31/10/2010 - 11:02

دولة لا غنى عنها../ جميل مطر*

دولة لا غنى عنها../ جميل مطر*
يد الصين في جيب كل منا، أو في جيوب أغلبيتنا. قليلون هؤلاء الذين لا يشترون كل يوم شيئاً صنع في الصين أو أنتج، وأقل منهم هؤلاء الذين لم يشتروا أو استهلكوا شيئاً صنع أو أنتج هناك. ومع ذلك يجب أن نعترف أن الصين لم تحاول يوماً، أو مرة واحدة حتى الآن على الأقل، أن تسلبك ما تملك أو تأخذه من دون وجه حق، أو تضغط سياسياً أو اقتصادياً لتحصل على ثروتك ومواردك الطبيعية، وبالتأكيد لم تحرك أساطيلها وأسراب سلاحها الجوي وجحافل جيوشها لتحتل أرضك وتجبرك على إصلاح سياساتك لتصبح أنت وبلادك سوقاً مفتوحة لتجارتها واستثماراتها وهيمنتها. والصين، قبل هذا وذاك، لا تحاول أن تفرض نفسها نموذجاً رغم إنجازاتها الفائقة والمبهرة، ربما لأنها غير متأكدة من أن شعوب العالم النامي جاهزة لأن تقدم مزيداً من التضحيات بحريتها وحقوقها السياسية، وربما لأن التجربة الصينية غير قابلة للتكرار، فالدول الأخرى لم تمر بمرحلة “غسيل الأخلاق” التي مرت بها الصين عبر ثورة وطنية واجتماعية امتدت خمسين عاماً ونظام حكم شديد العنف قرأ جيداً ماضي الصين وخطط للمستقبل.

يبلغ تعداد الصين ما يزيد على مليار وثلث المليار، وتملك احتياطيات نقدية تجاوزت التريليون دولار بعضها مستثمر في سندات الخزانة الأمريكية، أي أن الصين قادرة أكثر من أي دولة أخرى غير أمريكا، على تغيير الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي في أي وقت تقرره. وبمعنى آخر تصير الصين دولة لا غنى عنها إذا أريد للاقتصاد العالمي اطراد النمو.

ثم تأكد في السنوات الماضية أنه من الناحية السياسية كذلك صارت الصين دولة لا غنى عنها في مجال تسوية النزاعات الدولية. رأينا الصين تعمل في موضوع كوريا الشمالية بكفاءة لم تكن متوقعة عندما بدأت مهمتها، إذ لم يكن معروفاً عن الصين أنها دولة “مواجهة صريحة”، أو دولة لها باع في الدبلوماسية يسمح بأن تقود عملية مساومة سياسية بين أطراف أمريكية وأوروبية وآسيوية، حيث الحساسيات التاريخية والعقائدية شديدة وقديمة، ويجب الاعتراف بأن الصين قادت المباحثات السداسية حول المسألة النووية الكورية بحكمة أقنعت الدبلوماسية الأمريكية بالتنازل عن غطرستها المعهودة والتعامل بتواضع والتزام بتعهدات تقدمها لدولة صاعدة، وهي الصين.

ولاشك أن الدور الصيني في تهدئة الزوابع المحيطة بالسودان وخاصة في مسألة دارفور يستحق من الدبلوماسية المصرية التأمل في أسباب النجاح، وإن كان لايزال في بداياته وتحيط به مناورات سودانية وإقليمية ودولية. ولا يكفينا كمراقبين ولو بدور بسيط أو متردد، أن نعزو هذا النجاح إلى “عضلات دبلوماسية تكونت في جسد كيان اقتصادي عملاق”، فالكيانات العملاقة كثيرة والعضلات في كل مكان مفتولة ونافرة، وأكثرنا في هذه المنطقة يتعذب ويعاني بسبب ضغوط أصحاب هذه العضلات. هناك بلا شك ما هو أهم وأبقى من دبلوماسية العضلات كعنصر من عناصر قوة الأمم.

ودليلنا الجديد على الأهمية المتزايدة للصين كدولة لا غنى عنها، الدور الذي كلفها به المجتمع الدولي للتدخل في حل الأزمة الداخلية في بورما أو ميانمار حسب التسمية العصرية لهذه الدولة التعيسة. أقول تعيسة لأسباب كثيرة منها أنني رأيت هذه التعاسة ولمست بيدي قسوة الحياة وشظف العيش عندما زرت بورما قبل سنوات عديدة، ومنها أيضاً أننا من جيل كان يهتم بتجارب استقلال دول جنوب شرقي آسيا ونهضتها ومشكلاتها، ولا أظن أن شعباً في هذا الإقليم كان مهدداً على الدوام بالفوضى والانفراط كما كان، ولايزال شعب بورما هو الشعب الذي أشعل ثورة ضد الاستعمار البريطاني استمرت 64 عاماً حتى حصل على استقلاله عام ،1948 وهو الشعب الذي نكلت به القوات البريطانية ببشاعة سجلها الشاعر الإنجليزي إذ قاموا بترحيل سكان المدن الكبرى في بورما إلى الريف ومخيمات على الحدود وأتوا بالصينيين والهنود ليحلوا محلهم. ولايزال السائح الأجنبي يسمع عند زيارته للمعابد البوذية التاريخية وأماكن العبادة الإسلامية “رواية الحذاء” التي يرويها رجال الدين، وتحكي قصة إهانة الإنجليز للديانات المحلية، حين كانوا يتعمدون عدم خلع الأحذية في هذه الأماكن. كنا نسمع كم كان الاستعمار البريطاني غليظاً في الهند ومع الأفغان وإيران. وكنا نسمع في الوقت نفسه كم كان هذا الاستعمار “متوحشاً” في بورما ومع أهل بورما.

وعندما بدأت الصين انطلاقتها الاقتصادية وممارسة دبلوماسيتها الهادئة، عرف العالم، وخاصة مراكز البحوث في الغرب والهند واستراليا، أن الصين سوف تولي بورما أهمية خاصة في استراتيجيتها الدفاعية والسياسية لمنطقة جنوب شرقي آسيا. وفي أحيان كثيرة كانت الولايات المتحدة توجه الإنذارات إلى حكومة العسكريين في رانجون وعينها على الصين، خشية أن تتجاوز واشنطن خطوطاً يعرف الغرب أن الصين رسمتها لمصالحها في بورما. وقد تفسر الأرقام بعضاً مما يبدو ألغازاً آسيوية، فالحدود بين الصين وبورما تمتد مسافة حوالي 2000 كيلومتر، ويسكن في بورما، التي هي الأكبر مساحة في كل دول جنوب شرقي آسيا، أكثر من 5.2 مليون مهاجر من الصين أو من أصول صينية، ويتحدثون الصينية ويقومون بدور كبير في اقتصاد الدولة وتجارتها الخارجية. ومن بورما تحصل الصين على بعض حاجاتها من الخشب والأحجار الكريمة والنفط والغاز، ولا أظن أن الصين مستعدة أن تفقد لأي سبب هذا المصدر الدائم والمضمون لموارد هكذا حيوية ومهمة للاقتصاد الصيني.

ومن ناحية أخرى، بورما هي إحدى قلاع الديانة البوذية، وليس أحب إلى قلب الحكام في بكين من أن تتفادى الصين غضب الكهنة في بورما، وبخاصة في المناطق القريبة من الحدود مع الصين، إذ يعرف الكهنة أن ديانتهم ومعابدها في التبت تخضع لإجراءات تحد من حرية ممارسة العقيدة ونشرها.

ولا تغفل كافة الأطراف الإقليمية حقيقة أن بورما، مثل نيبال، ساحة تلاق أو مواجهة بين الصين والهند، فالسباق بين الدولتين “الصاعدتين” على النفوذ قديم في كلتا الدولتين. ولا يفسر عجز الهند، أو قصورها وتخاذلها، في التدخل في الأزمة في بورما إلا خشيتها من أن تستغل قوى دولية، مثل أمريكا، هذا السباق وهذه الأزمة تحديداً، لتدفع الهند والصين إلى استئناف دبلوماسية التوتر والمواجهة، ولمعرفتها أيضاً بأن الأجدى في هذه المرحلة أن تقابل الهند مكرمة الصين حين خفضت معدل تدخلها في نيبال بمكرمة عدم الانصياع للرغبة الأمريكية في أن تتدخل الهند في بورما من دون تنسيق مع الصين.

لهذه الأسباب مجتمعة، أو لبعضها على الأقل، اقتنعت الدول الغربية، وهي الدول المهتمة بإقامة الديمقراطية في بورما، بأن يترك الأمر إلى الصين، وهي تعلم علم اليقين أنه ليست من مصلحة الصين، ولا هي راغبة في أن يحدث تغيير في بورما في اتجاه الديمقراطية الليبرالية أو أي اتجاه آخر للأسباب التالية:

* أولاً، شيدت سمعتها الدبلوماسية الراهنة على التزامها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

* ثانياً، لن يكون في مصلحة الصين الاستراتيجية والاقتصادية تدهور الأمور أو نشوب الفوضى في بورما لما في هذا أو ذاك من تهديد بانفراط بورما وعودة الحروب الأهلية إلى سابق عهدها.

* ثالثاً، لا تريد الصين أن يتسبب أي تغيير سياسي في رانجون في عرقلة تجارتها واستثماراتها في بورما.

* رابعاً، لن تتنازل الصين عن موقع نفوذ على هذا القدر من الأهمية في جنوب شرقي آسيا، ولن تسمح للولايات المتحدة أو التحالف الأسترالي الأطلسي الجديد بأن يضع قدمه على الناحية الأخرى من حدود الصين الجنوبية.

لا شك أن أحد دواعي فخر الإنسان أن يكون مواطناً في دولة يتعذر الاستغناء عنها.
"الخليج"

التعليقات