31/10/2010 - 11:02

صبرا وشاتيلا وأثرها في تكوين الهوية لدى فلسطينيي الداخل../ عوض عبد الفتاح

صبرا وشاتيلا وأثرها في تكوين الهوية لدى فلسطينيي الداخل../ عوض عبد الفتاح
إنه المشهد الذي لا يُمحى من الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية. إنها الصور الراسخة في الذهن التي لا يذروها الزمان: صور الجثث المكدسة بين أكواخ اللجوء التي قتلتها وحوش «آدمية» من أبناء جلدتنا.

لم نكن نعرف، نحن الشباب آنذاك، ان عرباً يمكن ان يتحولوا الى وحوش و«يأكلوا» اخوانهم وضيوفهم. وفي أي حال تعلمنا، لاحقا، بقراءة المزيد من فصول التاريخ، ومن خلال تجربة الحياة المباشرة، ان المصالح، والحقد الطائفي، والايديولوجيات المنغلقة إذا ما استحكمت بالبشر يمكن ان تسحق إنسانية الإنسان وتختزله الى ضبع قاتل، والى عميل يبرر وحشيته او عمالته وخيانته بشتى التسويغات والحجج.

وقعت أنباء المجزرة على الناس كوقع الصواعق، وبمشاعر تشبه ذبح والديك واخوتك امام ناظريك. كل عائلة فلسطينية في منطقة الجليل الفلسطيني لها أقارب في مخيمات لبنان (مثلاً في حالتي، استشهد اثنان من أبناء عمة أمي في اثناء الغزو الإسرائيلي عام 1982. وقد جاءت العمة الثكلى حاملة على كاهلها مأساة النكبة بعد فترة من الغزو الى قريتي بتصريح «إسرائيلي» وكانت لا تزال تبحث عن جثة أحدهما).

عاش الفلسطينيون في الداخل، في أثناء الغزو، ثلاثة اشهر ثقيلة، أسوة بأبناء شعبهم في كل مكان، بمشاعر متغيرة تدرجت من الشعور بالاعتزاز والفخر الى الشعور بخيبة الأمل والمرارة وانتهاء بالشعور بالصدمة والذهول والفاجعة. كان مبعث الشعور بالاعتزاز صمود المقاومة الفلسطينية أمام الآلة العسكرية الصهيونية الضخمة لأسابيع طويلة، وكانت تنشر بعض شهادات الجنود الإسرائيليين في الصحف الإسرائيلية عن المقاومة الصلبة التي كانوا يصطدمون بها في مواقع عدة.

وكانت الإثارة والاعتزاز أكبر حين تحدث هؤلاء الجنود عن أطفال صغار يحملون قذائف الـ(آر بي جي) على أكتافهم ويتصدون للدبابات الإسرائيلية ببسالة. وكنا احياناً نتساءل عن حكمة تجنيد الأطفال وزجهم في المعركة. وتباهى احد الضباط في احدى الصحف الإسرائيلية كيف لاحق طفلاً يحمل قذيفة (آر بي جي) على كتفه ومزقه بقذيفة من مدفعية دبابته، بعد ان استطاع عدد من الأطفال تحقيق إصابات مباشرة ببعض الدبابات.

أما الشعور بالخيبة فقد جاء بعد أن توقفت الحرب التي انتهت بهزيمة المقاومة وخروجها من بيروت، من دون ان يتدخل العرب لنصرة الفلسطينيين واللبنانيين الوطنيين الذين قاتلوا الى جانب المقاومة، باستثناء سوريا التي قاتلت قواتها بشراسة في معركة الجبل وباعتراف الإسرائيليين.

وكانت الشتائم المعبرة عن السخط تنهال على النظم العربية وبالتحديد النظام المصري ـ نظام كامب دايفيد، الذي وقف متفرجاً ولم يتدخل.


اعتقدنا ان خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان هو نهاية المطاف، وذروة المأساة. لكن لم يطل الوقت كثيراً حتى تكشفت نتيجة اخرى راعبة لهذه الحرب الإسرائيلية الهمجية وبالتحديد بعد خروج المقاومة، وبقاء المخيمات الفلسطينية من دون دفاع ومن دون حماية.

انه اشبه بإضافة أطنان اخرى من الملح على الجرح. انها المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها الكتائب المدعومة إسرائيلياً.
تظاهر الفلسطينيون منذ بداية الحرب، احتجاجاً على العدوان، وتضامنا مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ولكنها لم تكن تظاهرات عارمة، فالغالبية كانت ملتصقة بأجهزة المذياع، وكانوا يتابعون أخبار المعارك والمواجهات بالتفصيل، وتعلموا أسماء المدن والقرى والمواقع اللبنانية، بل اصبحوا يعرفون اسماء الأحياء في بيروت الغربية حيث المقاومة والحصار.

وكان «مثلث خلدة» يتكرر كإحدى نقاط المواجهة والصمود في وجه المعتدين الإسرائيليين. وكانت التوقعات ان يتدخل احد من الدول العربية، او الاتحاد السوفييتي، ولكن الحرب انتهت وخابت التوقعات وسقطت الأوهام، وتعرف الفلسطينيون الى المصالح الدولية والإقليمية التي تحكم قرارات الحرب والسلم، وتحكم محدودية العلاقة بالحلفاء كالاتحاد السوفييتي آنذاك.

بعدها ايضا جرى التعبير عن خيبة الأمل من أداء قيادة المقاومة الفلسطينية. وبدأ عرب الداخل يطرحون اسئلة بهذا الخصوص. لماذا حصلت الهزيمة؟ لماذا وافقت المقاومة على الخروج وتركت اللاجئين بلا حماية.
كان ردة الفعل الأولى الذهول والصدمة والحزن والبكاء. وفي هذه الحالة تحرك الناشطون، ومارسوا تجربتهم في العمل الشعبي والسياسي وقرروا أن يحولوا اللوعة والشعور بالفاجعة إلى فعل شعبي عارم.

وزعوا البيانات ودخلوا المدارس وجابوا الشوارع وانتفضت المدن والقرى، وخرج الناس في تظاهرات عارمة. لم تبق قرية صغيرة أو مدينة إلا خرجت في تظاهرة أو عقدت اجتماعاً شعبياً للتنديد بالمجزرة. أما الشيوخ وكبار السن فكانوا يرقبون المتظاهرين الغاضبين، من شرفات بيوتهم، وهم يبكون.

وقد اندلعت هذه التفاعلات بمبادرات محلية وعفوية وليس بمبادرات قطرية. ولهذا تجنبت قوات القمع الاسرائيلية دخول معظم القرى والمدن لتفريق التظاهرات «غير المرخصة»، لكن بعض البلدات العربية، كمدينة الناصرة حيث توجد مراكز دائمة للشرطة الاسرائيلية، شهدت مواجهات دامية استعمل جنود الاحتلال فيها الرصاص الحي لتفريق الناس، وأصيب العشرات بجروح.

كما اعتقل عدد كبير من الناشطين والمواطنين العاديين في أثناء التظاهرات، وواصلت الشرطة حملة الاعتقالات على مدار أيام عدة، بل أسابيع والتحقيق معهم وضربهم بوحشية في سبيل ردعهم (أنا شخصيا اعتقلت بعد مرور ثلاثة أشهر من انتهاء الهبة لعدة أيام بتهمة التحريض على التظاهرات، والمشاركة في قيادتها في منطقة البطوف التي كانت أولى المناطق التي انطلقت منها شرارة التظاهرات. كانوا يبحثون عن عنواني بعد ان انتقلت إلى مدينة القدس حيث جلبوني من هناك إلى مراكز التحقيق في منطقة الجليل، حيث أسكن).

أدركت الدولة العبرية حجم الصدمة التي وقعت على عرب الداخل، ولكنها أدركت في الوقت نفسه، مدى ما مثّله هذا التحرك الشعبي العفوي المنظم من تعبئة وتحشيد في أوساط هذا الجزء من شعب فلسطين ضد سياساتها الرامية إلى أسرلتهم وقطع أواصرهم عن بقية أبناء شعبهم.

كانت هذه المرة الثانية التي تجتاح القرى والبلدات العربية في الداخل تظاهرات وتحركات شعبية عارمة وغاضبة بهذا الحجم، بعد يوم الأرض عام 1976. ولكن ما ميز هذه الهبة عن هبة يوم الأرض هو أنها جاءت كنتيجة لحرب «إسرائيل» ضد الشعب الفلسطيني وحركة المقاومة في الخارج. أما هبة يوم الأرض فقد كانت مدفوعة مباشرة بموضوع داخلي، له بعد وطني محلي ومدني، أي مصادرة الأرض.

وبطبيعة الحال، لا يمكن فصل هذا الحدث الكبير، أي الاحتجاجات الشعبية على مجزرة صبرا وشاتيلا، عن التحولات الثقافية والسياسية التي كانت تجري لدى عرب الداخل منذ أواخر الستينيات، أي بعد رفع الحكم العسكري عنهم، وبعد انعكاس صعود المقاومة الفلسطينية بعد معركة «الكرامة» والانتصار (غير المكتمل) الذي حققه العرب على الجيش الإسرائيلي عام 1973، وصولاً إلى الهبة الشعبية الشاملة التاريخية الأولى في تاريخهم في 30 آذار 1976.

تلك كانت العوامل الممهدة لمرحلة الوعي الوطني المتجدد، والخروج من حالة الدفاع عن النفس ومعادلة البقاء بأي شكل، الى البقاء والثبات بوعي سياسي متقدم وبروح المبادرة للنهوض وبناء المجتمع والهوية، ومقارعة النظام العنصري.

إذاً، يمكن إيجاز أبعاد حركة الاحتجاجات العارمة والشاملة على مجزرة صبرا وشاتيلا، بأنها كانت من المحطات الأكثر تأثيراً في الوعي الفلسطيني الجمعي داخل الخط الأخضر، من أي محطات سياسية أخرى سبقتها أو لحقتها. وبطبيعة الحال هناك فارق في نوعية البعد النفسي والعاطفي الناجم عن آثار مجزرة حيث يذبح أبناء جلدتك كما تذبح النعاج، من دون ان يكون لدى الفرد أو الجماعة سلاح يدافعون به عن أنفسهم، وبين البعد المعنوي الناجم عن معركة حتى لو انتهت إلى هزيمة جرت بعد مقاومة وبطولة واستبسال. ان الأولى تثير الاحباط والأسى، وقد تزرع الشعور باليأس، أما الثانية فإنها، حتى لو أثارت خيبات الأمل والألم، غير أنها تزرع الأمل في المستقبل، الأمل في الشعب وحركته المقاومة وخاصة إذا ما تمكنت النخبة من مراجعة التجربة والمضي في طريق البناء على روح المقاومة وتجنب الأخطاء.
___________
ملحق "فلسطين" الصادر عن "السفير"

التعليقات