31/10/2010 - 11:02

رفض إسرائيل: ناظرتُ رجلاً لم أرَه../ د.أسعد أبو خليل*

رفض إسرائيل: ناظرتُ رجلاً لم أرَه../ د.أسعد أبو خليل*
المقاطعة هي جانب من جوانب المقاومة ضد إسرائيل لكنها ـ مثل رفض التطبيع ـ ليست بديلاً من الرفض القاطع ومن المقاومة العسكريّة لوجود الكيان الصهيوني بحد ذاته، إضافة إلى مقاومة احتلالات الكيان، وخصوصاً أن الدول العربية تنصّلت من مسؤوليّتها في مقاومة الاحتلال حتى لا نتحدّث عن تحرير فلسطين من الصهيونيّة (حتى حزب الله خلا برنامجه من الإشارة إلى تحرير فلسطين).

عندما دعتني جامعة سان فرنسيسكو لمناظرة القنصل العام لدولة إسرائيل في مدينة سان فرنسيسكو، قبلت الدعوة على الفور كونها جاءت من الجامعة. قبلتها مع التزامي الصارم لشروط مضبوطة (منّي) لمتطلّبات المقاطعة التامة للعدو ومن أجل السيطرة على معايير المناظرة حتى لا تحيد عن المقاطعة.

هناك من رفاقي من تساءل إذا كانت المناظرة تخلّ بشروط المقاطعة. وأجبت بأن ذلك يتوقّف على جملة أشياء. لو كانت الدعوة إسرائيليّة فهي حتماً ستخلّ بشروط المقاطعة، لكن الدعوة جامعيّة. وهناك في إدارة الجامعة من أسرّ لي متبرّماً بأن الدعوة الأصليّة وُجهّت إلى القنصل الإسرائيلي وحده، لكن هناك في الإدارة من قال إنه يتوجّب دعوة الطرف الآخر. الأمر الثاني هو في طريقة التعامل مع المناظرة: يمكن أن تتم وفق شروط تُخلّ بها، ويمكن أن تتم في ظروف تكرّس المقاطعة والرفض القاطع لوجود الكيان.

يمكن تلخيص المناظرة بالقول إنني ناظرت رجلاً لم أرَه ولم تقع عليه عيناي قط. لم أنظر إلى الرجل ولم أدعْ ناظري يقع عليه. هناك من قال لي إن إدارة الجامعة كانت ستعد حفلة كوكتيل على شرف القنصل وعلى شرفي، لكن هناك من قال لهم بناءً على ما قرأه لي إنني لن أقبل ولا بصورة من الصور بحضور حفلة كوكتيل مع الإسرائيلي.

غير أن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد. قادتني مديرة المناظرة (وهي أستاذة أميركيّة من أصل إيراني ويُقال إنها كانت مترجمة رسميّة للرئيس الإيراني) إلى القاعة، وعبّرتُ عن استيائي بمجرّد دخولي. رأيتُ قاعة كبيرة تتصدّرها طاولة وكرسيّان فقط وراء اسمي واسم القنصل. قلت للأستاذة: «لن أقبل بهذا الترتيب. لا يمكن أن أجلس مُجاوراً لإسرائيلي لأن هذا يتناقض مع مبادئي».

تطلّعتْ إليّ باستغراب وبشيء من الاستياء، ثم ابتسمت وسألت: أتمزح؟ قلت لها: «أترينني في سحنة مزّاح؟». سألتني: ولماذا ترفض الترتيب؟ قلت: «لأني لا أقبل أن أجلس إلى جانبه». قالت: لكن هذا لقاء في جامعة ويجب أن تكون الترتيبات وديّة وفي مناخ أكاديمي. قلت: «بلا جامعيّة وبلا أكاديميّة وبلا بطيخ. هناك ما هو أهم، وأهم بكثير. هذه مسألة مبدئيّة بالنسبة لي». قالت: ولماذا تبدو حازماً في هذا الأمر ولماذا ترفض أن تجاورَه؟ قلت لها: «لعلك ستعرفين بعد أن تستمعي إلى ما سأقوله». وجلستُ بانتظار الموعد، وسررت بلقاء التلميذ الفلسطيني الوحيد في الجامعة. أشعرني وجوده بأن الحمل ثقيل: ويجب أن أنتقم له، ولو على منبر.

ضايقني الوجود الكثيف للشرطة وعناصر الأمن الخاص والدبلوماسي. واشتكى لي بعض التلاميذ من تفتيش دقيق لحقائبهم قبل دخول القاعة. وقال لي مسؤول في الجامعة إن القنصل حرص على إبلاغ دوائر الشرطة والأمن في الحكومة الأميركيّة. يبدو أن الخوف من الحذاء، أو من دستة أحذية، يعتري دبلوماسيّي الكيان الغاصب. عندها، سألت مديرة الندوة عن سبب هذا الوجود الكثيف لعناصر الأمن، فقالت: إنه من أجل حماية الدبلوماسي الإسرائيلي. لم أتمالك نفسي فثرتُ بوجهها: وماذا عن سلامتي وحمايتي أنا؟ أم أن المعايير هي فقط من أجل حمايتهم هم، لا حماية العرب؟ لم يعجبها جوابي ولا سؤالي وتمتمتْ كلاماً مبهماً عن اهتمامهم بحمايتي.

أخذت مقعدي بانتظار البداية. فما كان إلا أن وقف أمامي رجل لم أنظر أليه، إذ إنني كنت أحدّق إلى الفراغ: رأيت يداً ممتدّة نحوي وسمعت صوتاً يقول: «تشرّفت بالمعرفة، بروفسور. أنا فلان». وحدّقت إلى الفراغ من دون حركة ولا نظر ولا تعابير. أعاد الكرّة ومدّ يده من جديد. غيّر العبارة الترحيبيّة من دون أن أرعوي، فتيقّن عندها أنني لن أصافحه وسيتيقّن أكثر خلال المناظرة من كوني لن أعترف بوجوده ولن أنظر إليه ولو مرّة واحدة. إنه رجل لم أره وإن كنت قد ناظرتُه في جامعة سان فرنسيسكو. هناك من قال لي بعد المحاضرة إن الرجل كان مربوعاً وكان يعتمر قلنسوة أو أنه كان يحدّق مذهولاً بمجرّد أن بدأت الحديث، ولكن لا أستطيع أن أؤكد لكم أو أنفي لأني ناظرت رجلاً لم أره. (ورأيته للمرّة الأولى، للأمانة، بعد كتابة كلماتي هنا عندما شاهدت تسجيلاً للمناظرة على الـ«يوتيوب»).

وكان أن بدأت المحاضرة بعدما لزم الحضور مقاعدهم، ولاحظت أن تلامذتي ابتسموا لي عندما شاهدوني أتجاهل الرجل ومحاولته للمصافحة مع عربي. سَجّل أنني رفضتُ. وسَجّل أن منتهي صلاحية الرئاسة الخاوية في رام الله يحتضن إيهود أولمرت كالعشّاق. سَجِّل أن أولمرت كان يستسيغ الطعام العربي في بيت صائب عريقات، الغوغائي والحضاري (وهذا يذكّر بما قاله كليمنصو عن الولايات المتحدة قبل نحو قرن من الزمن). وسَجِّل أن في لبنان نائبة في البرلمان كانت تعدّ بيديها أطباقاً لبنانيّة (أو سورية، من دون أن تعلم هي لإيغالها في الجهل وفي العنصريّة) لأرييل شارون ووعدته باستضافته في القصر الجمهوري في بعبدا لمجرّد أن يتربّع زوجها الذي نصّبته إسرائيل في سدة الرئاسة. من صافح تلك السيّدة وجب أن يغسل يديه بالماء الساخن والصابون وشِعر أمل دنقل.

أعطته المديرة الكلام قبلي، مع أن آداب المناظرة تفترض عادة رمي عملة معدنيّة في الهواء من أجل الترتيب العشوائي للمتكلّمين والمتكلّمات. لم تسـتأذني. لكنني أخفيت عنها أنني أفضّل الكلام بعد خصمي في المناظرة ليتسنّى لي الردّ المضاعف.

وبدأ الإسرائيلي بالكلام وأنا أحدّق إلى الفراغ أمامي، منصتاً لكلامه. تسنّى لي التفكير في تاريخ المناظرة العربيّة مع الصهيونيّة. تذكّرت أن لبنانيّين، إميل إده والمطران مبارك، أدليا بشهادات مناصِرة للصهيونيّة أمام لجنة «بيل» في الثلاثينيات. وتذكّرت أن شارل مالك مثّل العرب في الأندية العالميّة في الغرب. لم يكن العرب على علم بأن المسيحي المتعصّب واليميني المتطرّف كان صديقاً سريّاً للصهاينة، وكان يتبادل قصاصات ورقيّة ونكات تحت الطاولة مع ممثل إسرائيل، أبا إيبان، في مبنى الأمم المتحدة حيث افترض أغبياء (أو أسوأ) في العالم العربي أن شارل مالك ذاك كان يدافع عن القضيّة الفلسطينيّة. كشف إيبان عن ذلك بعد سنوات في مذكّراته. لكن مالك هذا تحوّل إلى فخر لمسخ الوطن، وأطلقوا اسمه على جادة عريضة.

تعلّم إيبان الاستشراق في جامعة كمبردج وأتقن العربيّة والفارسيّة، كما أنه بدأ مبكّراً في ممارسة المناظرة دفاعاً عن الصهيونيّة. والمستشرق إيبان ترجم إلى الإنكليزيّة في عام 1947 كتاب توفيق الحكيم: «يوميّات نائب في الأرياف».

من الأرجح أن إيبان حصل على موافقة الحكيم، وخصوصاً أن وعي الأخير وروحه عادتا إليه بمجرّد أن تخلّص أنور السادات من «مراكز القوى». (وعملت دار الساقي على إعادة نشر ترجمة أبا إيبان قبل بضع سنوات، لكن لا عجب في ذلك لأن دار النشر تلك ضليعة في شؤون التطبيع «الحضاري» من باب التنوير الوهابي، ويبدو أنها لا تمانع في دفع ريوع البيع لعائلة أبا إيبان).

ومدرسة إيبان في المناظرة الصهيونيّة كانت فعّالة. كان فصيحاً وبليغاً وأصرّ على حشر الأفكار والكلمات من دون أن يلتقط أنفاسه. كان الأسلوب يهدف إلى أفضل استخدام للوقت وللتفوّق على الخصم المناظر. أشرف إيبان على الدعاية الصهيونيّة لمصلحة إسرائيل عقوداً من الزمن، وكان ـ مثله مثل دعائيّي إسرائيل ـ يستسهل الكذب دفاعاً عن عدوان الكيان الغاصب. إليه تُعزى كذبة إسرائيل عن تعرّضها لاعتداء مصري في السابع من حزيران 1967، لكن البيت الأبيض لم يستسغ الكذبة الضعيفة فتوقّف المشرف على الكذب الصهيوني عن استخدامها.

شاهدتُ العديد من المناظرين العرب في الغرب عبر السنوات، ولكثرة ما ساءني الإخراج والمضمون في تلك المناظرات، لاحظت أن الإسرائيليّين يفضّلون دوماً عرباً لا يتقنون اللغات الغربيّة لاستسهال مناظرتهم أمام جمهور يقدّر حسن إتقان ممثلي الكيان الغاصب للغات الأجنبيّة بحكم التكوين الديموغرافي لإسرائيل.

كما أن عدداً من المناظرين العرب يُترجم إلى الإنكليزيّة أو لغات أخرى، أي ينقل الخطابة العربيّة بحذافيرها كما هي إلى لغة أخرى. يتندّر بعض الأصدقاء العرب بحديث عن خطبة ألقاها كلوفيس مقصود واستعمل فيها كلمة إنكليزية لترجمة عبارة «النزف العربي»، مما أوقع الجمهور الأميركي في حيرة.

وأحمد الشقيري الذي يزهو في مذكراته ـ وهو، يا لبؤس الأمة، ترك لنا عدداً وافراً منها ـ بخطابته في أميركا وهو لا يزال هدفاً للسخرية شرقاً وغرباً، مع أن زمن عادل درويش وطارق الحميد جعل البعض يحنّ إلى زمن الشقيري وحتى أحمد سعيد الذي ـ خلافاً لخلفائه في الإعلام ـ لم يكن مرتزقاً.

كما أن بعض المناظرين العرب يظنّون أن استدرار الدموع يسري في الغرب: والكثير من ممثلي منظمة التحرير كانوا يشهقون بالدموع استعطافاً. النتيجة تأتي غالباً لمصلحة العدو. ثم هناك التطبيع. إن فكرة الصراع الحضاري الذي تبنّاه فريق ثورة (حرّاس) الأرز ليست جديدة: بدأت مع زهدي النشاشيبي والهاشميّين (بالسرّ ـ لانعدام المروءة) والشيخ الجعبري ومصطفى دودين.

«الفكرة الحضاريّة» تكمن في الترويج لنظريّة أنور السادات ومفادها أن صراعنا مع إسرائيل هو سوء فهم بسيط نستطيع أن نزيله بتخطّي الحاجز النفسي الذي بناه العرب. ويتطلّب هذا التخطّي الذي أتقنه السادات، تملّقاً ودونيّة واحتقاراً للنفس يقدّره لنا ـ أو لهم ـ العدو. هؤلاء كأنهم تشرّبوا ما كتب عنه ألبرت ميمي عن نزعة المُستعمَر لتقليد المُستعمِر من أجل نيل الحظوة والتقدير. وكان مناحيم بيغن يستمتع بإهانة السادات أمام عدسات الكاميرا مع أن السادات لم يكن يلاحظ ذلك، كما يتعامل إيهود أولمرت مع محمود عباس وكأنه طفل قاصر، مع العلم أن سيرة ديفيد بن غوريون التي كتبها شبتاي تفيث تروي أن بن غوريون شبّه العرب بالأطفال.

وفيما أنا أحدّق إلى الفراغ وأتجنّب رؤية الإسرائيلي تراءى لي كأني أمام شاشة سينمائيّة تعرض مسلسلاً لتعاقب المجازر الإسرائيليّة بحق شعبنا. تتذكّر مشاهد الرحيل والطرد الجماعي وخيم النكبة. لكن تتذكّر ما يشحذ الهمم والعزائم: عن نساء لا يلدن إلا جيوشاً، كما قال مظفّر النوّاب. تتذكر ـ أو تظن أنك تتذكّر ـ مشهداً لعائلة العظيم جورج حبش وهي تُطرد بالقوة على يد جيش من الإرهابيّين المحترفين بقيادة إسحق رابين، الذي كان رفيق الحريري، وابنه سعد بعده، من المعجبين به.

كل ذلك وأنت على بعد أذرع من رجل قد يكون قتل لك أخاً أو أختاً أو رفيقاً أو رفيقة. هذا ما يؤكد ضرورة الحفاظ على سلاح المقاطعة المطلقة للكيان الغاصب في كل جوانبه.

والمقاطعة ليست بديلاً من المقاومة لكنها مكمّلة لها، وخاصة في بلدان بعيدة عن أرض الصراع. ومن الملاحظ أن دبلوماسيّي إسرائيل يلجأون إلى الكلام العمومي والإكثار من اللهج بحمد السلام العمومي أمام الجمهور الأميركي القليل المعرفة غالباً. لأن شيطان التفاصيل ليس لمصلحتهم، إذ يضم حكايات وأرقاماً عن جرائم وسرقات واحتلالات واجتياحات وقصف وتدمير وتفتيت الأطفال. لعل هذا كان سبب لقاء خادم الحرميْن مع شمعون بيريز في حوار «الأديان» المنتقاة بعناية على يد هيئة كبار العلماء. وأنهى القنصل الإسرائيلي كلامه بكلام عام عن حب السلام ـ الحب كله.

لا يجوز للمرء أن يقيّم نفسه أو أن يحكم بنتائج مناظرة، لكني بدأت كلامي بالتذكير بأن حضوري كان بدعوة من الجامعة لا من غيرها، وبأن حضوري ـ من دون الاعتراف بالإسرائيلي أو حتى النظر إليه ـ لا يعني بصورة من الصور انتقاصاً من التزامي الصارم بالمقاطعة الشاملة والتامة والكاملة والمطلقة مع الكيان وممثليه وأبنائه وبناته الذين واللواتي يخدمون في جيش يحترف قتل الأطفال وارتكاب المجازر. كل هذا لا يشغل الإعلام السعودي الذي لا تأخذه سنة ولا نوم لانشغاله بالتصدي للمخطط الصفوي (والقجاري أحياناً أخرى). لقد دعوتُ الجمهور إلى التزام المقاطعة، وهي دعوة باتت تلقى صداها في أوساط الجامعات الغربيّة وفي بعض الأوساط في بعض الجامعات الأميركيّة نفسها.

وقد خطبت قبل أسابيع في عدد من الجامعات البريطانيّة، بما فيها جامعة منشستر حيث عمد ناشطون وناشطات إلى احتلال مبنى في الجامعة للتعبير عن الغضب حيال المجازر الإسرائيليّة في غزة. وجلت بناظري بين الطلاب والطالبات في المبنى المُحتلّ حيث هُرّبتُ خلسة ولاحظت أن الأعراق والجنسيات متنوّعة، مع أن هناك من العرب من شكا لي أن بعض الطلبة العرب (وعددهم في المهاجر يتناقص باستمرار بسبب الأعباء الماليّة الباهظة وتفريخ الجامعات الخاصة في بلادنا) يتجنّبون المشاركة في النشاطات السياسيّة إما خوفاً وإما توقاً لمستقبل غير سياسي في دبي، قبل انهيار نموذجها البرّاق. (وقد أنشأ بعض الطلبة اللبنانيّين في جامعة كاليفورنيا في بيركلي نادياً «فينيقيّاً» للاحتفاء بالمطبخ اللبناني).

وفي فترة الأسئلة والأجوبة تكاثرت الأسئلة المُحرجة للقنصل الإسرائيلي. قيل لي إنه بدا مربَكاً ومُحرجاً ومُتأفِّفاً.

وفي واحد من أجوبته، قال للحضور إنه (أي أنا) رفض أن يصافحه أو أن يسلِّم عليه أو حتى أن ينظر إليه. شكا لهم ذلك وأضاف: إنه يرفض أن يؤنسنني. قلت في نفسي: قد يتعاطف معك ليبراليّو الإعلام السعودي والحريري، وقلت للحضور: أراهم (أي الصهاينة) كما يرون أطفال غزة. ولاحظ الصديق عامر، وكان بين الحضور، أن القنصل عيّرني بما يعيّرني به خصومي اللبنانيّون، إذ إنه قال إنني أتحدّث بلغة السبعينات البائدة. هي تلك التي يسمّونها «اللغة الخشبيّة» في فريق ثورة (حرّاس) الأرز.

وقال الإسرائيلي إن الفلسطينيّين في رام الله والعرب الآخرين لا ينطقون بالغضب الذي نطقت به وأن العرب يعرضون مبادرة سلام (في إشارة إلى مبادرة توماس فريدمان التي روّج لها ذلك الذي يعتبر نفسه خادم الحرمين). من سوء حظ المتكلّم الإسرائيلي أن عالماً فلسطينيّاً من رام الله كان بين الحضور وأوضح أن غضبي يحاكي الغضب الشعبي العربي في رام الله وفي خارجها.

لكنني نوّهت للجمهور بأن سمة الاستعمار الكلاسيكيّة هي الجهل بوضع الشعب المُستعمَر. فالولايات المتحدة لا تزال تتعامل بجهل مع الشعبين الأفغاني والعراقي، كما أن الصهيونيّة لم تعرف الشعب الفلسطيني ولم تدرسه بسبب العنصريّة المتحكِّمة التي تنظر بدونيّة إلى السكّان الأصليّين. لكن الأمر اختلط على قادة إسرائيل ودعائييها لأنهم لا يلتقون إلا مع الفريق الدحلاني وتفوتهم اتجاهات الرأي العام الفلسطيني. هؤلاء هم الذين كانوا يضمنون فوز حلفائهم في حركة فتح في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة.

التجربة (في المناظرة) غنيّة بدلالاتها. إن غضباً دفيناً يعتمر صدورنا، نحن الذين نشأوا على هدف تحرير كل فلسطين. إن معايشتنا للمجازر وعيش بعضنا تحت الاحتلال يزيد من التصميم على عدم المهادنة في رفض الصهيونيّة في بلادنا، مع أن التحدّي المعادي يزداد ضراوة. الصهيونيّة اليوم دخلت في برنامج الجامعة العربيّة من خلال مشروع توماس فريدمان، ويمكن عمرو موسى (الذي يحبه شعبان عبد الرحيم كثيراً) أن يبدأ اجتماعات الجامعة العربيّة بتلاوة شكر للاحتلال.

هم يحاولون أن يفرضوا علينا لغة جديدة ومصطلحات مسكوكة في إسرائيل. يخجل بعضهم من الجواب عن السؤال البديهي: هل تعترف بحق إسرائيل في الوجود؟ كنت أرى المتكلمين العرب يعرقون ويتأوهون ويداورون من دون أي يجيبوا عن السؤال بصراحة. هناك اليوم من العرب (حكاماً وإعلاميّين ومثقّفين) من يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب. أنا أنتظر بفارغ صبر أن يُوجّه هذا السؤال إليّ، وخصوصاً أن الصهاينة هنا يطرحونه منتظرين إحراجاً أكيداً للخطيب العربي. أنا أجيب بحماسة: طبعاً لا أعترف ولن أعترف يوماً بحق إسرائيل في الوجود، ولا أزال أتمسك بلاءات الخرطوم التي فرضها الرأي العام العربي على قادة العرب المنهزمين والانهزاميين. لكن قادة العرب يعرفون في قرارة أنفسهم أن الشعب العربي لن يصالح، حتى لو ارتموا هم على أعتاب مكتب رئيس وزراء العدو كما يفعل محمود عباس.

وعناد الشعب العربي في رفض الكيان الصهيوني ـ رغم أنف معلّقي إعلام آل سعود ـ يؤرق الصهيونية والطغاة العرب على حدّ سواء. هم لديهم مشروعهم للتعايش وللتسليم بسيادة الاحتلال والهيمنة الإسرائيليّة في المنطقة العربيّة. عبّر عن هذا التوجّه بوضوح وزير الخارجيّة البحريني (ولديه من القدرات الذهنيّة والفكريّة ما لدى سعد ونادر وأحمد الحريري). لكن من وماذا يمثّل وزير الخارجيّة البحريني أو أي من معلّقي أمراء آل سعود؟

مشيتُ بعد المناظرة برفقة صديقيْن عربيّيْن. قلت لهما قانطاً حانقاً: بصرف النظر عن نتيجة المناظرة وعن حسابات الفوز والظفر، فإن هناك واقعاً أكيداً: لا يزال العدوّ يحتلّ الأرض ويقتل شعبنا. الانتصار الحقيقي هو في الميدان لا في المنابر. وهذا المهم هو أهم.
"الأخبار"

التعليقات