31/10/2010 - 11:02

سوريا والصراع العربي الصهيوني../ عبد الإله بلقزيز

سوريا والصراع العربي الصهيوني../ عبد الإله بلقزيز
بات من الممكن الحديث، مع قليل من التحفظ في الاصطلاح، عن "فلسفة سورية" في إدارة الصراع العربي الصهيوني. نسميها "فلسفة" لأنها أعلى كثيراً من "موقف سياسي"، وأعم قليلاً من "استراتيجية". الموقف يكون محكوماً، في العادة، بما يفرضه ميزان القوى من حقائق ومعطيات، وهو لذلك السبب عُرضة للتغير تناسباً مع ما يطرأ من تغييرات على ميزان القوى وعلى شروط الصراع. والاستراتيجيا ترسم أهدافاً عليا في ضوء الموارد الموضوعية المتاحة وتبعاً لحساب دقيق لا يقبل تغليب الذاتي على الموضوعي إلا في الحدود التي تتبيّن فيها فرص صيرورة الذاتي موضوعياً (وهنا وجْهُ الاختلاف بين الاستراتيجيا واليوتوبيا). وإذا كان الجامع بين الموقف السياسي والاستراتيجيا أن كليهما يتحركان ضمن نطاق الممكن (الموضوعي)، فإن وجه الفرق بينهما أن ممكن الموقف موضوعي (بل قهري) بينما ممكن الاستراتيجيا مزيج من الموضوعي والذاتي (= الينبغي) بعد أن يوضع في سياق حساب الإنضاج والتأهيل الذي يسمح له بالصيرورة إمكاناً موضوعياً عند توافر الظروف.

قد تنجح رؤية استراتيجية في تنمية الموارد الذاتية المعطلة (أو النائمة) وتجنيدها في الصراع بما هي موارد فاعلة ترفع من منسوب العوامل الموضوعية، فتكون حينها استراتيجية فعالة وناجحة ومنتجة؛ وقد لا تنجح في ذلك لأسباب عدة قد يخرج بعضها عن نطاق الكفاءة أو الاقتدار (الذاتي) في إدارة الاستراتيجية، وعندها يكون على تلك الاستراتيجية أن تتحرك ضمن إطار المتاح من العوامل والموارد. ولكن الأسوأ من ذلك أنه قد يصبح من اللازم والمُلِحّ إعادة مراجعة تلك الاستراتيجيا من طريق إعادة صوغ الأهداف ورسم وجهات وأساليب العمل لتحقيقها.

حين نتحدث عن "فلسفة سورية" لإدارة الصراع مع "إسرائيل"، إنما نعني بذلك نهجاً في سياسة سورية ما انفك يثبت نجاعته على صعيدين من الأداء يبدوان متجافيين أو متقابلين: صعيد الأهداف العليا وصعيد الموارد المتاحة، صعيد الإرادة وصعيد الواقع، صعيد الواجب وصعيد الممكن. وأميَز ما ميز هذا النهج منذ بداية عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد حتى اليوم هو التمسك الذكي بإقامة توازن ثابت بين إرادة المجتمع والأمة وبين ضرورات السياسة وإكراهات الواقع؛ بين الحقوق القومية والوطنية غير القابلة للتصرف وبين إمكانات التعبير الواقعي عنها بما لا يجعلها حقوقاً غير قابلة للصرف في بورصة القانون الدولي؛ ثم بين إشهار قوة السلاح لتحصيل تلك الحقوق وبين مخاطبة عالم المنتصرين بلغة القانون لدفعهم الى التسليم بشرعيتها. ولقد أمكن سوريا من خلال جدليات الواجب والممكن، الحق والواقع، الإرادة والضرورة، الحرب والتفاوض، أن تحمي قضية من التبديد والمحو والزوال، ولكن من دون أن تتمسك بشعارات نظرية ومبادئ غير قابلة لشق قناة تصريف في الميدان السياسي.

تفضي هذه "الفلسفة" في إدارة الصراع بعدم بناء الحسابات السياسية على مقتضى الخيار الواحد والأوحد، لأن في هذا الضرب من التقدير مقتلاً للسياسة وإقفالاً للاحتمالات والممكنات لا يليق بسياسة دولة أن تأتيه طائعة أو تستدرج إليه السياسة الفاعلة، المنتجة والمفتوحة على إمكانات النجاح، هي بالضبط التي تستبقي في حوزتها وتحت تصرفها الخيارات كافة وموارد القوة كافة، والتي لا تستهويها كثيراً فرضية الأولويات النظرية (= المبدئية)، ولا تحسبها أجزل فائدة وعائدات من الأولويات التي يفرضها الواقع. لا بد من أن تُبْنى حسابات السياسة على القاعدة الذهبية: كل الطرق تؤدي الى روما، الى الهدف. لا بد من العقائدية في المبادئ؛ ولكن، لا بد من المرونة في الوسائل والمناهج والخطاب.

قد يتفق المرء، وقد يختلف، مع خيارات سوريا في الصراع العربي الصهيوني. غير أن أي منصف من هؤلاء ومن أولاء لا يملك إلا أن يعترف لها باقتدارها الاستثنائي على إتيان نمط من الواقعية السياسية فريد في التجربة العربية المعاصرة على الأقل: واقعية تجمع في كيمياء سياسية مميزة بين الإصغاء الكامل لمعطيات الأمر الواقع وعدم المغامرة بتحديها أو مواجهتها وبين التمسك الشديد بالثوابت الوطنية والقومية وعدم المساومة عليها تحت أي ظرف. وفيما تأخذ المبدئية بعضاً الى صدام مبكر مع تلك المعطيات والوقائع تكلفه الكثير، وتأخذ الواقعية السائبة بعضاً ثانياً الى التفريط في الحقوق والثوابت تكلفه شرفه، تمسك سوريا وحدها بناصية المسألة فلا تشطح في سلوكها الى حيث تُفْرِط أو تُفَرط. والنتجية أنها وحدها تنفرد بخاصية القدرة على مخاطبة الوجدان العربي والمزاج الدولي بلغة لا ينزعج منها أحد من الفريقين.

يمثل كثيرون الى الاعتقاد بأن السياسة السورية براغماتية. هذه في ما أحسب ليست سُبّة أو شتيمة، وإن خالها البعض كذلك. إنها معنى السياسة التي لا معنى لها من دونه. لكن قليلاً من الاستدراك هنا ضروري لوضع براغماتية سورية في المكان المناسب من فلسفتها. إنها ليست فهلوة شكلية أو عملاً من أفعال الحاوي، ولا هي في جملة الدهاء الذي يأكل من دماغه (= من حقوقه). هي، بالأحرى، فلسفة أداء يأخذ معطيات الواقع في الحسبان للحد من آثارها السلبية في ما ليس برسم إلغاء أو تعديل (= الحقوق). إن وازعها المصلحة، ولكن بما هي مصلحة مشدودة الخيوط الى الأهداف العليا وإلا بات معنى المصلحة مبتذلاً على نحو ما هو عليه أمره لدى من أخذتهم "الواقعية" الى التسليم بالأمر الواقع، الى الوقوعية على وصف صديقنا د. محمود عبدالفضيل. وقد يكون من المصلحة أحياناً الإقدام على تراجع تكتيكي اضطراري لتفادي صدام تنوء بثقله الإمكانات الذاتية. وهو ما أجبرت عليه سوريا في مناسبات متعددة (،1982 ،1991 ،2003 2005) وأتقنت الخروج منه سريعاً بعد أن ارتفعت أسبابه. هي تعرف متى تنحني لتمرّ العاصفة وكيف تنحني لها، لكنها لا تطيل الانحناء. ومن يستعيد تاريخ سوريا السياسي في الأربعين عاماً الأخيرة، يقف بالبينات على تلك القدرة المذهلة لديها على امتصاص الضغوط والتحديات والتكيف الإيجابي معها من دون تنازل أو تفريط.

سوريا اليوم في مفاوضات غير مباشرة مع "إسرائيل". يمكن لأي وطني في هذه الأرض العربية أن يتطيّر من الخبر ويَعْقِد حاجبيه عبساً، لأنا ما خرجنا من مفاوضات أمس إلا بالنوائب: منذ كامب ديفيد حتى وادي عربة مروراً بأوسلو، ولأنه ما إن يبدأ حديث المفاوضات حتى تلين "عريكة" العربي ويأخذه حسن النية بالعدو الى إبداء الاستعداد لخفض سقف المطالب وكأنه في مناقصة عامة في السوق! ثم لأن المفاوضات في مناخ التراجع العام والاختلال الفادح في نسبة القوى لا تنتج ما هو أكثر من لوحة التوازن القائم.. إلخ. شعور الخوف هذا شرعي ومشروع ويقوم من السوابق دليل على شرعيته. لكنه يصح في حالة أي مفاوض عربي غير المفاوض السوري.

نعم، للمرء منا أن يطمئن أكثر حين تكون الدولة العربية المفاوضة هي سوريا، إذ ليس في سجل سلوكها السياسي أثناء التفاوض ما يرفع من منسوب القلق في النفس. لقد خاضت المفاوضات في واشنطن وجنيف وسواهما ولم تسلم أو تفرط في شيء. مواقفها هي هي ومطالبها هي هي. تُدعى الى التفاوض فتستجيب من دون أن تقبل بشروط من يدعوها إليه. وحين لا تجد على طاولة التفاوض حقوقها، تعلن لاءاتها جهراً وتعود الى ممارسة سياساتها الهادفة الى إنضاج شروط تحصيل الحقوق. ومن المؤكد أن المفاوضات الراهنة لن تصل الى شيء لأن سوريا متمسكة بما تعتقد "إسرائيل" أنه يسعها أن تحمل سوريا على التواضع في صلبه. وقطعاً ستكون "إسرائيل" على درجة محترمة من الغباء إن ركنت الى الاعتقاد بأن سوريا ستبيع علاقتها "بحزب الله" والمقاومة في فلسطين والعراق لكي "تضمن" مقعدها في التفاوض، أو أنها قد تضحي بالضفة والقطاع والقدس وحق العودة ومزارع شبعا من أجل الجولان.
"الخليج"

التعليقات