31/10/2010 - 11:02

"دوغما" التوطين../ الفضل شلق

أجمع اللبنانيون والفلسطينيون على رفض التوطين، منذ البداية. صار هذا الرفض جزءاً من الدستور اللبناني بعد اتفاق الطائف. لكن ذلك لم يحسم الأمر لدى اللبنانيين، أو لدى قسم منهم على الأقل. يحتاج هؤلاء إلى موضوع التوطين رغم معرفتهم باستحالته، ورغم معرفتهم بأن الفلسطينيين لا يرغبون بأكثر من العودة.

العودة إلى الوطن أمل الفلسطينيين، وهي أيضاً أمل اللبنانيين المهاجرين، المغتربين، وإن اختلفت أسباب اغترابهم. تأسس الوطنان في مؤتمر فرساي، بعد الحرب العالمية الأولى. صار اللبنانيون شعباً ودولة؛ وصار الفلسطينيون شعباً بلا دولة. ليس الحديث هنا عن عشوائية حدوث الدول والأوطان، بل عن التشابه الكبير بين الوطنين، اللبناني والفلسطيني.

هُجِّر الفلسطينيون قسراً، ليقيم مكانهم شعب مستورد. يهجر اللبنانيون إرادياً، الآن، ومن قبل، وربما قبل الفلسطينيين، ليقيم في أرضهم وهم الوطن والدولة. لا يستطيع اللبنانيون إنهاء حرب أهلية، ولا حتى تشكيل حكومة، إلا بضغط من الخارج. لبنان وطن تتآكله الانقسامات، من جميع الأنواع. فلسطين وطن ينقسم على نفسه، بعد أن لم يكن كذلك، بتأثير الحصار الدائم الذي تضربهم به إسرائيل وما يسمى المجتمع الدولي. يبدو الأمر كأن فلسطينَ إسرائيلُها ضغط خارجي، بينما لبنان يشكل إسرائيلَهُ من داخل الذات. فلسطين تدمرها إسرائيل، بينما لبنان يدمر نفسه. إسرائيل في الحالتين تعبير عن العجز.

يعرف اللبنانيون أن الدستور يمنع التوطين، ويدركون أنه لا يمكن أن يحدث دون ضغط خارجي كبير، وأن الضغط الخارجي لا يمكن مواجهته إلا بقوة مجتمع منتج متماسك. ماذا فعل اللبنانيون غير اختيار سياسة العجز، من أجل هذه المواجهة؟ هل يقول لنا القادة السياسيون إنهم يشكلون وطناً قادراً على رفض التوطين بينما هم لا يستطيعون تشكيل حكومة؟

يشمل نظام العجز كل شيء في لبنان: عجز في موازنة الدولة، عجز عن استخدام أموال القطاع الخاص والمصارف في الإنتاج، عجز عن ضبط الأمن؛ عجز في الدفاع؛ عجز في الكهرباء وهي متوفرة؛ عجز في إيصال مياه الشرب وهي متوفرة؛ عجز في ضبط السير، والأمر سهل؛ عجز عن توفير فرص العمل رغم ازدهار القطاع الخاص؛ عجز عن خفض هجرة الريف إلى المدينة والهجرة إلى الخارج، والحلول ممكنة ببناء صناعة وزراعة منتجتين في الريف والمدينة.

العجز يشمل كل شيء تقريباً. هو جوهر النظام اللبناني، وهو عجز مفتعل بالسياسة؛ وهو عجز مبرمج لصالح قلة من اللبنانيين، وهو عجز مفروض على اللبنانيين اليوم، والأمس، وفي مختلف العهود. لقد أفلح النظام السياسي اللبناني الممثل بالحكومة والمجلس النيابي في الإحجام عن نقاش أية خطة للخروج من العجز، ولم يتبنَّ أية خطة منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، رغم وفرة الخطط. اختار اللبنانيون نظاماً للعجز، وهم يصوِّتون لهذا النظام، وهو نظام لا ينتج عنه وطن بل وهم الوطن؛ ولا يقود إلى الدولة بل إلى وهم الدولة. يمتنع اللبنانيون، عن مناقشة ومعالجة قضاياهم ويجدون في النهاية أن ما بين أيديهم هو «قبض ريح».

لذلك يحتاج اللبنانيون إلى «دوغما» التوطين. لا يستطيع اللبنانيون تحديد أو تعريف أنفسهم إيجاباً، لا يستطيعون تحديد أنفسهم بذاتهم، بما هم عليه وبما يمكن أن تقود إليه الإرادة اللبنانية. ليس هناك إرادة لبنانية، هناك نظام العجز وحسب. اضطر اللبنانيون إلى تحديد أنفسهم بالغير وتعريف أنفسهم سلباً. ليس وجودهم هو الأساس والمعيار، بل هو وجود الغير المهدِّد.

في الوقت نفسه، على هذا الآخر أن لا يشكل خطراً وذلك بأن يكون فاقد الحقوق والإرادة، وناقص الوجود الإنساني. على هذا الآخر الفلسطيني أن يكون موجوداً وغير موجود في آن معاً، كي يستوفي شروط العجز. الفلسطينيون موجودون في لبنان وهم مجردون من الحقوق ومقومات الوجود الإنساني. لا يشكل الفلسطينيون ذاتاً، إذ انهم جردوا من الحقوق، بل هم مجرد آخر للبنانيين؛ آخر فاقد القدرة كما اللبنانيون فاقدو القدرة. العجز الفلسطيني وجه آخر للعجز اللبناني، والحرب الأهلية الفلسطينية وجه آخر للحرب الأهلية اللبنانية.

كان يمكن للفلسطينيين أن يكونوا شيئاً مغايراً في لبنان، لو كان اللبنانيون شيئاً مغايراً في لبنان. أدى نظام العجز اللبناني - الفلسطيني إلى جعل الفلسطينيين مجرد آخر للبنانيين، وإلى منع اللبنانيين من تحديد أنفسهم إلا بهذه السلبية. اختار اللبنانيون ديموقراطياً نظام العجز فصادروا الآخر الفلسطيني لملء الفراغ، فراغ الدولة والوطن والشعب. يُسَرُّ اللبنانيون أن يكون لهم آخر بينهم. لم يقدروا على غير ذلك. ربما كان ذلك هو إنجازهم الوحيد.

يحتاج اللبنانيون إلى «دوغما» التوطين لمنع تحقيق ما لا يمكن تحقيقه أساساً. يحتاجون إلى تكرار هذه الدوغما كي يؤكدوا الثقة بذاتهم، لأنهم يعلمون أن لا شيء آخر لديهم يبعث على الثقة أو الاعتداد بالذات.
"السفير"

التعليقات