31/10/2010 - 11:02

دولة العسكر الباكستانيّة والفشل في بناء الدولة الأمّة../ ماجد الشيخ*

دولة العسكر الباكستانيّة والفشل في بناء الدولة الأمّة../ ماجد الشيخ*
من نقمة السياسة إلى لعنة العسكرة تتقلب باكستان اليوم، وكما كانت على الدوام، منذ الأمس البعيد على جمر «انقلاباتها» الدموية وصراعاتها القبلية والطائفية والمذهبية وحروبها لتصنيع قوى الإرهاب وانقلاب هذه عليها، وتجنيدها في الحرب على الإرهاب الذي أسهمت في تصنيعه وتخلقه، تلك التقلبات والانقلابات التي تجعل من السياسة والاقتراب من السلطة محرقة، ليست فردية فقط، بل عائلية كذلك؛ على ما أضحى عليه حال عائلة بوتو في باكستان وعائلة غاندي في الهند. وإن كوّنت بنازير بوتو وحزبها، ونواز شريف وحزبه، ومجموع القوى الدينية المعارضة، واجهة المشهد السياسي في تنازعه السياسي الرئيسي مع السلطة بطابعها العسكريتاري، فإن المؤسسة العسكرية تبدو وسط فوضى الاضطراب السياسي والأمني الراهن، هي المؤسسة الوحيدة المتماسكة والمؤهلة للاستمرار بالقبض على مداخل العملية السلطوية السياسية ومخرجاتها؛ العسكرية الطابع، التي هيئ لها أن تحكم أمة دون أن تمتلك أي مؤهلات أخرى؛ سوى مؤهلات ممارسة السلطة القهرية، بلا أي هدف؛ ديموقراطي أو وطني في بلد فشل خلال ستين عاماً في أن يؤسس دولة الأمة، وإن نجح في إقامة دولة للعسكر.

وباغتيال بنازير بوتو عشية الانتخابات العامة، تدخل باكستان نفقاً مظلماً يصعب التكهن بمآلات اصطراعاتها السياسية، رغم قدرة المؤسسة العسكرية على الإمساك بالسلطة من خلف ظهر «الرئيس الجنرال» برويز مشرف، الذي أخفى بزته العسكرية اضطراراً لا اقتناعاً، لمواصلة الإمساك بمفاصل سلطة العسكر ومقاديرها بعيداً من سلطة الشعب المغيبة أو سلطة الأمة التي ستبقى تغيبها على الدوام تلك السلطة الغاشمة في دولة للعسكر لا للأمة. وإذا ما استمر الاضطراب الأمني والسياسي، فقد يؤثر ذلك على إجراء الانتخابات، وقد يؤدي إلى إعادة فرض حالة الطوارئ مجدداً، ما يعني أن اغتيال بنازير بوتو قد يكون هدف إلى فرض نوع من انتكاسة سياسية على مسار الديكتاتورية العسكرية ومسيرتها رغم تغيير جلدها.
وهكذا، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً، منذ أن أعلن الجنرال ضياء الحق الأحكام العرفية في باكستان، ها هو الجنرال برويز مشرف بعد كل هذه السنوات يعيد دولة العسكر تلك، إلى أحد أكثر أشكالها بدائية، بإسقاطه الخيار السلمي والمدني الديموقراطي لاستعادة الحوار بين القوى السياسية والاجتماعية، في بلد يصر حكامه على الاحتكام للقوى القمعية المسلحة، للحفاظ على مصالح القوى المهيمنة، وإبقاء الوضع الراهن عند حدود تلك المصالح، ولمصلحة تلك القوى ومن يدعمها من قوى خارجية؛ الولايات المتحدة تحديداً.

وهكذا تبدو الأمور في باكستان، كأنها تستعيد تاريخ اللهب الذي أسهم في تكوين هذا البلد، من فورة بركان ما يني يتفجر بين الفينة والأخرى، كما لو أن مجمل تاريخ هذا البلد قد عاد إلى بدايته، منذ استيلاء الجنرال أيوب خان على السلطة عام 1958 لمنع قيام انتخابات كانت مقررة ذاك العام، إلى أن أدت حركة جماهيرية إلى إسقاطه عام 1969. لكن حين وافق خليفته الجنرال يحيى خان على منح الشعب حق اختيار حكومته، قام الجنرال بدفعهم إلى أتون حرب أهلية دموية أبطلت اختيارهم، مغلقاً درباً كان يمكن أن يفتح على ديموقراطية واعدة.

هذه الحرب أدت إلى تفسخ الدولة القديمة عام 1972، حيث نتج منها إنشاء بنغلاديش، بتعرض القيادة العسكرية العليا الباكستانية لضربة قاسية جراءها. لهذا كان عليها أن تنتظر خمسة أعوام قبل أن تشرع في مغامرة جديدة. وكان التزوير الواسع النطاق لانتخابات عام 1977 هو الذي أتاح لها هذه الذريعة. لكن في ما بين عامي 1977 و1979 ظل الجنرالات الذين يقفون خلف انقلاب ضياء الحق، مستمرين في عدم الوفاء بالوعد الأول الذي قطعه الجنرال على نفسه بإجراء انتخابات جديدة، بل وصل به الحال لاستغباء قدرات الشعب الباكستاني العقليةوالاستهانة بها، بإعلانه عام 1978 أنه «سمع في منامه هاتفاً يشير عليه بأن الانتخابات أمر يتنافى مع تعاليم الإسلام»! وفي أيلول 1979 سمح نظام الأحكام العرفية بإجراء انتخابات محلية غير حزبية، ورغم انخفاض نسبة الإقبال على الإدلاء بالأصوات (أقل من 50 في المئة) فقد فاز فيها حزب الشعب بأغلبية حاسمة، وإن كانت الخلافات داخل الحزب قد حالت دون أن يحرز انتصاراً أكبر، وهو الحزب الذي قام الحكم العسكري بإعدام زعيمه (ذو الفقار علي بوتو) قبل ذلك بخمسة أشهر فقط من تلك الانتخابات، التي أظهرت إمكان عودة حكومة يؤلفها حزب الشعب، الأمر الذي دفع الحكم العسكري في تشرين الأول (اكتوبر) 1979 إلى تأجيل انتخابات عامة لأجل غير مسمى، وهي الانتخابات التي وعد بها الجنرال ضياء الحق على أن تجري في تشرين الثاني (نوفمبر). وعلى طريقة برويز مشرف وخطاه في انقلابه الثاني الآن؛ سعى ضياء الحق يومها إلى استكمال انقلابه الأول بانقلاب ثان، بفرضه الحظر على كل الأحزاب السياسية، وحظر النشاط السياسي من أي نوع، وأغلق معظم صحف المعارضة وشدد الرقابة... إلخ، من إجراءات قمعية عقابية شاملة.

والآن، عبر قراره فرض حال الطوارئ، ومن ثم إلغاؤها، وربما إمكان العودة إليها مجدداً، يعيد الجنرال مشرف باكستان إلى أجواء الاضطراب وعدم الاستقرار، التي عاشتها طوال سنوات انفصالها عن الهند منذ عام 1947. منذ ذلك التاريخ، وعسكر الانقلابات يعيدون ممارسة هيمنتهم واستعراض قوة عضلاتهم وعضلات مشغليهم الخارجيين من أرباب الهيمنة، في مواجهة شعب الباكستان المبتلى بدولة العسكر، وعسكر السلطة، وسلطة القمع «القدري» في دولة «الأقدار الدينية». وها هي «سنوات الجمر» الانقلابية، تعيد تكرار ذاتها، عبر محاولات الانقلابيين على الدوام، تتويج ذلك بفرض التسليم بأهدافهم والنكوص بمسيرة ديموقراطية متعثرة ومتعسرة لم تتم ولم تكتمل مرة، والتماهي في الحرب على الإرهاب بتكليف من الولايات المتحدة، والإبقاء على تماهي السياسة والعسكرة في أروقة نظام عسكري، لا يبدو أنه في صدد الاستجابة لصوت الجمهور والمجتمع المدني والمعارضة ومؤسسات القضاء، وذلك بالعودة إلى فصل العسكرة وطموحات العسكر عن الحكم السياسي المدني. ولئن قاوم الجنرال مطولاً إغراء التخلي عن البزة العسكرية، إلا أن خضوعه أخيراً لم يعف باكستان من استمرار الأزمة ـــــ الأزمات التكوينية للدولة التي يتنازعها ويتناتشها العسكر والأحزاب الفاسدة، مجهضين أمل تحولها يوماً إلى دولة للأمة، لا البقاء عند حواف المترسة على حدود دولة العسكر، ولو كانوا بالبزة المدنية.

ويبدو الآن أن الرئيس مشرف الذي شهدت شعبيته تدهوراً ملحوظاً خلال عام 2007، زاد من حدته قراره فرض حالة الطوارئ التي استمرت أكثر من شهر ونصف الشهر، قد يواجه مأزقاً حقيقياً إذا ما أصر على إجراء الانتخابات في موعدها رغم اغتيال بنازير بوتو وإعلان نواز شريف إلغاء مشاركة حزبه فيها، وذلك في ظل تضييق فرص الخيارات المتعددة أمامه وغيابها. فبحسب بعض المحللين والخبراء، فإما أن يلجأ إلى التزوير ليتمكن من الاحتفاظ بالسلطة، وإما أن يتحالف مع بعض خصومه، وإما أن يتخلى الجيش عنه بموافقة واشنطن، ليحمل جنرالاً جديداً إلى السلطة، وهو السيناريو الأكثر تشاؤماً أمام مشرف الذي بات متهماً من واشنطن بتبديد «أموال الحرب على الإرهاب» وصرفها في مجالات خاصة بتطوير أسلحة. وهو ما كشفته صحيفة نيويورك تايمز (24/12) حين نقلت عن مسؤولين حكوميين وعسكريين أميركيين أن أكثر من خمسة مليارات دولار من المساعدات الأميركية لباكستان، لم تصل إلى وحدات الجيش التي تقاتل عناصر القاعدة وطالبان، بل حُوِّلَت بدلاً من ذلك إلى أنظمة أسلحة تستهدف الهند، ولتغطية نفقات الوقود والذخيرة في باكستان.

وهكذا تعود باكستان لتؤكد مجدداً مسيرة المغايرة التي حكمت انفصالها عن الهند عام 1947، ففيما استطاعت الهند أن تبرز قوةً ناهضة اقتصادياً، بقيت الباكستان تراوح في ترديات أوضاعها غير المستقرة على كل الصعد. إلا أن الأهم أن السياسة الباكستانية السلطوية، ناهضت على الدوام إمكانات النهوض السياسي الديموقراطي، وحافظت على اقتصاد تابع، ولم تستطع أن تطور فكراً سياسياً يخرجها من ظلمات الإقطاع والعشائرية والحزبية الفئوية الضيقة، إلى رحاب فكر قادر على إنهاض دولة عصرية، كما نجحت الهند، حين حققت إنجازها الأهم بحفاظها على النظام الديموقراطي العلماني، وعبره القيام بإنجازات نهضة اقتصادية وسياسية واجتماعية وتنموية شاملة.

على العكس من ذلك، كانت سنوات الغضب والفوضى الدستورية الشاملة، عبر الحكم العسكري وقوانين الأحكام العرفية والطوارئ وإلغاء الدستور، بمثابة إعلان للقطيعة مع الديموقراطية ومع إمكانات النهوض المدني؛ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في دولة العسكر، ليس إزاء النقص في مشروعية هذه الدولة، بل أبرزت أزمة شرعيتها التي توارثت أساليب حكمها من إرث الإقطاعية، والأوليغارشيات العسكرية، والطغم المالية التي استبدت بالباكستان شعباً ومجتمعاً وأعراقاً وطوائف، طوال سنوات من الأحكام العرفية المتناسلة من إرث دولة ضيعت هويتها، وحتى شرعيتها منذ اللحظة الأولى لانفصالها عن الهند، من حيث أرادت تأكيد هذه الهوية أو تلك الشرعية، فلا هي وجدتها في الدين الذي بررت به عملية انفصالها برفضها منحه أي مضمون اجتماعي أو اقتصادي، ولا هي استطاعت أن تبلور وطنية باكستانية خاصة بهوية قومية ما فتئت تبحث عنها وعن ماهيتها، وعن شرعيتها المغيبة والغائبة منذ البدء؛ مرة عبر تدينها السياسوي، ومرات عبر سياسوية طبقية استبدادية لمجموعات من الأجهزة الأمنية التابعة، لمركز إمبريالي، استطاع وما فتئ يوظفها لمصالحه الخاصة، في لحظات توتر وعدم استقرار ليس داخل باكستان فقط، بل على مستوى دور إقليمي ما زال فاعلاً، على مستوى الإقليم الآسيوي وما جاوره من أقاليم وأدوار إقليمية على مستوى المنطقة العربية وما يجاورها من أقاليم الجيرة القريبة، وذلك ما يجعل الرهان الأميركي على دور النظام الباكستاني في الحرب على الإرهاب، والاندراج في الاستراتيجية الأميركية رهان اليوم كما هو رهان الغد، وكما كان على الدوام رهان الأمس الانفصالي عن الهند، استمراراً للحفاظ على دولة العسكر، التي أثبتت أنها بعد ستين عاماً من إنشائها، لا يمكن أن تنجح يوماً في رهان بناء دولة لأمة من المواطنين الموحدين حتى ولو كانوا متعددين في انتماءاتهم.
"الأخبار"

التعليقات