31/10/2010 - 11:02

رسالة مفتوحة إلى محمود عباس («أبو مازن»)/ عبد الإله بلقزيز

-

رسالة مفتوحة إلى محمود عباس («أبو مازن»)/ عبد الإله بلقزيز

دوافعُ أربعة تَحْمِلُني على كتابة هذا الخطاب المفتوح وتوجيهه لك في هذه اللحظة الدقيقة من نضال شعب فلسطين ومن أزمة قضيته الوطنية العادلة:

أوَّلها أنَّك من الرعيل الفتحاويّ الأوّل الذي كان له شرف إطلاق الوطنية الفلسطينية من عِقَالها (العربيّ)، دون الذهاب بها إلى مغامرةِ الانشقاق عن محيطها ومضمونها القوميَّيْن، وشرفُ إطلاق شرارة الثورة الفلسطينية المسلَّحة في ظروفٍ اعْتَسَرَ فيها - أو كادَ - كلُّ خيارٍ رَنَا إلى الاصطدام المباشر مع الواقعة الصهيونية المدجَّجَة بالقوة وبالرعاية الدولية. وتَعْرف أكثر منّي معنى أن يكون المرءُ في جملةِ هذا الرعيلِ المؤسِّس، وما يَمْنَحُه انتسابُه إليه من رأسمالٍ رمزيٍّ يرفع من سهمه في تجربة شعبه الوطنية. وأعْرِفُ أن مزاجَ البدايات الفتحاوية - وأنتَ في عشرينيات عمرك - ما عادَ مزاجَكَ اليوم، ربّما لتبدُّل الظروف والأحوال أو لانقلاب المعايير، لكنّي أحْفَظُ لك ذكرى ذلك الانتماء الكبير إلى رعيل البدايات، وأحاول أن أعتصم به وأسْتَمْسِك حتى أُحْسِنَ الظَّنَّ كثيراً فلا أجْنَحُ لِما جَنَحَ له غيري من ظَنِينِ الأحكام بك وبخياراتك السياسية اليوم. ولأنك ثانيَ اثنين ممَّن تبقَّى من جيل المؤسِّسين - مع أبي اللطف: أطالَ الله بقاءَه - أسمح لنفسي بالإغضاء عن كثير ممَّا لديَّ من تحفظات ومخاطبتك من ذلك الموقع الذي كنتَ فيه قبل ما يزيد عن أربعة عقود.

وثانيها موقِعُكَ السياسيُّ الرَّاهن الذي تَشْغَلُه اليوم كرئيسٍ للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكرئيسٍ للسلطة الفلسطينية في مناطق الحكم الذاتي - أو ما تبقَّى منه - في الضفة الغربية وقطاع غزة. أُجِلُّ موقعكَ الأول (في منظمة التحرير) وأَحْسَبُ أنَّك أهلٌ له بما خَبِرْت وراكمتَ من التجارب، ولِي في النَّفْس شيءٌ من الموقع الثاني؛ لكنّي أسَلِّمُ بأنَّك اسْتَلَمْتَه بِرِضَا قسمٍ كبير من شعبك في الداخل عبر تصويتٍ حُرٍّ ونزيه. ولأن الموقع (المنظمة والسلطة) من الأهمية والحساسية - كما قدْ عَرَفْتَ - وشديدُ الاتصال بتقرير مستقبل قضية فلسطين (لأنه الموقعُ المُخَاطَب دوليّاً)، فهو يوفِّر لي مبرّراً لتوجيه هذا الخطاب إليك: أنت الذي أخذتْكَ الأقدار إلى أن تصبح رابعَ زعيمٍ للشعب الفلسطيني - في تاريخه الحديث - بعد الحاج أمين الحسينيّ وأحمد الشقيري وياسر عرفات، وأن تَرِثَ مركزاً لا يُعَادِلُ شَرَفَهُ في الميزان سوى الاقتدار على النهوض بما يرتِّبُهُ من عظيمِ المسؤوليات وكبيرِ الأعباء.

وثالثُها ما تَمَتَّعْتَ به، دائماً - من ثقةِ القائد الشهيد ياسر عرفات، وإِيثَارِهِ إيَّاكَ - دون سائر الأتراب - لتكون رجُلَ المهمات الخاصة: مع الاتحاد السوفييتي (قبل وأثناء وبعد تحضيرك وإنجازك شهادة الدكتوراه في موسكو)، ومع الولايات المتحدة الأمريكية حين بدأت تُخَامِرُهُ فكرة التسوية، ثم مَع «إسرائيل»: بدءاً من محاورة «اليسار» الصهيوني، إلى محاورة «قوى السلام»، إلى مفاوضة «حزب العمل» وأركان حكومة إسحق رابين في «أوسلو». وأعرف أنه قلَّما وَثِقَ ياسر عرفات بأحدٍ، خاصة في أمورٍ حسَّاسة مثل التفاوض مع العدو أو «استمزاج» رأيه، وقلَّما أَسَرَّ لأقرب أصحابه بما يعتزم الإقدام عليه (فلقد كان أحبُّ الناس إلى قلبه - أعني الشهيد «أبو جهاد» - معه في السفينة المُبْحِرَة من طرابلس، حيث حُوصِرَا في صيف العام 1983، دون أن يُسِرَّ له بأنه سيزور القاهرة ما إِنْ ترسو السفينةُ في ميناء الإسكندرية: وهي الزيارة التي كانت حينها في عداد نقائض الوضوء بعد مقاطعة القاهرة على اقترافها فضيحة «كام? ديفيد»). وحين حُوصِرَ وعُزِلَ في «المقاطعة»، وضاق عليه خناق الضغط، وفُرِضَ عليه إحداث منصب رئيس الوزراء (لمصادرة سلطاته)، ما فكَّر في تعيين أحدٍ غيرَك. ولستُ أذهبُ مذهبَ من قالوا إنه ما فَعَلَ ذلك إلاّ لكون اسمكَ مطروحاً عليه من قِبَل الأمريكيين والإسرائيليين، بل أعزو اختيارهُ إياك إلى ثقةٍ منه بك وباقتدارك على جبه ضغوط الظرفية القاسية تلك. وأَحْسَبُك مثلي - وأكثر منّي - مدركاً قيمة أن يَمْحَضَ ياسر عرفات شخصاً ثقتَه وتأييده. وهي ثقة أتسلَّح بها لأخاطِبك.

أما رابعها فَحَقُّ أَحْسَبُهُ محقوقاً لي في مخاطبتك بحسبانيَ واحداً من كثيرين من العرب شَدَّتْهم إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، وإلى فكرها وتراثها النضالي العظيم، أواصرُ الانتماء والاندماج، فالتزموا قضيةَ فلسطين ولم تأخذْهُمْ عنها همومُ الدَّهر... وما أكثرها. وحيث إن قضية فلسطين، كما قد علمتَ، قضيةُ العرب جميعاً، بل لعلها قضيةُ كل الشرفاء في الأرض، فأنا مطمئنُّ إلى أن خطابي هذا لن يُحْسَبَ في عداد «التدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية»، ولن يُقْرَأَ بوصفه تطاولاً على مقامك: الذي نحفظ له التقدير. وآمُل أن يَصْدُق ما أذهب إليه من اطمئنانٍ إلى ذلك. وحينها، يُسْعدني أن توضَعَ رسالتي ضمْن الحدود التي رسمتْها لنفسها: مصارحة قائد منظمة التحرير ورئيس السلطة بما لديَّ من ملاحظات أو أسئلة قلقة حول إدارته لهذه المرحلة من النضال الفلسطيني ولمؤسساته الوطنية بعد أن ساقَتْه الأقدار إلى هذا الموقع. وأحْسَبُ من واجبي تجاه القضيةِ التي تَسْكُنُنِي - مُذْ كنتُ فتًى في الثالثة عشرة من عمره - أن أصارح من يدير فصول معركتها اليوم بما يؤرّقني، وملايينَ من العرب سواي، من استفهاماتٍ حول تلك الإدارة: أسلوباً ورهاناتٍ.

*** لاشك أدركْتَ حين انتخابِكَ رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بإجماع فصائلها الممثَّلة في لجنتها التنفيذية، وحين انتُخِبْت رئيساً للسلطة بأغلبيةٍ كبيرة من الشعب، أن الطَّلَبَ على دوركَ كان كبيراً في الساحة الفلسطينية: من الفتحاويين وغير الفتحاويين ومن عموم الناس. وأن هذا الطلب يعني الكثير في لحظةٍ وجدانية حادَّة غَمَرها الشعور العامّ باليُتْم الجماعيّ بعد فقدان القائد الرمز الشهيد ياسر عرفات. كنتَ في حسبان الناس - وهُمْ تحت وطأة حال الذهول - خشبةَ إنقاذ ومَعْقِدَ رهان. وما اختاروك رئيساً إلاّ لوعيهم بأنك الأقدرُ على حفظ ميراث ياسر عرفات وتعظيمه واستئناف مشروعه الوطني الذي اغتيل من أجله أو من أجل اغتياله كمشروع. ولن تخالفَنِي الرأيَ - الأخ «أبو مازن» - بأن الولاءَ الذي مَحَضَتْكَ جماهيرُ الشعب إيَّاه ليس مَحْضَ تشريفٍ لكَ (تستحقُّه بغير جدال) بل مسؤوليةٌ تاريخيةٌ عظيمة تأخُذُ منك قبل أن تُعْطِيك، وتَمْتَحِنُكَ قبل أن تُنْصِفَك. كما لن تُخَالِفَني الرأيَ بأن ذاك الولاء وُضِعَ تحت تَصَرُفُِّك - في لحظةِ تقَلُّد المسؤوليةِ - كرأسمالٍ ثمينٍ قابلٍ للتوظيف السياسيّ ولاجتراح المستحيلات. وعليَّ الآن أن أسألك - أخي أبا مازن - ماذا فعلتَ بذلك الرأسمال، وماذا فعلتَ بانتظاراتِ تلك الكتلة الشعبية الواسعة التي حملتْكَ بأصواتها إلى الرئاسة؟

منذ وصولك إلى رئاسة السلطة قبل قرابة عام، جربْتُ أن أعرف ماهو برنامجك السياسي دون أن أصيبَ حظّاً من النجاح. ولستُ أقصد به برنامج المنظمة: حق تقرير المصير وإقامة الدولة وعودة اللاجئين، وإنما برنامج السلطة المشدود بكل الخيوط إلى خيار التسوية. فلقد كنتُ أَعْرفُ أن هذا البرنامج عند ياسر عرفات - مثلاً - لم يكن يستبعد اللجوء إلى خيار الكفاح المسلح إن تبيَّن أن التسوية والتفاوض مَضْيَعَةٌ للوقت وطريقةٌ أخرى لانتزاع تنازلات فلسطينية بالسياسة لم يكن ممكناً انتزاعُها بالحرب. ولا إِخَالُكَ تخالِفُني بأن هذا بالضبط ما فعله ياسر عرفات منذ انهارت التسوية في نهاية العام 2000، فأجاز تسليح حركة «فتح» وقيام تنظيمها القتالي («كتائب شهداء الأقصى»)، وغضَّ الطرف عن نشاط المقاومة، ورَفَضَ - تحت كل الضغوط - أن يدينَها أو يصطدم بها.

ولقد كنتُ أعرف أن هذا البرنامج كان محكوماً بسقف «اتفاق أوسلو»، سَيّء الذِّكر، وكان يفرض على المفاوِض الفلسطينيّ ما يقِلّ كثيراً عن سقف توقُّعَاته المعتدل في تحصيل الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية؛ ولكن لا أحْسَبُكَ تخالفني الرأي في أن كل المرونة التي أَبْدَاها ياسر عرفات أثناء مفاوضات «الوضع الانتقالي»، وكل التنازلات المتعلقة - في هذه المفاوضات - بمساحة مناطق (أ) المنقولة من مناطق (ب)، أو هذه المنقولة من مناطق (ج)، ومجال السيطرة الإدارية والأمنية التي كانت تُعْطَى للسلطة بالتقسيط وبالتوازي مع حركة إعادة انتشار قوات الاحتلال...، كل هذه المرونة والتنازلات التي بَدَتْ مخيفَةً بين العاميْن 1994 و2000 - والتي كان على الأخ صائب عريقات أن يتجرَّعَهَا مُكْرَهاً - إنما كانت تنازلاً شكْليّاً من ياسر عرفات وإيحاءً منه، للأمريكيين والإسرائيليين، بأنه مستعدٌّ للتفاهم والمرونة في ماهو أكثر. وآيُ ذلك، والدليلُ على شكلية ذلك التنازل، أن ياسر عرفات تَمَسَّك تمسُّكاً بطوليّاً بالثوابت الوطنية (القدس، اللاجئين...) في «مفاوضات الوضع الدائم» في «كام? ديفيد الثانية» في يوليو 2000 ولم يساوم عليها أمام ذهول كلينتون وباراك. وهو ما يعني أن ذلك السقف الأسلويّ الواطئ لم يمنع ياسر عرفات من اختراقه وتلاوة مطالب شعبه الوطنية.

ولقد كنتُ أعرف أن إنقاذ «اتفاق أسلو» من الموت - بعد نكسته الصحية في يوليو 2000 وبعد انقضاض الانتفاضة عليه في 28 سبتمبر 2000 - أوصى بمعالجة أمنية للموضوع في «تقرير ميتشل» (مع ثمنٍ سياسيّ زهيد: وقف الاستيطان)، وأن المعدَّل الأمنيّ في تلك المعالجة ارتفع أكثر بعد تصريف ذلك التقرير وتوصياته في «خطة جورج تينيت» ثم في مفاوضات المبعوث الأمريكي الجنرال أنطوني زيني مع القيادة الفلسطينية لتطبيق أحكام الخطة. ولا أظُنُّك تُخَالِفُني أن ياسر عرفات لم يقبل تنفيذ الشق الأمني من «تقرير ميتشل» (وهي «خطة تينيت» التي قيلَ زوراً إنها آلية لتنفيذ التقرير!) دون أن يحصُل على ثمن سياسيّ مُجزٍ. وحين لم يحصُل عليه، اعتصم بموقفه وكسب عطف شعبه.

أعرف كل هذا، وأعرف أن الشهيد «أبا عمّار» وافق على ما يُسمّى «خريطة الطريق» لأن «إسرائيل» رفضتْها عمليا من خلال وضع شارون 14 تَحَفُّظاً عليها (مع ملاحظة أن تلك التحفظات قد تصبح سابقةً يُبْنَى عليها لإنتاج تحفظات فلسطينية إن وُضِعَ الموقف الفلسطيني تحت الضغط)؛ وأعرف أنه لم ينفِّذ ما فرضته عليه خريطة بوش من تدمير البنى التحتية لِ «الإرهاب» الفلسطيني، أي للمقاومة، متسلِّحاً بتحفظات «إسرائيل» على «خطة» صديقها الأمريكيّ. والأهمّ في كل هذا أني أعرف أن ياسر عرفات يُتقِن كيف يستعيد باليُمْنَى ما قدَّمه باليُسرى مُضْطَراً ومُكْرَهاً فلا يُسَجِّل على نفسِه أنه قَبِلَ بما لم يقبل به أسلافُه (الشقيري، الحاج أمين) أو معارِضُوه في فَصائل الثورة. وليس ذلك لشيءٍ آخر سوى أنه تَمَسَّكَ ببرنامج م.ت.ف وهو في السلطة؛ وكان يعرف كيف يجد دائماً برنامجَ عملٍ لتحريك قضية شعبه - ومنعها من الانحشار في زوايا النسيان - ولربطه ببرنامج المنظمة والثورة.

ولأنني لست واثقاً -أخي «أبا مازن» -أنَّك إنما تنهج النهجَ نفسَه: نهجَ الواقعية السياسية التي لا تفرِّط في الأصول والمقدمات، لأنني - واعْذُرْني على قولي - ما لَمَسْتُ ذلك في أدائِكَ السياسيّ بعد، آمُلُ أن أعْلَم قريباً ما هو برنامجُك السياسيّ وأنت في موقع رئاسة السلطة، وهل أنت شديد التمسُّك بما تَمَسَّك به أسلافُك من ثوابت؟ هل ستتمسَّك بقيام دولة فلسطينية على كامل الأراضي المحتلة في 5 يونيو 1967؟ هل سترفض المساومة على السيادة الكاملة على كامل القدس: أرضها والجوّ وما تحت الأرض، وعلى اعتبارها عاصمة للدولة؟ هل سترفض المساومة على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم في أراضي فلسطين الـ48 وتتمسك بمقتضيات القرار الأمميّ 194 حول هذا الحق؟

ما أرجو إلاّ أن يكون الجواب بالإيجاب. وعندها، لن يكون حُسْنُ ظنّي بكَ خائباً. وفي وسعي حينئذٍ أن أقول: لقد أفلح «أبو مازن» في استثمار ذلك الرأسمال الشعبي، وكان وفيّاً لشعبه وقضيته، ولم يساوم. وأظُنُّهُ أعْظَمُ ما تطلُبُه وما يَطْلُبُه أيُّ سياسيٍّ قادَتْهُ الأقدار إلى موقع خطيرٍ مثلِ موقعك.

وقد يوجَدُ من يردُّ عليَّ بالقول: إقرأ برنامج «أبي مازن» عشية انتخابه رئيساً فستجد فيه جواباً لأسئلتك. ولستُ ممَّن يفوتُهم أنك أعلنتَ برنامجاً في الانتخابات وأَقْسَمْتَ يميناً في المجلس التشريعي على التزامه، لكنك تدركُ أكثر مني أن البرنامج الانتخابي غيرُ برنامج العمل الفعليّ، الميدانيّ، اليومي، وأن الأول لا يمكن إلاّ أن يكون «مثاليّاً» وواعداً وقادراً على تجييش مشاعر الناس بتشديده على الثوابت؛ وليس ذلك حالُ جدول أعمال السياسة اليوميّ: الذي لم أقرأ فيه تماماً ما يُطَمْئِنُنِي - ويُطَمْئِنُ غيري - بتطابُقِ جدول الأعمال مع البرنامج الانتخابي.
وأَخْشَى ما أخشاهُ أن لا يكون في جعبة القيادة الفلسطينية الجديدة من برنامجٍ أو من رؤيةٍ سياسيّة غير ما تقدِّمه «خريطة الطريق»، وستكون طامة كبرى إن كان الأمرُ كذلك. ومع أنّي لستُ مشاطراً كثيرين - من الفلسطينيين والعرب - في قولهم إن «أبا مازن» لا يملك ما يقدّمُهُ سوى ما «تَعِدُ» به إدارة بوش (التي رَحَّلَتْ تاريخ «قيام الدولة» من العام 2005 إلى ما شاء الله! وكفَّت عن أن «تَعِدَ» بشيء)، إلاّ أنّي - وأصْدُقُك القول - شديدُ التوجّس من كبيرِ رهانك على دورٍ «فعّالٍ» لأمريكا في تحقيق حلٍّ سياسيّ وفي إنصاف شعبك بعد كل تلك اللَّذغات المتتالية من جُحْرِها!

ثم إنَّ أَخْشَى ما أخشاه أن تكون هذه القيادة (الجديدة) ما بَرِحَ يخامرها الاعتقاد بأن «اتفاق أوسلو» مازال في قيْد الحياة، أو يمكن بَعْثُ الحياة فيه مجدَّداً، فَتُصَمِّم سياساتها على هذه الفرضية. سيكون ذلك انتحاراَ سياسيّاًَ - أخي «أبا مازن» - ودفعاً بالقضية إلى المجهول. لقد قضى "الاتفاق"، غيرَ مأسوف عليه، منذ خمس سنوات. لم يكن أحدٌ يريدُهُ: لا باراك وشارون اللذان تَحَالَفَا ضدَّه، ولا ياسر عرفات الذي واتَتْهُ الفرصة للتخلص من عبئِه على شعبه وقضيته (= في مفاوضات «كام? ديفيد الثانية»)، ولا الشعب الفلسطيني الذي دَفَنَهُ بالانتفاضة وأهالتْ عليه المقاومةُ الوطنيةُ التراب. لم يَعُد يرغب فيه باراك وشارون بعد أن لم يَصِل بهما إلى إسقاط قضيَّتيْ اللاجئين والقدس من جدول أعمال ياسر عرفات وشعبه. ولم يَعُد يرغب فيه ياسر عرفات والشعب (والانتفاضة والمقاومة استطراداً) بعد أن تأكَّد أنه ليس السبيل الأمثل إلى تحصيل الحقوق الوطنية. أمّا حين "شَرَّف" المحافظون الجُدُد على السلطة في واشنطن، محمولين على أكتاف المسيحية الصهيونية، فقد أقَرُّوا مبدأ إسقاط «أوسلو»،ولكن ليس لأنه لا يعطي الفلسطينيين حقوقهم -حكما رأى أبو عمّار وشعب الانتفاضة - بل لأنه لا يعطي باراك و - خاصة - شارون ما أراداهُ، فكان أن سدَّد له بوش ضربةً قاضية بسوْقِهِ «خريطة الطريق».
الأخ «أبو مازن»،

أدرك الشهيد «أبو عمار » - منذ صيف العام 2000= أن التسوية سقطت، وأدرك في ما بعد أن التسوية التي لم تنجح مع كلينتون ورابين لا يمكن أن تنجح مع بوش وشارون. واليوم، هل تعتقد غير ذلك؟ أما أنا ، فأقول:

إنْ كان يمكن تجديدُ الرهان على «اتفاق أوسلو» فتلكَ مصيبَةٌ، أمَّا إنْ كان الرهان على «خريطة الطريق» فالمصيبَةُ أَعْظَمُ!


عُرِفَ عنك دائماً أنَّك ضدَّ ما أسميْتَه «عَسْكَرَة الانتفاضة». وهو تعبيرٌ مهذَّب يجنِّبُكَ القولَ إنك ضدّ المقاومة، لما قد يكونُ في القول هذا من حرج شديد لكَ في مجتمعٍ يَعْقِد فيه شَعْبُه الآمالَ كُلَّها على المقاومة بعد أن شرب كأس خيار التسوية المُرَّ. وأَحْسَبُك شديدَ الاقتناع بأنْ لا حلَّ سياسيّاً لقضية فلسطين يأتي من وراء المقاومة أو بالمقاومة. وقد أسلِّم معك بأن المقاومة الوطنية المسلحة في فلسطين لا تملك - حتى الآن - القوةَ النَّارِيَّةَ الكافية لإلحاق الهزيمة بالمحتل ودَحْرِه وتحرير كامل الأرض، وبأن الحركة الوطنية الفلسطينية تحتاج إلى استخدام كافة الوسائل، بما فيها الوسائل السياسية، في معركتها من أجل تحرير الأرض وإقامة الدولة. لكنّي لستُ أفهم لماذا تُخْتَزَل كافةُ الوسائل عندك في وسيلةٍ واحدة وحيدة هي التفاوض! ولماذا يصبح سلاح المقاومة سلاحاً «غيرَ شرعي» أو «غير قانوني» (في مقابل ما تَعْتَبِرُهُ "السلاحَ الشرعيَّ الوحيدَ": أي سلاح السلطة) على نحو ما ردَّدْتَ ذلك طويلاً! ولقد كنتُ أَحْسَبُ أن موقفَك سلبيٌّ حصراً من المقاومة المسلَّحة (= «عسكرة الانتفاضة»)، وأنَّك مُشَايعٌ للانتفاضةِ كَحَركَةٍ شعبيةٍ مدنيةٍ سلْميَّة إلى أن فُجِعْتُ بسماعٍ تصريحٍ لكَ في برنامج تلفزيٍّ عربيّ اعترفْتَ فيه بأنَّك ضقْتَ ذرعاً بالانتفاضة منذ أيامها الأولى، ونَبَّهْتَ الشهيد ياسر عرفات -وأنتَ ترافقُه في السيارة - إلى الحاجة إلى وقْفها قبل أن تفيض عن القدرة على الضبط والاستيعاب! وآلمتني أكثر صفحةُ وجهك البشوشة وأنت تروي الحادثة وكأنَّك سعيدٌ بما قُلْتَهُ لِقَائِدِ الثورة والانتفاضة!

لَعَلَّك تَعْلَم يا أخي الكريم أن شعْبَك ما اختار امتشاق السلاح عشقاً بالموت، بل حبّاً للحياة، ودفاعاً شريفاً وشجاعاً عن الحقّ المقدَّس فيها. فلقد كان يدافع عن نفسه ضدّ عدوٍّ غاشمٍ سَرِق أَرْضَه واسْتَضْعَفَهُ. ولعلَّك تَعْرف أن من أبجديات السياسة والتفاوض لدى المبتدئين أن السياسة والمُفاوضة ممتنعتان بغير قُوَّة ترفدهما وبها تمتكنان (= تصبحان ممكنتين)، وأنهما من دون تلك القوة تُصْبِحان من دون أسنانٍ وأظافر، فَتَكُونانِ فعلاً من أفعال المقامرة. ولا مِرْيَةَ في أنك تدركُ أن عدوَّ شعبك مسلَّح ويستخدم أدوات القتل كافة، وأن الرَّدَّ على جرائمه اليومية ممَّا لا يمكن أن يكون قذفاً بالورود وإرسالاً للكلام المعسول حول «السلام». ولا يخامرني شك في أنك انْتَبَهْت إلى أن في جملة أسباب تهافُت «اتفاق أوسلو» - الذي وقَّعْتَه في واشنطن - أن المُفَاوض الفلسطيني دخل المفاوضات خاليَ الوفاض فَقَبِلَ، لذلك السبب، بِمَا عَرَضَهُ عليه المحتل! وهو اليوم ما بَرِحَ يقبل بما هو معروض عليه («خريطة الطريق») لأنه طَلَّقَ خيار القوة ولم يعد يملك غير أن يناشد أمريكا و«إسرائيل» إجابةَ مطالبه.

ولقد كنتُ أُدْرِك - منذ «أوسلو» - مَوْطِنَ الخَلَل في رؤيتك ورفاقِكَ في السلطة إلى المقاومة وإسقاطِكُم إيّاها كخيارٍ في العمل الوطني، ثم المراهنة المُطلقة غير المشروطة على التسوية والمفاوضات، فالتسليم لأمريكا، دون سواها، برعاية عملية التسوية والوساطة مع «إسرائيل». كان ذلك ثمرةَ اعتقادٍ خاطئٍ بأن الشعب الفلسطيني طَوَى مرحلة التحرُّر الوطني وَوَلَجَ طَوْرَ بناء كيانه السياسيّ. وكم سمعناك تقول إن مرحلة الدولة غير مرحلة الثورة؛ وكم أدركنا أنك إنما تقصد أن الثورة انتهت وآن قطاف ثمارها، وأن الدولة يُناسبها أسلوب السياسيين وخبراء التفاوض لا أساليب المناضلين والمقاتلين. ولم يَخِبْ فَهْمُنَا لما تريدُه بالقول إن بين المرحلتيْن تمييزاً قاطعاً، لأنك تَفَضَّلْتَ في مناسباتٍ عديدة وشَرَحْتَ مَقْصِدَكَ بالألفاظ والمعاني نَفْسَهَا لِتَتْرُكَ مَنْ يُخَالُفُكَ الرَّأْيَ يَغَضَب أو يَأسَى... أو يُحَوْقِل. ويطيب لي - الأخ أبا مازن - أن أذكِّر بأن فلسطين مازالت محتلة، وأن أهلها وحركتَها الوطنية في قلب مرحلة التحرر الوطني لافتكاكها من الأسر، وأن الدولة أفقٌ غيرُ منظور في هذه المرحلة (إلا إذا كانت - كما يريدُها البعض سامحه الله - دولةً ذاتَ حدودٍ مؤقتة: بلا قدسٍ ولا سيادةٍ على مناطق المستوطنات ولا تنفيذٍ مادّيّ لحق العودة. وهي بهذه المواصفات ليست دولة!). مثلما يؤسفني أن أقول إنكم وقَعْتُم في مَطَبٍّ خطير حين استُدْرجْتُم لطعم السلطة المسموم فَخِلْتُمُوها دولةً أو كياناً أشبه بالدولة وارتضيتم الذَّوذ عنها في وجه قوى التحرر الوطني. ثم لم تلبثِ المعاييرُ أنِ انقلبت: أصبح السلاح الشرعيّ الوحيد - سلاح التحرر الوطني والمقاومة - سلاحاً «غيرَ مشروع»، وسلاحُ الاتفاق غيرِ المشروع سلاحاً «مشروعاً». والأدعى إلى المَخَافةِ أن تنتقل هذه المعايير المقلوبة إلى حيّز التنفيذ فتُفْضِي إلى أوضاع داخليةٍ مقلوبة لا قدَّر الله!

وعليَّ أن أعترفَ لَكَ - الأخ أبا مازن - ببعض مناقبك، ومنها - في ما نحن فيه - أنَّكَ على شديدِ معارضَتَكِ لخيار المقاومة، وجَهْرِكَ بتلك المعارضة أمام فصائل المقاومة نفسِها، لم تَسْعَ في الاصطدامِ الأمنيّ بها: حين كنتَ رئيساً للوزراء وحين أصبحتَ رئيسَ السلطة، في الوقت الذي كان يراهن فيه الأمريكيون والإسرائيليون على أن تُقْدِمَ على فتْح معركةٍ معها (على مثال تلك التي قام بها جهاز الأمن الوقائي في العام 1996)، وعلى أن تكون السياسيَّ الفلسطينيَّ الوحيد القادر على تسخير شرعيته التاريخية - الفتحاوية والوطنية - لضرب المقاومة وتنفيذ إملاءات العدوّ الخارجي. وعليَّ أن أعترف لك بأن الصراحة كانت من مناقبك التي ذَكَرَهَا لك كثيرون: حتى من أخْصَامك في الساحة الداخلية الفلسطينية، ومنها مصارحتُكَ فصائلَ المقاومة - حين كنتَ رئيساً للوزراء - بحاجتك إلى قرارٍ منها بالهدنة العسكرية بديلاً ممّا كان مطلوباً منك: ضرب المقاومة. وهو ما أكْبَرَتْهُ فيك تلك الفصائل وحَمَلَهَا على التجاوب مع اقتراحك لصيغةِ الهدنة بُغْية سَدِّ ذرائع أمريكا و«إسرائيل»، وقطع الطريق على سيناريو الحرب الأهلية الذي سَعَتَا فيه من خلال سعيهما في الإيقاع بين السلطة والمقاومة واستدراجهما إلى الصدام المسلح لقطف ثمار ذلك سياسيّاً.
لكن الهدنةَ هدنةٌ وليستْ إنهاءً للمقاومة؛ وعليك أن تَحْذَرَ «نصائح» من يَدْفَعُكَ من المقرَّبينَ منك إلى اقتراف هذه الخطيئة القاتلة تحت عنوان وُجُوب تنفيذ ما على السلطة من التزاماتٍ أمنية منصوصٍ عليها في «خريطة الطريق» لفتح الطريق أمام استئناف المفاوضات!

لستُ في الموقع المناسب لكي «أنصحك»؛ وقد تكون في غنًى عن نصيحةِ مواطنٍ عربيّ مثلي. ولكن، ما أغناني عن القول إنك في أمسِّ حاجةٍ إلى أن تَسْمَعَ رأيَ غيرِ مَنِ اعْتَدْتَ سماع رأيهم من المقرَّبين في شأنٍ خطيرٍ كهذا. وأنا هنا أستأذنك في أن أُلْفِتَ نَظَرَكَ إلى حاجتك إلى العمل وفق معادلةٍ سياسية تتكامل فيها أدوار السلطة والمقاومة ولا تتضارب أو يَصْدُم بعضُها بعضاً. معادلة قائمة على التفاهم والتوافق وتبادُل المنافع على مثال تلك التي قامت واستمرت بين الدولة اللبنانية والمقاومة. وعليك أن تتذكر بأنك -كأيّ مفاوضٍ في الدنيا - ستظل دائماً في حاجة إلى المقاومة، فاحرص عليها ولا تكترث بالذين يطالبونك بالصدام معها، أو الذين يصوّرون لك ذلك الصدام مدخلاً إلى حيازة رضا أعداء شعبك.

لا تصدّق من يدفَعُك إلى ضرب المقاومة. إنه لا يريد رأس المقاومة فحسب، بل رأسك أيضاً: شرعيتَك الوطنية وسمعتَك السياسية ورصيدَك الشعبي...، وبعدَما يَقْطفون!

يُؤسِفُني أن أرى - مثل غيري - تراث منظمة التحرير الفلسطينية يتعرض للتبديد، وإطارها الكيانيّ الجامع يتعرض للتجميد والتعطيل، منذ وقَّعْتُم «اتفاق أوسلو» واخترتم تنزيل السلطة الفلسطينية منزلة منظمة التحرير: تمثيلاً ومرجعيةً ودوراً! وأنا - هنا - لا أخاطبُ فيك شخصاً مُفْرَداً، بل عنوان فريق سياسيّ تراءت له التسويةُ في «أوسلو» أفقاً مفتوحاً أمام التحقُّق، وبَدَتْ له منظمة التحرير عبئاً سياسيّاً ثقيلا موروثاً عن حقبة الثورة يضغط على خيارات حقبة «الدولة»، فما وَجَدَ من سبيلٍ للخروج من هذه الازدواجية سوى التضحية بإطار الثورة (منظمة التحرير) لحساب إطار «الدولة» (السلطة الفلسطينية)!

لقد كان خطأً فادحاً منكم أن تقوم السلطة بمصادرة دور منظمة التحرير ومرجعيتها السياسية والوطنية. كان خطأً لأن منظمة التحرير هي الوطن المعنوي للشعب الفلسطيني كافة، ولأنها الإطار الكياني الذي نشأتْ في رحمه الشخصية الوطنية الفلسطينية. وكان خَطَأً لأن المنظمة هي المؤسَّسة الوطنية التمثيلية للفلسطينيين جَمِيعِهِم: في مناطق سلطتكم في الضفة والقطاع، وفي القدس المحتلة بشطريْها الشرقيّ والغربيّ، وفي المثلث والجليل والنقب، وفي سائر مناطق اللجوء والشتات. إنها «دولة» الثمانية مليون ونيّف فلسطيني على أرضه التاريخية وفي المنافي الاضطرارية لا «دولة» الثلاثة ملايين ونيّف من الفلسطينيين الذين «تمثّلهم» السلطة - بمقتضى «اتفاق أوسلو» - في الضفة والقطاع. وكان خطأً لأن الحركة الوطنية الفلسطينية ليست تنحصر جغرافيتُها السياسية والتمثيلية في الداخل الفلسطيني فقط، وإنما تَسَعُ مجمل مناطق الانتشار الفلسطيني في بلدان اللجوء: حيث الكتلة الشعبية الفلسطينية المُقتَلَعَة من وطنها أكبر عدداً من المقيمة في وطنها. ثم كان خطأً فادحاً لأن مصادرةَ السلطة للمنظمة يُسْقِط حق العودة: وهو جوهر القضية الوطنية الفلسطينية، بحسبان السلطة غير ممثِّلَةٍ لفلسطينيي اللجوء، ولا يمكنها أن تُفَاوِض من أجل عودتهم إلى أراضيهم وديارهم وممتلكاتهم في فلسطين المحتلة عام 1948.

وإذا كان تعطيل منظمة التحرير وشلّ مؤسساتها وتفويتها إلى السلطة، ودعوة مجلسها الوطني للانعقاد "في حضرة" الرئيس كلينتون لإسقاط الفقرات الأساس من ميثاقها، من أمثلة ذلك العدوان غير الشرعيّ الذي قامت به السلطة تجاه تراث المنظمة، فإن ممّا يَرْمُزُ إليه اليومَ، على نحوٍ مُقْلِق، تصفية الدائرة السياسية لمنظمة التحرير - التي يرأسُها آخر قادة «فتح» والمنظمة الكبار الأخ فاروق القدّومي - وتحويل إشرافها على السفارات والممثليات الفلسطينية إلى السلطة، بل مصادرة دور الأخ فاروق القدّومي كرئيس للدائرة السياسية، وكوزير لدولة فلسطين - المعلن عنها في دورة المجلس الوطني بالجزائر (نوفمبر 1988) - لفائدة وزير خارجية السلطة. ومع احترامي للأخ ناصر القدوة، الذي "وَرِثَ" مسؤوليات فاروق القدومي، وللأخ نبيل شعت، الذي حاول أن ينازعَهُ مسؤولياته، فإني أشعر بكبير الاستغراب لهذا الإجراء الذي أقدمْتَ عليه بتصفية مرجعية الدائرة السياسية في مجال الديبلوماسية الفلسطينية، ويزيد من استغرابي استسهالُكَ المساس بمقام الأخ «أبو اللطف» (= فاروق القدّومي): وهو مَنْ هُوَ في تاريخ «فتح» والمنظمة والثورة! وأخشى أن يكون ذلك قد بَدَرَ منك انتقاماً من موقف هذا القائد الكبير من «اتفاق أوسلو» ورفضه دخول مناطق الحكم الذاتي قبل الاستقلال وجلاء الاحتلال وقيام الدولة. وأنا أعرف - شأن غيري - أن الشهيد ياسر عرفات احترم موقف رفيقِه في الكفاح (فاروق القدومي)، وقَبِل مبدأ استقلال الدائرة السياسية عن السلطة، ولم يفرض على عملها في تونس قيْداً، ولم يُشْعِر أبا اللطف بأنه ينازع رئيس السلطة مسؤولياته؛ فَضَمِنَ بذلك هامشاً لحركة منظمة التحرير في الحقل الدوليّ، مثلما ضَمِنَ به وحدة حركة «فتح». وما أحْوَجَكَ اليوم - أخي «أبا مازن» - إلى مثل ذلك.

إنّي لأحْمدُ فيك إقدامَك على الحوار مع الفصائل كافة - في اجتماعات القاهرة - للنظر في أَمْر تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية. وأكْبِرُ فيك أكثر أنك كَسَرْتَ محظوراً وأَشْرَكْتَ «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في ذلك الحوار.
لكني أتساءل - مثل غيري - عن السبب أو الأسباب وراء تعطيل نتائج الحوار الوطني حول تفعيل م.ت.ف وإعادة بنائها بعد إدخال فصائل الحركة الإسلامية فيها. ما قيمة أن ينتهي الحوار الوطني إلى نتائج لا تجد طريقها نحو التنفيذ؟ وأنا أعرف أنك لستَ مسؤولاً عن ذلك التعطيل، وأن ثمة غيرك من لا يروقه أن تتفاعل العلاقات الداخلية الفلسطينية باتجاه الشراكة في مؤسسات العمل الوطني، وباتجاه تصحيح نصاب المرجعية في ذلك العمل الوطني. لكني أعرف أنَّ مَا يرتّبه عليك ذلك التعطيل فادحُ الكلفة على هيبتك في الوسط الفلسطيني؛ فأنت، في النهاية، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ولن يُسَاءَلَ أحدٌ في المسألة غيرُك. وإنّي لآمُلُ أن أسمع قريباً بأنك حسمْتَ أَمْرَك، وبحثتَ الموضوع في اللجنة التنفيذية، ودعوتَ المجلس المركزي للانعقاد قصد بحث سُبُل تنفيذ توصيات الحوار الوطني ودعوة المجلس الوطني لعقد دورة الوحدةِ وإعادة البناء.
تَعْلم أكثر مني - الأخ «أبا مازن» - مقدار ما تعانيه حركة «فتح» من أزمات هذه الأيام، ومقدار ما يعصف بوحدتها التنظيمية واستقرارها السياسيّ والنفسيّ من تناقضات. وتعلم أكثر منّي أن استفحال أوضاع الأزمة الداخلية فيها من مواريث حقبة تاريخية من تطور الحركة، ومن نتائج أعطابٍ تنظيمية وسياسية لم تجْر معالجتُها في حينها. لكنك تعرف جيّداً أن تَرْكَ أمْرِ الأزمة كذلك ما عاد ممكناً اليوم إلاّ على حساب وجود «فتح» نفسِه بسبب بلوغ الأزمة تلك طور الانفجار. وهل قليلٌ أن ينزل المسلحون إلى الشوارع ويهاجمون المراكز الانتخابية الفتحاوية ويغلقونها، وأن تنقسم الحركة إلى قائمتين، وأن يُصْنَع القرار الفتحاويّ خارج «اللجنة المركزية» و«المجلس الثوري»، وأن يصبح رموزُها عُرْضةً للتشنيع عليهم؟!

وليس من شكٍّ لديَّ في أنك تَحْمِلُ معاناةِ «فتح» معاناةً شخصيةً مضاعفة. وليس ذلك لأنك فتحاويٌّ عريق من الرعيل الأوّل فقط، بل لِعِلْمِك - وعِلْمِنَا جميعاً - بأن «فتح» هي العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية في مختلف محطاتها منذ أربعين عاماً، وأن ما يُصيبها إنما يُصيب الحركة الوطنية برمّتها. فمن النافل القول إنها الهيكل العظمي للسلطة وجهازها العصبيّ والحركيّ، وأن أيّ أثرٍ تُحْدِثُه التطورات في تماسك «فتح» يرتدُّ بأسوإ العقابيل على مُجْمل أوضاع السلطة. ولذلك، اسمَحْ لي أن أقول إن ما تشهده «فتح» ليس مجرَّد تنازُعٍ في الرأي داخليٍّ، وليس مجرَّد منافسة مشروعة على حيازة مواقع القرار فيها بين فريقيْن أو أكثر، بل هو أكثر من ذلك بكثير: استهداف حركة «فتح» مقدمة لاستهداف العمل الوطني الفلسطيني.

لست أتَّهم - هنا - فريقاً بعينه في سوء طويته تجاه «فتح» (أي تجاه حركتِه)، لكني أعلم أن رأسَها مطلوب من الإسرائيليين، وأن وحدتَها ومركزيتَها في الحركة الوطنية مستهدَفة من ضمن استهدافٍ إجماليّ للعمل الوطنيّ برمَّته. ولستُ أَتَحَرَّج من القول إن بعض بني «فتح» من الذاهبين بعيداً في ركوب مطالبات سياسية تنوء بحمْلها الحركة، إنما يهيئون السِّنْدان الفتحاويّ لاستقبال فِعْل المطرقة الخارجية حتى دون أن يَقْصدوا هذا المَقْصِد أو يضعوا أنفسَهم تحت تصرفه. لكن الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الحسنة كما قد عَلِمْتَ.

وأشدّ ما يقلقني في هذا الموضوع - الأخ "أبا مازن" - أنك لم تُبْدِ كبيرَ حِرْصٍ على معالجة الأوضاع المتدهورة في «فتح» بردّ الأمور فيها إلى نصابها، مما قد يحمل على الانطباع بأحدٍ أمورٍ ثلاثة: إما أنك لا تقدّر خطورة ما يجري في الفِنَاء الداخلي لحركة «فتح»، فتكتفي بأن تقضي الأمور بتركها؛ أو أنك لا تملك المقدرة على إدارة الأزمة وامتصاص آثارها السلبية وتوفير تسوية متوازنة لها؛ أو أنك مرتاح إلى ما يجري فيها بحسبانه يعزّز دورَك ومرجعيتك لفريقيْ الصراع فيها. ذلك ما يقوله خصومُك - أخي «أبا مازن» - أما أنا، فلا أشاطرهم استغفالك أو اتهامك، لأني لست أملك-حيال موقفك من الأزمة الفتحاوية - سوى أسئلة واستفهامات آمُلُ الحصول على ما يشبعُهَا من أجوبة سياسية مادية. ودعني أصارحك بأن الجواب الوحيد الذي يُشيع الطمأنينة في نفسي - في المستَهَلّ والمبتَدَإ من أيّ إجراء ومعالجة - هو ذاك الذي يعيد الأمور في «فتح» إلى نصابها:

الذي يعيد الشرعية الفتحاوية إلى أطرها التنظيمية الشرعية المنتخبة («اللجنة المركزية»، «المجلس الثوري»)، فيضع حدّاً لكل أشكال الانتقاص أو النَّيْل منها، أو التطاول عليها، أو التجاوز لها، على نحو ما نشهده منذ صيف العام 2004...

والذي يعيد سلطة النطق باسم الحركة إلى أمين سرّها الأخ فاروق القدومي، فلا تُنْزَع منه أو تُصَادَر تحت أيّ عنوان، أو بذريعة وجوده خارج الوطن المحتل...

وكم سيكون دورُك كبيراً وحاسماً لو رفعت غِطَاءك عمَّن يتدثرون بشرعيتك للمساس بمقام حركة «فتح» وإشهار الخروج البواح عن أطرها الشرعية. احفظ لنفسك موقع الحياد القياديّ تَرَ كم سيتهاوى المتسلقون أَكْتَافَك حين يفقدون ورقة شرعيتك.
السلطة الفلسطينية.

لديَّ حساسية شديدة تجاه السلطة الفلسطينية، فأنا - كما تعرف - ضد «اتفاق أوسلو» والمؤسسات التي أفرزها، وسبق لي أن جادلتُك في أمره طويلاً في لقاءٍ في الرباط قبل عشر سنوات. ومع ذلك، أعترف أن السلطة أصبحت أمراً واقعاً لا سبيل إلى إنكاره نظريّاً حتى وإن كانت شرعيتُها منقوصة وقائمة على اتفاق غير شرعي. ولقد أملت - كما أمِلَ غيري - أن تقيم السلطةُ مثالاً للدولة التي يتطلع الشعب الفلسطيني إلى قيامها: إنْ في اقتدارها في إدارة الشؤون اليومية الحياتية للناس، أو في اعتمادها مبدأ الكفاءة والاختصاص بدلاً من الزبونية والاستزلام والمحسوبية، أو في سلوك نهج الشفافية في العمل والإنفاق، أو في التزام مبدأ العدالة القانونية والعدل الاجتماعي وإنصاف ذوي الحقوق في ما يعود إليهم. وكنتُ آمُل أن تحارب السلطةُ الفسادَ وتأخذ الحق العام من الفاسدين والمفسدين، وتضع حدّاً لسلطان الأجهزة الأمنية المطلق فتعيد الأمن إلى أحكام القانون، وأن تحترم نطاق صلاحياتها في مناطق الحكم الذاتي فلا تتطاول على صلاحيات منظمة التحرير.

ويؤسفني أن شيئا ممّا أملناه لم يحصل: استمر أداء السلطة سيِّئاً في إدارة مصالح الناس، وأُبْعِدَ أهلُ الاختصاص والكفاءة وَجِيءَ بذوي القُربى والصِّحاب وأهل المذهب والمَشْرب، وأحِيطَ عمل السلطة بالسرية والغموض إلاّ ما كانت تكشفه تقارير أو تحقيقات، وفُرِضَ تهميشٌ للقضاء أو حجْرٌ على دوره الدستوري، وتُرِكَ الفقراءُ والمحرومون وعوائل الشهداء والأسرى لِقَدَرَهِم، وزاد ثراء أهل الفساد فحشا على مرأىً ومسمَعٍ من السلطة وأحياناً من «خزائنها» والمساعدات الدولية وقوت البسطاء، وتغوَّل سلطان أجهزة الأمن فعاثتْ في المقاومة والناس فساداً؛ أما منظمة التحرير، فجرى اختطافها سياسيّاً من قبل السلطة وتفويت أملاكها إلى الأخيرة!
وما أغناني عن الحاجة إلى القول إنني لا أحمّلك المسؤولية الكاملة - أخي «أبا مازن» - في كل هذا الذي حدث، فهي مسؤوليةُ حقبةٍ ونخبة لا مسؤوليتك وحدك. لكنك اليوم رئيساً للسلطة؛ وعليه، يرتفع سهْمُك في المسؤولية أكثر إزاء ما يمكنك أن تبادر به لوضع حدٍّ لهذا النزيف في صورة السلطة، خاصة وأنك أَحَطْتَ صعودَك إلى هذه السلطة بآمال أَشَعْتَهَا في الناس من قبيل إقامتها (السلطة) على مقتضى المؤسَّسيّة والشفافية والمحاسبة. ولا أخفيك أني - وبعد عامٍ من انتخابك رئيساً لها - لست مرتاحاً لبعض ما أراهُ في أدائك:

لستُ مرتاحاً لإمساكك بكل مفاتيح السياسة الفلسطينية وتهميش المؤسسات التي لا يحقّ لرئيس السلطة أن يُسْبِغ سلطانه عليها: من الدائرة السياسية لمنظمة التحرير وأمانة سرّ حركة «فتح» (وهما يعودان إلى الأخ "أبي اللطف" - فاروق القدومي)، إلى رئاسة الحكومة التي تعود إلى الأخ «أبي علاء» (أحمد قريع). ولا بأس من أن أذكِّر أن منصب رئيس الوزراء - الذي كنتَ أوّل من شَغَلَه في عهد «أبي عمّار» رحمه الله - إنما اسْتُحْدِث بالضغط الأمريكيّ لكي ينال من سلطان ياسر عرفات السياسيّ. وحين شَغَلْتَه، لم يكن في وسع رئيس السلطة الشهيد أن ينازعك اختصاصاتك. والآن أسألك: أين الأخ أحمد قريع وأين دورُه، ولماذا لم يَعُد أحدٌ يذكر اسم رئيس الوزراء: الذي اختفى شيئاً فشيئاً لصالح رئيس السلطة؟!...

ولستُ مرتاحاً لإجراءاتك وقراراتك في حقل التمثيل الديبلوماسيّ الفلسطيني في العالم. فلقد أضَعْتَ على قضية فلسطين في العالم - وباسم التقاعد أو التداول على المسؤولية - فرصة الاستفادةِ من خبرة أفضل الكفاءات من السفراء والممثلين الديبلوماسيين ممّن أقاموا أرفع العلاقات بين البلدان المعتمَدين فيها وبين الثورة والمنظمة والسلطة لفترةٍ من الزمن طويلة... وصعبة؛ ولم تكن البدائل عندك مقنعة! والأنكى والأمَرُّ أن هذا التغيير في السلك الديبلوماسي - إذا كان لابدَّ منه - لم يأخذ في الحسبان الحاجة إلى حماية التراكم والاستمرارية في مناطق التمثيل الديبلوماسيّ بحيث يقع تعيين من يملكون تعظيم تَرِكَةَ سابقيهم والإضافة إليها وليس الصَّرْفَ من رصيدها على مواقف قد تنال ممَّا تراكَم من مكتسبات!

ثم إنّي لستُ مرتاحاً لإسباغكَ الشرعية على شخصيات سياسية وأمنية فلسطينية تحوم حول نزاهتها أو موقفها الوطني شبهات كثيرة في الداخل والخارج، ولا لتردُّدك في ممارسة صلاحياتك وسلطاتك في تحجيم نفوذ قوى لا شغل يشغلها سوى حشر نفسها في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالسلطة وإملاء قرارها وإرادتها في شأنها ولتذهب المؤسسات إلى الجحيم. واعذرني - أخي «أبا مازن» - إن صارحتك بأن شعوراً متكرراً ينتابني بأنك تتساهل مع من ينافسونك دورَك وتَشْتَدّ على من يدعمونك ويقفون معك! ثم اعذرني إن أبْدَيْتُ مخافتي من أنك تضع تحت تصرف الطامعين في خلافتك - بعد عمرٍ طويل - الأسباب التي تُيَسِّر لهم استعجال أمْرِ ماهُمْ فيه راغبون.

وأخيراً لستُ مرتاحاً لصمتك عن اتفاقات أمنية تجري بين دولة الاحتلال وبعض دول الجوار العربيّ لفلسطين مع عِلْمِك بأنها تدق المسامير في نعش السلطة وتطيح بفكرة الاستقلال الوطني بدولةٍ على حدود الهزيمة.

***

لقد بَشَّرَ من بشَّر بأنك وفَّرت لمأزق السلطة حلاَّ - حين عَزَلَتْ أمريكا و«إسرائيل» رئيسَها- فقُدِّمتَ بوصفك المُخَاطَب المرغوب فيه كرئيسٍ للوزراء وكرئيس للسلطة. ولقد كنتُ كَتبتُ منذ نيّف وعاميْن بأن أمريكا و«إسرائيل» لا يريدانك مخاطَباً، وإنما كان منهما ذلك حيلةً لإسقاط سلطة الشهيد «أبي عمار»، وأنهما سرعان ما سيهمُِّشَانك ويعزلانك دون ضجيج. وها أنت ترى - أخي - أنه بعد عام على انتخابك، لم تسلِّفك «إسرائيل» وأمريكا شيئا تباهي فلسطينيّا بأنك أنجزْتَه لأبناء شعبك: لا أَفْرَجَتْ عن أسرى ومعتقلين، ولا فكَّتْ حصاراً أو رفعتْ إغلاقاً أو أزالتْ حواجزَ أو أوقفت استيطانا أو بناءً لجدار الفصل العنصري ولا دون ذلك كلِّه قيمة. أليس معنى ذلك أنَّك لستَ الرجل المرغوب فيه من «إسرائيل» (وأنا سعيدٌ لأنك لستَ ذلك الرجل الذي يبحثون عنه ويهيئون لِمَقْدَمه)؟ أليس رفض شارون لقاءَكَ دليلٌ ثان على أنك غير مرحَّبٍ به مثل سلفك الشهيد؟ أليس يعني البحثُ في الوضع الأمني في غزة والحركة على معبر رفح مع مصر لا مع السلطة إسقاطاً للاعتراف بها كسلطة، أو استئنافاً لذلك الإسقاط الذي حصل منذ العام 2001؟ ثم أليس في موقف «إسرائيل» وأمريكا من مشاركة «حماس» في انتخابات المجلس التشريعيّ - وتَوَاطُئِ الاتحاد الأوروبي معهما - إعلاناً بإنهاء السلطة ومؤسساتها؟
إنهم يعزلونَك بالتدريج وبغير ضجيج ويدفعون بغيرك إلى الواجهة رويْداً رويْداً. ولستُ أتْلُو - هنا - فِعْلَ الأَسَى لأن السلطة تُنْزَعُ منك بالتقسيط، وإنما لأنَّك أَدْمَنْتَ طويلاً على الاعتقاد بأن الشعب الفلسطيني طوى حقبة الثورة وَوَلَجَ حقبة الدولة! فها أنت ترى أن لا دولةَ (ولا حتى شُبْهَة دولة) ولا يَحْزنون. وإذا كنتَ تسعى - ورفاقُك المخلصون - إلى قيام دولة مستقلة ذات سيادة على الضفة والقطاع والقدس وعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم، فدون ذلك مرحلة أخرى طويلة من النضال الشاق تحتاج الساحة الوطنية الفلسطينية إلى تهيئة النفس لها ولمتطلباتها الجديدة، بما في ذلك تصويب العلاقات الداخلية بين قواها، وإعادة بناء مؤسساتها الوطنية وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية.

مَنْ أكثرُ اعتدالاً منك يا «أبا مازن»؟ (ثمة «معتدلون» آخرون غيرك، لكنهم مفرِّطون!) ومع ذلك هل ساقَك الاعتدال إلى ما أردْتَهُ وإلى ما تطلَّعْتَ إلى تحصيله بالمفاوضةِ، وبالمفاوضةِ فقط دون قرقعةِ سلاح؟ العبرةُ بالخواتم يُقال. ولا أقصد هنا أن أقول لك إن خاتمةَ ما ذهبتَ إليه في السياسةِ من مذهبٍ هي من الفشل والإخفاقِ الذَّريع كما قد عَلِمْتَ، وإنما قصدي أن أقول إن العبرة تكون بلسعةِ ما نَصِلُ إليه من صدٍّ للرغائب والأماني، واقتدارِنا على اجتنابها مرة أخرى، إِذِ المؤمن لا يُلْدَغُ من الجُحْر مرَّتَيْن. ولقد لُدِغْتَ أكثر من مرة يا «أبا مازن» من جُحر «إسرائيل» وأزعومة «السلام» معها ووَهْمِ استيلاد الدولة من مائدة «مفاوضات» (هل نسيتَ أن شمعون بيريز قال يوماً إن «إسرائيل» لم تحصل على الضفة والقطاع وغيرها على مائدةِ قِمَار؟). وأنا إذْ أتمنى أن تَفِيءَ إلى الحقيقة التي لا حقيقةَ أخرى سواها، وهي أن شعبك مازال - حتى إشعارٍ آخرَ - في مرحلة التحرُّر الوطني، فلستُ أقول ذلك لأني في زُمرةِ "المتطرفين" المعادين للتسوية، فأنا - مثل كثيرين غيري - مؤمِنٌ بأن مبدأ السياسةِ هو الممكن. لكني معتقدٌ أن التسويةَ ممتنعةٌ على الإمكان دون أسنانٍ وأظافر. ليست معادلةً ذهنيةً أو هلوسةً نظريةً هذه التي أردِّد؛ إنها أمّ الدروس والعِبَر في تاريخ الشعوب وحركات التحرر الوطني في العالم.

آمُلُ أن لا تقرأ في رسالتي - إنْ قرأْتَها - أكثر ممّا أبتغي قولَه. وصدّقني أني ما أردتُ بها أكثر من مصارحةٍ لك في ما عنَّ لي أن أَطْرقه من موضوعاتٍ حسَّاسة أحْسَبُ من الواجب عليَّ أن أفاتِحَكَ في أمرها من موقعي كمواطنٍ عربيّ تَتَلْمَذَ للثورة الفلسطينية ونَمَا وعْيُه في مناخ قضيتها، ويحاصُره الشعور بالمسؤولية الفكرية والأخلاقية تجاه القضية وما يَعْرِض لها من عوارض. وإنْ كنتَ ممَّن قد يستكثرون عليَّ هذا الحقَّ في المخاطبةِ - ولا إِخَالُكَ منهم - فاعلمْ أني رَفَعْتُ مثل هذا الخطاب المفتوح إلى القائد الشهيد ياسر عرفات قبل سبعة أعوامٍ وأربعةِ أشهرٍ من اليوم، ونُشِر في مجلة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» (مجلة «الهدف») ونَقَلَتْه عنها صحف أخرى. ولمَّا كان خطابيَ المفتوح للشهيد «أبي عمَّار» حادّاً، وناضحاً بمفرداتٍ عنيفة؛ ولمَّا أدركتُ أني كنتُ في غنًى عن استعمال بعض تلك المفردات لأنها لا تضيف إلى النصّ شيئاً ذا بال، فقد آثرتُ أن لا أكرِّر ذلك في رسالتي إليك كما لعلَّكَ لاحظت.

_________________
الرباط: د يسمبر 2005

التعليقات