31/10/2010 - 11:02

عرب الأرض وإسرائيل البيت الأبيض / محمود عوض

-

عرب الأرض وإسرائيل البيت الأبيض / محمود عوض
كانت قد مرت سنوات عديدة قبل تكشف حقائق جديدة عن الدور المباشر الذي لعبته الرئاسة الأميركية في قيام إسرائيل كدولة على النحو المعروف. بالطبع كان معروفا منذ وقت مبكر الدور الفاعل الذي لعبه الرئيس الأميركي هاري ترومان وبيته الأبيض في دعم المشروع الصهيوني في فلسطين وضغطه المعلن على بريطانيا لكي تساعد في إدخال مئة ألف يهودي مهاجر جديد من أوروبا، في الوقت الذي كانت بريطانيا لا تزال هي سلطة الانتداب في فلسطين.

مع ذلك فبعض الوقائع التي جرى كشفها تالياً أصبحت أكثر تعبيرا عن ترومان بأكثر من غيرها. من ذلك مثلا حرص ترومان على إدارة معظم اتصالاته بحاييم وايزمان وبعض القادة الصهيونيين بعيدا عن وزارة الخارجية الأميركية وباقي الأجهزة المختصة. من ذلك أيضا حرصه الشديد على أن تكون الولايات المتحدة هي أول دولة في العالم تعلن اعترافها الرسمي بقيام دولة إسرائيل في فلسطين، وإصداره هذا الإعلان من البيت الأبيض بعد أقل من عشر دقائق من إعلان ديفيد بن غوريون في فلسطين قيام دولة إسرائيل في منتصف ليلة 14/5/1948.

لكن من بين ما ظل محجوباً لسنوات عدة تالية أن الوفد الأميركي في الأمم المتحدة فوجئ وقتها تماما بذلك الاعتراف من الرئيس الأميركي بإسرائيل على النقيض الكامل من مشورة وزارة الخارجية وأجهزة أخرى معنية. هكذا غادر رئيس الوفد مبنى الأمم المتحدة في نيويورك حزينا وصامتا ورافضا أي تعليق، متجها إلى منزله. أما باقي أعضاء الوفد الأميركي فقرروا بالإجماع إعلان استقالاتهم من مناصبهم احتجاجا ورفضا. لم يكن لذلك الموقف أي علاقة بتعاطف مع الفلسطينيين أو العرب، بقدر ما كان تحليلاً مبكراً لعناصر الأزمة وحرصاً على ألا تسجل أميركا سابقة خطيرة في العلاقات الدولية. فإسرائيل كدولة وليدة رفضت توضيح حدودها، والرئيس الأميركي لم يشترط عليها ذلك قبل إعلان الاعتراف الأميركي بها.

في واشنطن عرف جورج مارشال وزير الخارجية بالخطوة غير المسبوقة التي سيقدم عليها أعضاء الوفد الأميركي في الأمم المتحدة فقرر إيفاد دين راسك على وجه السرعة إلى نيويورك، وهو في حينها مدير إدارة شؤون الأمم المتحدة في وزارة الخارجية (وبعدها بسنوات أصبح هو نفسه وزيرا للخارجية). وكانت مهمة راسك العاجلة هي إقناع أعضاء الوفد الأميركي بالتراجع عن إعلان استقالتهم الجماعية حتى لا يضع عملهم هذا أميركا في بؤرة فضيحة دولية مدوية. جورج مارشال وزير الخارجية كان هو نفسه رافضا لمجمل سياسات ترومان الخاصة في فلسطين. لكنه باعتباره عسكريا ومنضبطا فقد التزم بوعد اقتنصه منه ترومان بعدم الإفصاح علناً عن خلافاتهما حتى موعد انتخابات الرئاسة بعد شهور. لكنه بمجرد فوز ترومان بهامش ضئيل جدا رفض الاستمرار في عمله وزيرا للخارجية. رفض حتى كتابة مذكراته. لكننا عرفنا بتلك الوقائع وكثير غيرها من مذكرات ترومان نفسه ثم من مذكرات دين راسك.

أصبح إطلاق الحدود السياسية لإسرائيل ورفض أي التزام محدد بها في الساحة الدولية، إلا بقدر تعبيرها عن قدرات إسرائيل العسكرية، هو التشوه الخلقي الأول لسياسة إسرائيل. والحدود الوحيدة التي التزمت بها إسرائيل هي حدودها مع مصر. لكنها فعلت ذلك كثمن ضروري فقط بعد حصولها على جائزة كبرى هي معاهدة الصلح من أنور السادات، وبها خرجت مصر عسكريا من الصراع العربى مع إسرائيل.. وحتى الآن.

أما السمة التالية في الأهمية التي ولدت بها إسرائيل فهي حرصها الدائم على علاقة وثيقة بالبيت الأبيض الأميركي وبالرئيس المقيم فيه. هي تنسج تلك العلاقة مبكرا وقبل الانتخابات الأميركية. أما بعدها فهي تستقوي بتلك العلاقة على أي موقف دولي معاكس.. وأيضا لتجاوز أي مواقف رافضة لسياساتها داخل وزارة الخارجية وبعض ركائز الإدارة الأميركية. هناك استثناء واحد لذلك حينما اتخذ الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور موقفا رافضا للعدوان الثلاثي ضد مصر في 1956، وهو الغزو العسكري الذي بادرت به بريطانيا وفرنسا - وفي ذيلهما إسرائيل - عقابا لمصر على تأميمها قناة السويس. لكن قراءات تالية للموقف كشفت أن أيزنهاور فعل ذلك في حينها عقابا لبريطانيا وفرنسا على مفاجأته بالحرب بأكثر من أي اعتبار آخر.

قبل أيزنهاور وبعده إذن كان موقف الرئيس الأميركي الداعم لإسرائيل هو المشجع لها: ترومان في 1948 وليندون جونسون في 1967 وريتشارد نيكسون في جسره الحربي الجوي لإسرائيل في 1973 ورونالد ريغان في دعمه لحرب إسرائيل اللبنانية في 1982 وصولاً إلى جورج بوش الابن في دعمه لحرب إسرائيل ضد لبنان في 2006 ثم حربها في غزة 2008.. إلخ.
ومن حيث الشرعية الدولية فقد حددت موقفها من غزوة إسرائيل الكبرى في 1967 بالقرار 242 من مجلس الأمن، والذي يحكمه مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب.

الدعم الأميركي لإسرائيل، خصوصا على مستوى البيت الأبيض، هو الذي سمح لإسرائيل بالمراوغة طوال كل تلك السنوات (باستثناء المعاهدة مع مصر). وبعد أن كان الموقف الأميركي المعلن رسميا هو أن المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة هي غير مشروعة من الأصل تدحرج إلى اعتبارها مجرد عقبة في طريق السلام في رئاسة رونالد ريغان ثم إلى أمر واقع يتطلب التكيف معه حسب رسالة جورج بوش الرسمية إلى آرييل شارون في 2005.

ومع أن جورج بوش أعلن منذ العام 2002 موقفا أميركياً مؤيدا لقيام دولة فلسطينية خلال خمس سنوات إلا أنه لم يعترض في أي وقت على الحقائق الجديدة التي تفرضها إسرائيل في أرض الواقع لقطع الطريق أمام قيام مثل تلك الدولة. وبعد أن كان هناك 109 آلاف إسرائيلي مقيم في المستوطنات في الضفة الغربية (ما عدا القدس) ارتفع الرقم اليوم إلى 275 ألفا يقيمون في 230 مستوطنة، بخلاف مئتي ألف يهودي يقيمون داخل «حلقة أسمنتية» منيعة في ضواحي القدس الشرقية العربية. ومنذ أصبح آرييل شارون رئيسا للوزراء في 6/2/2001 مضى بكل همة في إقامة جدار أسمنتي عازل التهم المزيد من الضفة الغربية من دون أن يحرك الرئيس الأميركي ساكنا.

وحينما تسلم الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما السلطة رسميا نصحه خبراء بأن يعلن موقفا أميركيا حازما - على الأقل بالنسبة للمستوطنات - إذا كان يريد التأثير في نتائج الانتخابات الإسرائيلية الوشيكة. لكنه لم يفعل. وأسفرت الانتخابات عن اتجاه الخريطة السياسية الإسرائيلية إلى المزيد والمزيد من التطرف.. بينما استقبل العرب الرئيس أوباما بدرجة من حسن النيات لم يحصل عليها رئيس أميركي من قبل. مع ذلك فحتى لو اختار الرئيس أوباما تصحيح السياسة الأميركية الشرق أوسطية كما يأمل البعض عندنا فإنه لن يفعل ذلك وهم يجلسون القرفصاء انتظارا لنيات طيبة من البيت الأبيض. لن تكون هناك نيات طيبة. ستكون هناك فقط حسابات سياسية، الأولوية فيها للمصالح الأميركية ذاتها.

العرب لن يكونوا جزءا من تلك الحسابات إذا استمروا منقسمين كما أصبحوا أخيراً، وإذا استمر الفلسطينيون أيضا مشغولين ببعضهم بعضاً وبمظاهر سلطة وهمية لا يستطيع من فيها أن يتنفس إلا بموافقة الاحتلال. أما الموسيقى التصويرية التي بدأت إسرائيل في عزفها أميركياً فقد لخصها أخيراً وزكّاها مارتن إنديك السفير الأميركي الأسبق لدى إسرائيل وهو يكتب قائلا :»الحق إن حمل أوباما على الانحراف عن مسار السلام مع الفلسطينيين إلى مسار السلام مع السوريين ومنح فلسطينيي الضفة الغربية (سلاما اقتصاديا)على ما يقول نتانياهو، يصب في مصلحة الإسرائيليين والأميركيين. فهذا الحل يقطع خطوط إمداد «حزب الله» بالسلاح الإيراني ويزرع الشقاق بين إيران وسورية، ويحمل «حماس» على المهادنة، ويوفر غطاء لشبكة علاقات بين إسرائيل والدول العربية». هذا يعني تحويل أوباما ليصبح طبعة مستجدة من جورج بوش بينما العالم كله رحب بأوباما بالضبط لأنه مختلف عن جورج بوش.


* كاتب مصري

"الحياة"

التعليقات