31/10/2010 - 11:02

درس حزب العدالة والتنمية في تركيا../ د.عبدالإله بلقزيز

درس حزب العدالة والتنمية في تركيا../ د.عبدالإله بلقزيز
لا مرية في أن الذين خاضوا المعركة الانتخابية التركية في مواجهة “حزب العدالة والتنمية” متوسلين بالرمز الأتاتوركي، مستدعين إياه عنواناً ايديولوجياً لحملة أرادوها فاصلة مع الإسلاميين، يدركون متأخرين مقدار ما أصابهم من فاجعة في ما سعوا فيه، ليست تقل وطأة عن فاجعة الهزيمة الانتخابية النكراء التي حصدوها والتي ربما بدت أهون من الأولى: نعني من فاجعة فقدان امتياز استعمال ورقة العلمانية الكمالية في إحراج الإسلاميين، أو في حشرهم في الزاوية الأضيق أو في دق إسفين بينهم وبين الرأي العام التركي.

فلقد تبينوا في ضوء هزيمتهم أن شعب تركيا لم يعد يحفل كثيراً بما كان يحسب إلى عهد قريب في عداد مقدساته السياسية غير القابلة للانتهاك. بل إن أقل ما يمكن لهم أن يستنتجوه من هزيمتهم في هذه المنازلة السياسية الجديدة مع خصومهم، هو أنه لم يعد من المناسب لهم بعد هذه الموقعة أن يخوضوا معاركهم الانتخابية تحت عنوان علماني، ليس لأن هذا العنوان قليل الفوائد والعائدات، بل لأنهم يغرّمون العلمانية نفسها بهزائمهم ويدفّعونها منها ومن مستقبلها في تركيا ثمن تلك الهزائم، و بالتالي فهم يغامرون بالمزيد من تعريضها إلى المهانة!

اجتمع علمانيو تركيا هذه المرة على ما لم يسبق لهم أن اجتمعوا عليه في ما مضى من عقود وانتخابات: الائتلاف والمحالفة لإلحاق الهزيمة بالإسلاميين. هان مقابل ذلك نسيان الفروق والاختلافات في السياسة والايديولوجيا.

لم يعد البون بين اليسار ويسار الوسط، بين الاشتراكيين والليبراليين، يلحظ بالميكروسكوب أو يقرأ بمفردات النظرية السياسية وعلم الاجتماع السياسي، بل بات قابلاً لرتق ايديولوجي تحت عنوان مصلحة مشتركة “ثقافية” بين هُلّع خوَفة من اختطاف المجال السياسي والسلطة من قبل نخبة لا تشارك العلمانيين تقديس العلمانية، أي بلغتنا تحويلها إلى ديانة سياسية جديدة.

وأمام هذا الهدف الثقافي الجامع لا قيمة عند اليسار إن كان “حزب العدالة والتنمية” أقرب اليه في المسألة الاجتماعية من الليبراليين، ولا قيمة عند الآخيرين إن كان الحزب إياه أقرب اليهم من اليسار في الموقف من عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، كما لا قيمة عند القوميين أن يكون موقف الحزب من المسألة الكردية أقرب إليهم من موقف غيره من الأحزاب، التي صهرها حزب الشعب الجمهوري انتخابياً بما في ذلك الاحزاب التقليدية، المهم العلمانية، ولتذهب السياسة والمصالح الى الجحيم.

في غمرة الشعور بنشوة التحالف العلماني، نسي علمانيو تركيا مسألتين كثيراً ما ذهلوا عنهما: أولاهما ان فكرتهم التأسيسية التقليدية عن العلمانية كمقدس سياسي لدى الشعب التركي وكمتّحد اجتماعي ومجتمعي جامع إنما هي من مواريث الماضي “قبل نصف قرن” ولا تقبل التمديد في الزمان. وهي في أفضل أحوال الظن بها محض فرضية سياسية تقبل الإثبات أو الدحض (في مختبر الاقتراع)، بل إن التجربة الانتخابية الحديثة أقامت دليلاً على بطلانها حين سدد لها التصويت الشعبي التركي ضربة منذ منتصف عقد التسعينات الماضي: بمناسبة صعود “حزب الرفاه”، وزعيمه نجم الدين أربكان، إلى السلطة “بعد التحالف مع حزب تانسو تشيلر”.

وثانيتهما أن من مشكلات العلمانية في تركيا ارتباط اسمها ووجودها واستمرارها باسم المؤسسة العسكرية: هذه التي تنزلت بقوة أحكام الأمر الواقع منزلة السادن الذي يحرس حومة هذه العلمانية وحوزتها. وهكذا لم يعد محكوماً على هذه العلمانية بأن تتخلى عن قاعها المدني والديمقراطي، فتستعيض عن حُماتها الأصلاء “الشعب” بحماة تستعيرهم من خارج بيئتها، بل بات عليها ان ترتضي حماية نفسها من الشعب نفسه ومن مؤسساته الدستورية، من حكومة وبرلمان.

لقد ذهب علمانيو تركيا إلى هزيمتهم بأعين مفتوحة حين اختاروا أن يخوضوا المعركة الانتخابية ثقافياً أو بعناوين وأدوات ثقافية. ومن النافل القول إن قضيتهم كانت لهذا السبب ولأسباب أخرى خاسرة، ليس لأن خصمهم “حزب العدالة والتنمية” أعلى كعباً وأمضى سلاحاً وأوفر حيلة في معركة الثقافة، “وإن كان شيء من ذلك صحيحاً على كل حال”، ولكن لأن المعركة سياسية في المقام الأول، ولأن الجمهور في هذا النوع من المعارك لا ينتظر مِن المتنافسين “فتاوى” وأجوبة فكرية على اعضالات السياسة والاجتماع والاقتصاد، وإنما ينتظر أجوبة سياسية تشفي غليل السؤال في هموم الخبز والسكن والاستشفاء والتبطل والتغطية الاجتماعية والتضخم. وهي هموم بددتها نسبياً تجربة سنوات خمس من الحكم قضاها “حزب العدالة والتنمية” في السلطة، وكان أداؤه فيها مُقنعاً وُمشبِعاً للكثير من الانتظارات.

الأدعى إلى “الاستغراب” وهنا موطن المفارقة أن “حزب العدالة والتنمية”، الذي يفترض انه أكثر إفراطاً في الولع بالهاجس الثقافي والدعوي في عمله السياسي، تخفف كثيراً من عبء هذا الهاجس وانصرف إلى مخاطبة الهواجس السياسية للناس بما هي المسألة البرنامجية الأساس. انصرف الى خوض مساجلة سياسية حقيقية، بمفردات السياسة وأدواتها، وأعرض عن أي جدل يقع في باب “علم الكلام السياسي” عن العلمانية ونصاب الشرعية فيها، واكتفى بالقول إنه يحترمها كقاعدة للنظام السياسي في تركيا، وإنه لن يتخلى عنها أو ينقض عليها، من دون أن يقوى خصومه حتى على مجاملة المشاعر الدينية لشعبهم! نجح الحزب وخسر خصومه. وهو نجح لأنه حزب سياسي حقيقي، أما هم فقد خسروا لأنهم انحدروا من أحزاب سياسية الى جمعيات ثقافية. هذا درس إسلامي تركي في السياسة: هل يستفيد منه العرب؟
"الخليج"

التعليقات