31/10/2010 - 11:02

عدالة المحاكم الأميركية!../ محمود مبارك*

عدالة المحاكم الأميركية!../ محمود مبارك*
أبدأ مقال اليوم بقصة أقرب ما تكون إلى قصص الأفلام منها إلى عالم الواقع. ففي عام 1993، مَثُل أمام إحدى محاكم نيويورك شابان عربيان اتُّهما بتفجير مبنى التجارة الدولية بنيويورك عن طريق تفخيخ سيارة «فان» مستأجرة.

كانت التهمة الفيديرالية تنقصها قرينة قوية تؤكد ضلوع المتهمين في الحادثة، بسبب عدم وجود شهود، وبطبيعة الحال لم يكن هناك اعتراف من المتهمين بقيامهما بالتفجير المنسوب إليهما. إذ كما هو معلوم في القانون الجنائي فإن التهمة تثبت بإحدى ثلاث طرق: إما الاعتراف وهو أقوى الطرق على الإطلاق، أو البينة بما في ذلك شهادات الشهود، أو وجود قرينة أو مجموعة من القرائن ترقى فوق ما يعرف في القانون الأميركي بـ «درجة الشك المنطقي» أو beyond reasonable doubt.

ولكن المدعي العام استطاع إحضار شاهد زعم أنه شاهد الرجلين المتهمين في صباح يوم الحادثة، حين أتيا إليه في محطة البنزين التي كان يعمل بها ليقوم بتعبئة سيارتهما «الفان» بالوقود، ثم بعد ذلك ليقوم بتعبئة عدد من الخزانات الكبيرة الموجودة داخل السيارة بالوقود أيضاً استجابةً لطلبهما، في إشارةٍ إلى الطريقة التي تم بها التفجير.

حين سأل المدعي العام الشاهد الدومينيكي الجنسية عما إذا كان يستطيع تمييز المتهمين، أجاب بأنه يتذكر الرجلين اللذين وقفا بمحطته صباح يوم الحادثة ويعرفهما «تمام المعرفة». وحينما طُلِب منه الإشارة إلى المتهمين في قاعة المحكمة، ما لبث الشاهد أن نزل من كرسيه وتوجه إلى حيث يجلس المحلَّفُون ولدهشة الحاضرين جميعاً، أشار إلى اثنين من المحلفين بقوله: هذا وهذا!

ضجّت القاعة بصرخة استغراب حيث كان وقْع تلك الشهادة كالصاعقة على كل مَنْ بداخل المحكمة. لم يعرف المدعي العام - الذي علاه الوجوم - كيف يتصرف حين رأى الشاهد الوحيد في القضية يقدم دليل تبرئة للمتهمين العربيين من دون قصد، إلا أنه طلب من القاضي رفع الجلسة إلى اليوم التالي ولم يتردد القاضي في قبول طلبه.

كان أقل ما يمكن أن يقال في حق تلك الشهادة من «الشاهد الوحيد» أنها عدم يقين بمعرفة المتهمين بارتكاب الجريمة، ولو كان المتهمان غير المتهمين لانتهت القضية من ساعتها!

ولكن المحكمة التي لم تكتف برفض طلب محامي الدفاع في إيقاف القضية وإلغاء التهمة، قبلت شهادة الشاهد اللاحقة ضد المتهمين حين تعرّف عليهما في اليوم التالي، وزعم أنه أخطأ في المرة الأولى بسبب ارتباكه! في سابقة أغرب من شهادة «شاهد ما شفش حاجة» لتنتهي القضية بإدانتهما!

عادت إلى ذاكرتي هذه القصة حينما وقفت على قرار المحكمة العليا الأميركية الثلثاء الماضي في رفضها قبول الدعوى التي رفعها الاتحاد الأميركي للحريات المدنية ضد الرئيس بوش الذي قام بالتنصت على مواطنين أميركيين مسلمين، من دون أن تبدي المحكمة سبب الرفض!

كان الطلب المقدم أمام المحكمة هو أن تنظر في ما إذا كان الرئيس بوش تجاوز صلاحيته بموجب فصل السلطات المنصوص عليه في الدستور الأميركي، حينما أصدر أوامره للأجهزة الاستخباراتية بالتجسس على مكالمات ومراقبة البريد الإلكتروني لعدد من المواطنين الأميركيين وبعض دور العبادة بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 من دون إذن قضائي.

ذلك أنه بحسب قانون مراقبة المعلومات الخارجية الذي سنّه الكونغرس الأميركي عام 1978، «لا يجوز القيام بأعمال تجسس على المواطنين الأميركيين في الولايات المتحدة من غير الحصول على إذن من محكمة سرية خاصة». في الوقت نفسه، يؤكد التعديلان (الأول والرابع) من الدستور الأميركي وجوب الحفاظ على الحريات الخاصة للمواطن الأميركي وعدم جواز انتهاكها.

ونتيجة لتلك الأهمية الدستورية لحريات المواطنين الأميركيين، تعرض برنامج الرئيس بوش للتجسس الداخلي - منذ أن ذاع خبره للوهلة الأولى عام 2005- للنقد اللاذع من عدد كبير من المنظمات الحقوقية داخل الولايات المتحدة وناشطي حقوق الإنسان والأكاديميين والصحافيين وأعضاء بارزين في الكونغرس من أمثال مرشح الرئاسة السابق آل غور الذي اتهم بوش بخرق القوانين الداخلية ووصف هذا العمل بأنه «انتهاك خطير» للدستور.

وكانت محكمة ابتدائية في ولاية أوهايو قد قضت بأن برنامج التجسس الداخلي غير دستوري، إذ أعلن قاضي المحكمة أن سياسة بوش للتجسس كانت «غير دستورية» في أقسى حكم وُجّه إلى إدارته، إلا أن ذلك الحكم قد نقض من محكمة الاستئناف بفارق صوت واحد في شهر تموز (يوليو) الماضي.

بيد أن قرار المحكمة العليا الاميركية الذي صدر الأسبوع الماضي برفض قبول مجرد النظر في تلك الدعوى أمر يصعب تبريره! ففي الوقت الذي كان يفترض فيه أن تكون العدالة القضائية هي الملجأ لكل من يشعر بتعدٍ أو تجنٍ من أي جهاز في أي وقت، كان الأولى بأعلى سلطة قضائية في الولايات المتحدة - في أقل الأحوال - أن تستمع إلى الدعوى المقدمة ضد هذا الطرف أو ذاك، بصفتها نهاية هرم السلطة القضائية في البلاد، ولأنها الجهة المنوط بها البت في أي خلاف دستوري ينشأ عن تعدي أو خطأ أي من السلطتين التنفيذية المتمثلة في الرئيس وحكومته، أو التشريعية المتمثلة في الكونغرس بشقيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ.

وغني عن القول إن ما قام به الرئيس بوش بصفته رئيس السلطة التنفيذية من السماح بالتجسس على مواطنين أميركيين ودور عبادتهم ومؤسساتهم، محل سؤال دستوري لا بد من الإجابة عنه، وإذا لم تكن المحكمة العليا هي التي تقرر فمن؟

الأمر الأشد غرابةً - خارج الإطار القانوني - هو أن هذا الرفض القضائي لم يلق زخماً إعلامياً ملائماً لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها، فيما يعتبر سابقة قضائية خطرة، قد تكون أساساً للعديد من التجاوزات الرئاسية المستقبلية.

ولكن واقع الأمر أن أوامر التجسس التي أمر بها الرئيس بوش كانت موجهة ضد مسلمين يحملون الجنسية الأميركية ودور عبادتهم وبعض المؤسسات التابعة لهم كمؤسسة الحرمين التي أُغلقت في ما بعد، وحيث عُرِف السبب بطل العجب. ذلك أن المسلمين يلاقون معاملة غير منصفة من السلطات الأميركية التشريعية والتنفيذية والقضائية، لا سيما بعد أحداث أيلول 2001.

وليست المسألة مجرد كونها البحث عن إرهابيين يعينون «القاعدة» - كما يزعم الرئيس بوش - فالقوانين في الولايات المتحدة تحدد صلاحيات كل سلطة ولا يجوز تعديها إلا بالقانون ذاته.

ولكن الحقيقة التي لم تعد تخفى هي أن مفهوم العدالة في المحاكم الأميركية له حكم مختلف تجاه الأقليات بصفة عامة. وليس هذا بجديد. ففي عهد الرئيس كلينتون أعلنت المباحث الأميركية قبل قرابة ثمانية أعوام عزمها القيام بمراجعة كاملة للطريقة التي تتعامل بها الجهات المعنية في إدارتها مع المتهمين من المنتمين إلى الأقليات العرقية والدينية.

إلا إنه من باب الإنصاف يمكن القول إن الانحياز الأميركي ضد الأقليات الدينية ليس على إطلاقه، بدليل أننا لم نسمع تحيزاً ضد المواطنين اليهود على رغم قلتهم!
"الحياة"

التعليقات