31/10/2010 - 11:02

دلال المغربي.. تواريخ ومفارقات../ أمجد ناصر

دلال المغربي.. تواريخ ومفارقات../ أمجد ناصر
كنت أتناول قهوة الصباح مع ميشيل النمري في مقهى 'أبوعلي' بالطريق الجديدة عندما سمعنا أصوات إطلاق رصاص. زخات متقطعة من الرصاص، خرجنا الى الشارع فرأينا عربات عسكرية تندفع، وأشخاصاًَ يهرولون. لم يكن يبدو أن هناك اشتباكاً مسلحاً بين تنظيمين فلسطينيين، كما جرت العادة، ولا كان ذلك اليوم ذكرى انطلاقة أحد التنظيمات.

الجلبة التي سادت الشارع أوحت بشيء من الخفة إن لم يكن الفرح. سريعا عرفنا أن الأمر يتعلق بعملية 'نوعية'. عملية فدائية كبيرة في فلسطين. لكن بلا تفاصيل. ذهب ميشيل الى مجلة 'الحرية' التي كان يعمل فيها، فيما هرولت أنا إلى مقر عملي في مجلة 'الهدف'.

كان العاملون في 'الهدف' يتحلقون حول الراديو. بدأت الأنباء تتواتر. انزال فدائي على الشاطىء الفلسطيني. قوة كوماندوز فلسطينية، تستولي على حافلة ركاب اسرائيلية. اختطاف. اشتباك مع الجيش الاسرائيلي. الحافلة تقلّ جنوداً. الحافلة تقل مدنيين اسرائيليين. مجموعة الكوماندوز الفلسطينية تقودها فتاة. مقتل وجرح عشرات من الاسرائيليين واستشهاد المجموعة المقاتلة.

كانت هذه عناوين الأنباء التي سارعت الإذاعات إلى بثها، كل حسب قربه أو بعده من المقاومة الفلسطينية. عند الظهر، أو بعده بقليل، كانت تفاصيل العملية بدأت تكتمل. عرفنا أنها كبيرة فعلاً. كان المشاركون فيها نحو اثني عشر مقاتلاً. التنظيم الذي تبناها هو 'حركة فتح'. أما قائدة المجموعة فهي فتاة من فلسطينيّي لبنان تدعى 'دلال المغربي'.

كانت تلك أكبر، وربما أنجح عملية عسكرية فلسطينية تتمكن من اختراق الحواجز الأمنية الاسرائيلية. عملية حملت اسم كمال عدوان الذي اغتيل مع أبو يوسف النجار وكمال ناصر قبل أربع سنين. سيكون هناك قاسم مشترك، يا للعجب، بين أسماء أولئك الشهداء السابقين وبعض اللاحقين. القاسم المشترك رجل واحد. قصير القامة. ذو وجه يصعب تحديد جنسه. عيناه مراوغتان. لا يمكن لمن يرى صوره أن يصدق أنه قاتل من الدرجة الأولى.

بعد عملية كمال عدوان امتلأت شوارع الفاكهاني وأزقتها بملصقات تحمل صور قائدة الهجوم الجريء. صورة لدلال المغربي بشعر أشعث ترتدي ثياب ميدان مرقطة وتحمل بندقية، وصورة مدنية بشعر مسرح بعناية، تنظر بثبات الى الكاميرا. الصورة الأولى قد تكون التقطت لمناسبة العملية نفسها، أما الثانية فهي على الأغلب، لجواز سفر أو بطاقة هوية.

بسرعة البرق صارت دلال المغربي اسطورة. فتلك هي المرة الأولى التي تسند فيه قيادة مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين والعرب إلى فتاة. من اسطورة دلال ستولد أساطير أخرى: سناء محيدلي، لولا عبود، سهى بشارة. لكن ما يميز عملية دلال المغربي أنها لم تكن انتحارية. لم تذهب لتفجير نفسها. هذه الفكرة لم تولد بعد. بل قادت عملية هجومية قد لا تعود منها، لكن المقصود كان القتال وجهاً لوجه. المواجهة.

مخطط عملية دلال المغربي كان 'أبو جهاد' الرجل الثاني في حركة فتح. بل رجلها الميداني الأول. ليست الصدفة وحدها بل المصائر العربية البائسة هي التي جمعت هذه المفارقات: في عام 1974 يقوم ضابط اسرائيلي قصير القامة باختراق بيروت الغربية ويتمكن مع مجموعته من اغتيال ثلاثة من اعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح هم: أبو يوسف النجار، كمال عدوان وكمال ناصر.

بعد أربع سنين يخطط 'أبو جهاد' لعملية نوعية تقودها الفدائية الشابة دلال المغربي. القائد الميداني الاسرائيلي الذي يتصدى لعملية دلال ورفاقها ويتمكن من قتلهم جميعاً (لكن بعد أن قتلوا وجرحوا أكثر من مئة اسرائيلي) هو نفسه الضابط قصير القامة الذي له وجه يصعب تحديد جنسه.

بعد عشر سنين من هذا التاريخ تتسلل مجموعة موساد اسرائيلية الى بيت القائد الفلسطيني 'أبو جهاد' في ضاحية سيدي بوسعيد في تونس وتتمكن من اغتياله والعودة سالمة إلى قاربها على الشاطىء، وسيكون مخطط العملية هو نفسه الضابط قصير القامة الذي له وجه يصعب تحديد جنسه.

في آذار (مارس) عام 1978 لم نكن نسمع بإسمه. قد تكون الدوائر الأمنية تعرفه لكن ليس الجمهور. في نيسان (ابريل) عام 1987 كان اسمه قد بدأ يسمع خارج دوائر الأمن والعسكر. ثم صار في العام 1991 رئيساً لهيئة أركان الجيش الاسرائيلي، ثم رئيساً لحزب العمل عام 1997 إلى أن وصل إلى رئاسة الوزراء عام 1999، وصار رجل سلام! الضابط الاسرائيلي قصير القامة الذي له وجه يصعب تحديد جنسه (لهذا السبب بالذات تنكر في زي امرأة شقراء ودخل بناية كمال عـــدوان وأبو يوسف النجار) هو، كما تعرفون: إيهود باراك، الذي اضطر في عملية 'الرضوان' إلى اعادة رفات دلال المغربي التي التقطت له الصحافة الاسرائيلية، في حينها، صورة وهو يشد جثتها المسجاة على الأرض من شعرها.

لكن الأطرف، لِمَ لا أقول الأكثر مدعاة للألم والتأمل في آن، هو الخبر المقتضب التالي الذي أنهي به مقالي من دون تعليق: تجري حركة فتح استعدادات لإقامة مهرجان مركزي في رام الله احتفاء بعودة رفات دلال المغربي إلى لبنان!
"القدس العربي"

التعليقات