً- أن هذه الحماقة لم تخرج إلى الوجود عفواً، ولا أمكنها أن تُهرق كل تلك الدماء، وأن تُزهق كل تلك الأرواح اتفاقاً، بل كانت لها “أسباب نزول”، وأولها -وهو أهمها- سوء تدبير السياسة، أو إدارتها، وعُسر فهم الأولويات فيها. إذ اتجه معظم الراكبين مركب السياسة والصراع -في البلاد المذكورة أعلاه- إلى وضع برنامجهم ومطالبهم تحت عنوان المسألة الوطنية أو القومية. ومن الطبيعي أنه ما كان لهم -في امتداد هذا المسعى- سوى الأوْبَة بنضالهم إلى مطلب الانفصال والاستقلال. ولما كان ذلك مما يمتنع أمره عليهم بغير امتشاق السلاح، فقد وضعوا في حوزة السلطة في ديارهم ألف سبب للرد على تمردهم المسلح بما تفوق عليه في كثافة النار والتطرف في الاختيار! والنتيجة؟ قدّم الانفصال سائر الذرائع والمبررات أمام حرب أهلية أتت على أخضر السلم الأهلي ويابسه.

لا مناص من باب التوزيع العادل للمسؤوليات من القول إن السلطة، في الحالات التمثيلية المذكورة، قدمت مساهمتها في إنتاج الشروط التحتية: السياسية والنفسية، للانفصال بسبب سياسات احتكار السلطة، وهضم الحقوق، وانتهاك الحريات، التي نهجتها طويلاً، وأصابت الأفراد والجماعات، خاصة منها الجماعات التي تحرص على صون هويتها الاجتماعية أو الدينية من التبديد. وهي سياسات أغلقت على المعارضات طريق المطالبات السلمية لتدفع بها إلى ممارسة العنف، كما نقلت تلك المطالبات من حيزها الطبيعي: النضال الديمقراطي، الى حيث أصبحت مطالب وطنية، أي بلغة أخرى حولت وجهة تناقضات تلك المعارضات من الصراع مع سلطة إلى صراع مع الكيان الوطني.

ذلك صحيح بغير شك، لكنه لا يبرر البتة استثمار الخطأ: خطأ السلطة، لإنتاج خطيئة! إذ لو كان امتناع تحميل الحقوق الديمقراطية يسوّغ لحق التعبير عنها في صورة مطالب وطنية، ثم في صورة انفصال واستقلال، لما بقي هناك كيان وطني موحّد على خارطة العالم.
"الخليج"

التعليقات