31/10/2010 - 11:02

عادت الجبهة بخفي دوف حنين

كما ليس حديثنا هنا عن ارتماء الجبهة في أحضان سلطة رام الله وتساوقها مع رموز سلطوية هي أخطر ما يكون على القضية الوطنية، وليس حديثنا أيضا عن وقوفها ضد المقاومة الفلسطينية والحكومة الفلسطينية المنتخبة، والذي لا يخفيه وقوفها ضد الحرب

عادت الجبهة بخفي دوف حنين

أن تصبح قصائد تشارنيخوفسكي نشيدنا الوطني. وأن نستبدل العلم الفلسطيني بالعلم الإسرائيلي بعد أن تلتف أغصان الزيتون على نجمة داوود فيه. وأن يصبح حق العودة تذكرة حافلة لا يمكن استخدامها لكون الحافلة مليئة بالركاب. وأن تصبح حركات المقاومة الفلسطينية إرهابية. هذا غيض من فيض يؤكد، المرّة تلو المرّة، نهج الازدواجية في خطاب ومواقف الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.

ونحنُ، وإن كنا قد أظهرنا أكثر من مرة أن الجبهة تتحدث بلغتين وخطابين وكنا نتهم دائما بالتحريض على الجبهة، إلا أن الحقائق الدامغة تكشف أن خطاب ما بات يصح تسميته بـ"القطاع العربي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي" ليس له جذور، وأن ما يتم تعميمه باللغة العربية ليس إلا محاولة لهذا القطاع من أجل الخروج من محنتها أمام الخطاب الذي تطرحه القوى الوطنية، والذي تصح تسميته بـ"الخطاب الثوري". كما يتضح أن الجبهة لا تنجح في إخفاء هذه الازدواجية والتناقضات، بقدر ما لا تنجح في إخفاء الأسرلة في خطابها.

ونحن في هذا السياق لا نستحضر ما تضمنه تاريخ "الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، وخاصّة في الموقف من قرار التقسيم، والتوقيع على وثيقة الاستقلال والموقف التاريخي من الصهيونية واعتبارها حركة تحرر وطني، والموقف التاريخي من تجنيد الشبان العرب عامة، والفتاة العربية خاصة، في الجيش الإسرائيلي، والموقف من "قانون العودة الإسرائيلي"، كما لا نستذكر موقفه من منظمة التحرير الفلسطينية، وخاصة قبل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا نستذكر المعارك الشرسة التي شنها، إلى جانب الأجهزة الأمنية والأحزاب الصهيونية، على الحركات الوطنية في الداخل، بدءًا من "حركة الأرض" وثم حركة "أبناء البلد" والحركة التقدمية وانتهاء بالتجمع الوطني الديمقراطي.

كما ليس حديثنا هنا عن ارتماء الجبهة في أحضان سلطة رام الله وتساوقها مع رموز سلطوية هي أخطر ما يكون على القضية الوطنية، وليس حديثنا أيضا عن وقوفها ضد المقاومة الفلسطينية والحكومة الفلسطينية المنتخبة، والذي لا يخفيه وقوفها ضد الحرب على قطاع غزة، في الوقت الذي تؤيد أهدافها.

وإنما نشير في سياق عرض هذه الازدواجية، وحتى لا يدّعي أي مدع أن حديثنا هو من باب التحريض السياسي، نشير إلى المقابلة التي أجرتها صحيفة "هآرتس" مع المرشح الثالث في قائمة الجبهة، دوف حنين، بالمقارنة مع ما جاء، وما أخفي، في بيان صادر عن الجبهة باللغة العربية، بشأن المقابلة ذاتها، وكأنما القارئ العربي لا يتقن العبرية.

وتضمن البيان الصادر باللغة العربية أن دوف حنين قد "أكّد أنه على إسرائيل الاعتراف بحق العودة، وضمان أن يكون هذا الحق لكل لاجئ، فيما أكد على حق اللاجئين في وطنهم، وإيجاد ترتيبات لعودتهم إلى قراهم المهجرة، معلنا رفضه الواضح لإنشاد نشيد ’هتكفا’، ومتحدثا عن إشكالية العلم الإسرائيليّ".

وبشأن العلم الإسرائيلي ونشيد "هتكفا" يكتفي البيان، المكتوب بالعربية، بالإشارة إلى ما نسبته إلى دوف حنين "إنني لا أنشد نشيد ’هتكفا’، ويجب استبداله بنشيد آخر بالإمكان أن يمثل الأقلية الفلسطينية أكثر، العلمُ الإسرائيلي لا يمكن أن يمثل الأقلية الفلسطينية، ولهذا يجب إجراء تعديلات عليه، العلم الأقرب إليّ هو العلم الأحمر".

قد يبدو هذا الكلام معقولا، إلا أنه في المقابل، فلدى الاطلاع على تفاصيل المقابلة التي نشرت باللغة العبرية (في صحيفة "هآرتس") يتبيّن أن هناك تناقضات صارخة ما بين حقيقة ما جاء في المقابلة بالعبرية، وبين ما تحاول الجبهة أن تصدره إلى وسائل الإعلام العربية.

ففي اللقاء، يتنازل دوف حنين عن حق العودة، ويتنازل عن حق كل اللاجئين بالعودة إلى ديارهم التي هجروا منها. فيقول، وخلافا لما تم نشره في بيان الجبهة باللغة العربية "يجب أن يكون هناك اعتراف بحق العودة، ولكن هناك فرق بين الحق وبين تطبيق هذا الحق. فعندما تشتري تذكرة يكون لديك الحق في أن تصعد إلى الحافلة، ولكن إذا كانت ممتلئة بالركاب فإنك لن تستطيع أن تستخدم هذا الحق. يجب الاعتراف بالحقوق وإيجاد طريقة عملية لتطبيقها". وردًا على سؤال ما هي الطريقة العملية؟ وهل تكون باستيعاب نصف مليون لاجئ؟ مليون لاجئ؟ يجيب "على إسرائيل أن تكون مستعدة لاستيعاب لاجئين عدد لا بأس به من اللاجئين".

أما بالنسبة لنشيد "هتكفا"، الذي يؤكد أنه يحترمه ويقف حال سماعه، فيقترح أن يتم استبداله بقصيدة للشاعر اليهودي تشارنيخوفسكي، يتماثل معها، ويعتقد أن العرب سيتماثلون معها أيضا. وردا على سؤال حول العلم الإسرائيلي، يجيب أنه لن يضيره أن يتم إدخال ورقة زيتون على العلم، أو أن تكون نجمة داوود ملفوفة بأغصان الزيتون، وهو ما أسماه "القليل من الإبداع".

ويمضي دوف حنين في المقابلة فيعتبر الجبهة قطبا يساريا للسياسة الإسرائيلية، وأنها المشروع السياسي الأخير المشترك بين اليهود والعرب، وأنها معارضة فعالة. وردًا على سؤال لماذا يجري التعبير عن دعم المقاومة بالعربية فقط وليس بالعبرية، يجيب أن مشروع سياسة يهودية – عربية هو معقّد، موجه إلى جمهورين بأسلوبين مختلفين. كما يعتبر أن "الأقلية تريد الشراكة مع الغالبية أكثر مما تريد الأخيرة مع الأولى"، ويقترح على من يرغب من اليهود أن تكون "الجبهة أكثر توازنا" أن ينضم إلى الجبهة. ما يعني أنها "غير متوازنة" الآن بسبب عرب الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

ولا يبتعد دوف حنين كثيرا عن مواقف وزيرة الخارجية الإسرائيلية ورئيسة "كاديما"، تسيبي ليفني، بشأن اعتبار "إسرائيل هي البيت القومي لليهود، والدولة الفلسطينية هي البيت القومي للفلسطينيين، وبالتالي فإن حق العودة سيكون إلى الدولة الفلسطينية، ويكون الحل القومي للفلسطينيين في الداخل هو في الدولة الفلسطينية". حيث يردّ دوف حنين على سؤال حول الحل، باقتراح حل "دولتين لشعبين"، وعندما يسأل ماذا سيكون في داخل الخط الأخضر؛ دولة يهودية أم دولة ثنائية القومية؟ أم دولة جميع مواطنيها؟ يجيب أنّ دولة إسرائيل هي التعبير عن حق تقرير المصير لليهود الإسرائيليين.

كما كان من اللافت أن دوف حنين رفض أن يقول صراحة إن قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين ارتكبوا جرائم حرب في قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة. فيضطر أرييه شافيط، الذي أجرى المقابلة لصحيفة "هآرتس"، إلى سؤاله مرتين عما إذا كان يعتبر الحرب جريمة. وقد تجنب دوف حنين الإجابة على السؤال في المرة الأولى حيث قال إن "هذه الحرب كارثة"، وعندما ألحّ عليه شافيط بالسؤال مرة ثانية، ردّ دوف حنين بإجابة عامة، وقال إن أي مس بالمدنيين يعتبر جريمة.

وردًّا على سؤال إذا ما كان يجب محاكمة الضباط والقادة بسبب جرائم الحرب (التي لم يقلها دوف حنين)، عندها يجيب أيضا بالإجابة العامة ذاتها فيقول "كل مس مقصود بالمدنيين هو جريمة حرب. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تابع مشككا "والآن يجب فحص إذا ما كان ذلك مقصودا"، وفي نهاية إجابته على السؤال يقول إن ما يعنيه أكثر الآن هو كيفية الخروج من ذلك.

ويتجاهل دوف حنين تماما أن الاحتلال والحصار الذي فرض على قطاع غزة هو سبب كل الكوارث الإنسانية في القطاع، فيقول "كان ذلك هجوما وحشيا على مكان مسكين وتعيس ومنكوب"، بدون أن يشير إلى أن السبب هو الاحتلال والحصار، وكأنّما ضرب القطاع هزة أرضية أو تسونامي بحري، وكأنما ليست دولته، التي خدم في جيشها، هي المسؤول الأول والمباشر والأخير عن ذلك.

ويبدو أن أجوبة دوف حنين قد حثّت شافيط على تلويمه بسبب "عدم تأثره بحالة سكان سديروت تحت تهديد الصواريخ"، إلا أن الأخير يفاجئه بالقول "نحن لم نسكت.. محمد بركة هاجم حركة ’حماس’، بالعربية، على الانقلاب، وعلى الإرهاب، وعلى إطلاق الصواريخ.. بركة وسويد وأنا شاركنا في جنازة فانيا سلوتسكر من سديروت، ليس فقط من أجل تقديم العزاء وإنما للتظاهر ضد قتل الأبرياء".

ويخلص دوف حنين إلى نتيجة عجيبة تتناقض مع كافة الوقائع والدراسات والاستطلاعات التي تشير إلى انزياح واضح وصارخ نحو اليمين، حيث يعتبر أن المجتمع الإسرائيلي بات أكثر انفتاحا، وأنه حصلت به تغييرات لم تلتقطها مجسّات الاستطلاعات، وأن هناك توجها "أحمر - أخضر" يثير فيه الشعور بالفخر كيهودي وكإسرائيلي.

تجدر الإشارة إلى أن تصريحات دوف حنين هذه لم تأت كزفرة يتيمة في الأيام الأخيرة، وإنما تتوج سلسلة من المواقف تعكس الحد البعيد الذي وصلته عملية أسرلة خطاب الجبهة. فقد سبق وأن توجه إلى لجنة الانتخابات المركزية ونائب رئيس المحكمة العليا، القاضي إليعيزر ريفلين، محتجا على التعامل مع الأحزاب العربية، ومن ضمنها الجبهة، كحزب واحد، ومؤكدا أن الجبهة ليست حزبا عربيا، وأن التصنيف للجبهة يجعله، هو شخصيا، عضو كنيست يهودي في "حزب عربي"، وليس عضو كنيست يهودي في "حزب يهودي – عربي".

واعتبر دوف حنين أن ضمّ الأحزاب العربية الثلاثة (بما فيها الجبهة) إلى تصنيف واحد يحجب عن الجمهور تمييز ميزان القوى بين القوائم، وباحتمالات كل قائمة لكسب أصوات في الانتخابات، وذلك بالرغم من وجود فوارق جوهرية بين القوائم.

كما تؤكّد مواقف الجبهة وخاصة بما يتصل برفضها تشكيل قائمة عربية تحالفية لخوض انتخابات الكنيست، على أنها ترفض الفكرة بشكل مبدئي، انطلاقا من اعتبارها لنفسها "يهودية - عربية"، ورفضها التحالف بالتالي مع القوميين والإسلاميين، من باب أنها تلتقي مع ما تسميه "القوى الديمقراطية اليهودية" أكثر مما تلتقي مع الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا.

ولا يغيب عن الأذهان الأمين العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي "ماكي"، سابقا شموئيل ميكونيس، والنائب عن الحزب موشي سنيه، واللذان توجهت فترتهما بالانقسام عام 1965 وأعلن عن تأسيس القائمة الشيوعية الجديدة "راكاح"، عندما يسعى النائب دوف حنين إلى التأكيد على أن الجبهة ليست عربية، وإنما "يهودية – عربية" (رغم الأكثرية العربية في الجبهة، لاحظوا أنه لا يقول عربية - يهودية!)، وعندما يسعى إلى التأكيد على رفض التحالف مع الأحزاب العربية، رغم استعداده للتحالف مع عناصر اليمين في قائمة يهودية صرف في انتخابات بلدية تل أبيب، وعندما يسعى إلى التأكيد على رفض تصنيف الجبهة على أنها حزب عربي، وعندما يسعى إلى التأكيد على خلاف الجبهة الأيديولوجي مع الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا، وحتى عندما يسعى إلى التسلق في القائمة الانتخابية للجبهة.

وكان دوف حنين قد أدلى بتصريحات مماثلة، بعد انتخابه مرشحا ثالثا في قائمة الجبهة، لأحد المواقع الإلكترونية العبرية، والتي تضمنت رفضه الشديد لفكرة تشكيل قائمة تحالفية للأحزاب العربية. وقال إنه "لا يوجد أساس أيديولوجي للوحدة"، وأضاف: "نحن قائمة يهودية – عربية واشتراكية، ومثلما لا يوجد أساس مشترك بين حزبي ’ميرتس’ والليكود، فلا يوجد أساس مشترك بيننا وبينهم.. الفجوة الأيديولوجية كبيرة جدا"، وتابع دوف حنين أن المهمة الأساسية للجبهة في هذه الانتخابات هي تجنيد أصوات اليهود، وقال إن التحدي الموجود أمام الجبهة هو الوصول إلى الجمهور اليهودي.

بقي أن نشير في هذا السياق إلى كلمة رئيس الجبهة الديمقراطية، محمد بركة، في خطاب له بالعبرية، وهو يرد على عضو المكتب السياسي لحركة "حماس" وممثلها في لبنان، أسامة حمدان، لكسب ود الإسرائيليين وخاصة قبل الانتخابات، طالبا منه عدم التدخل في شؤون عرب الداخل. وهنا وإن كنا نشير إلى أن حمدان اللاجئ والمناضل ضد الاحتلال ومن أجل حق العودة إلى وطنه، فإنه، وعدا عن كونه يدرك تماما الظروف السياسية لفلسطينيي الداخل، فهو لم يطلب منهم، خلال الحرب على قطاع غزة، ما يطلبه من الضفة الغربية، وإنما، وهذا أقل ما يمكن فعله، طلب تصعيد النضال كل بحسب موقعه، وهذا طلب طبيعي حري بأي قائد سياسي أن يقوم به، من أجل نصرة شعبنا في قطاع غزة الذي يخوض صراعا من أجل القضية الفلسطينية أساسا، ويواجه عدوا شرسا عجز عن كسر شوكة المقاومة فلجأ إلى قصف المدنيين والنساء والأطفال والمسنين، ولكن المقاومة ظلت عصية على الكسر.

هنا يكفي أن نقول لبركة - الذي لا ينفكّ عن ترديد خطاب التجمع الوطني الديمقراطي للاستهلاك الإعلامي العربي - هل ستقول لحمدان ألا يتدخل في شؤون فلسطينيي الداخل عندما يتم الاتفاق على صفقة تبادل أسرى يكون فيها أسرى الداخل على رأس قائمة الأسرى المحررين؟ هل ستردد بعد الآن أنك جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، أم ستعود إلى اسطوانتكم القديمة والتي بموجبها انتهت علاقتكم التاريخية بالشعب الفلسطيني عام النكبة؟ ثم من خولك أن تتحدث باسم فلسطينيي الداخل أم أنك تعتبر نفسك وصيا إسرائيليا عليهم وعلى هويتهم السياسية وسقف تطلعاتهم القومية؟

وختاما، يتضح ممّا سبق أن ما يحصل من تسارع في تحول الجبهة إلى الأسرلة، ومراهنتها على انفتاح إسرائيلي مزعوم، سوف يجعل من غير المستبعد أن نسمع قريبا أن "عرب الحزب الشيوعي الإسرائيلي" يسعون إلى إحداث تغيير من داخل الجبهة، وهذا بالمناسبة نفس الأسطوانة التي يكررها عرب حزب "العمل" لتبرير بقائهم في "العمل"، وبالتالي لن يكون هناك مجال، إن آجلا أم عاجلا، للقول سوى "عادت الجبهة بخفي دوف حنين".

التعليقات