31/10/2010 - 11:02

على أعتاب بوابة السودان../ يونس العموري*

على أعتاب بوابة السودان../ يونس العموري*

للسودان الكثير من الحكايا والقصص التي من شأنها أن تجبرك على التوقف أمامها بالكثير من التأمل والتناقض وطرح السؤال غير المُجاب عليه... فالسودان سلة الغذاء للوطن العربي وبلد النيلين وتشكل النيل العظيم... وأول حزب شيوعي عربي تأسس بهذا البلد... والمرض والفقر بذات الوقت هو العنوان الأبرز... وفعل الاستهداف الغربي لاستقراره يبدو واضح المعالم.. وتناحر القبائل على أرضه لا يكاد ينتهي... والخرطوم ما زالت في الذاكرة العربية عاصمة اللاءات الثلاث حينما كان للعرب إمكانية لقول اللا... فهل هو العقاب على تلك اللاءات للخرطوم وللسودان حتى يبدو المشهد كما هو عليه الآن...؟؟؟

مرة أخرى أجدني ازور السودان واقف عند أعتاب البوابات الجنوبية لما يسمى بالوطن العربي، وعند نقطة التقاء النيلين الأبيض والأزرق وجدت نفسي أحط الترحال في واحد من أفخم فنادق العالم (برج الفاتح) الذي يمثل أبرز معالم التناقض الذي صار طبيعيا عند العرب.. فندق يرتفع بنيانه وسط غابات الفقر والظلم وشظف العيش لشعب لا ذنب له إلا أنه يعيش على هذه الأرض الجميلة المسماة السودان...

ما أن تصل إلى تلك الأرض السمراء حتى تتبين انك أمام جريمة من جرائم العصر الجديد... أرض زراعية على مدى البصر مكفهرة جرداء... وأنهر عظيمة والبشر يعانون العطش والجوع.... وما أن تحط قدماك بالخرطوم حتى يطاردك السؤال.. لما كل هذا الفقر والجوع..؟؟ ولما كل هذا العقاب ودس الدسائس وحياكة المؤامرات وتأجيج الصراعات ما بين قبائل الإنسان الأول...؟؟ هي الأسئلة غير المفهومة للوهلة الأولى... وهو البلد الذي ما زال يحاول أن يستنهض ذاته وسط كل التحديات وهو الأول دائما... فهو أول بلد في المنطقة العربية والأفريقية التي تأسس فيها إلى حد ما ومقبول الحياة الحزبية.. وهو من البلدان القليلة التي تم تداول السلطة فيها عبر الكثير من الوسائل والأساليب، والخرطوم أول عاصمة تنطق بلغة الممانعة للمخططات الأمريكية والإسرائيلية، والسودان أول بلد يصدر بحق زعيمها ورئيسها مذكرة اعتقال لصالح ما يسمى محكمة الجنايات الدولية.... وهو من يملك مقومات إيجاد الحلول الغذائية للمنطقة العربية ودعم سبل الاكتفاء الذاتي على هذا الصعيد... وهو من يمتلك الثروات الطبيعية سواء أكانت نفطية أو معدنية بباطن الأرض... باختصار إنه الأرض البكر التي تنتظر منذ آلاف السنين من يستخرج الكنوز من بواطنها... ولكن، وهنا "لكن"، لها كل التأثير والحضور في ممالك صناعة القرارات الدولية والأممية وكأنه من الممنوع على هذه الدولة أن تحاول استنهاض ذاتها وهذا ما يبدو واضح المعالم وضوح شمس السودان الحارقة....

وما انتهت حرب الجنوب حتى استحضرت أزمة درافور ذاك الإقليم الذي تصيبك الحيرة حينما تتناول قضيته. فمن جانب تجد ذاتك أمام تناقض غريب عجيب لقضيته فأنت تعلم علم اليقين أن ثمة مؤامرة تم حياكتها بليل لإقحام السودان بأزمة عرقية من نوع آخر، وأنت تعرف ومن خلال المعطيات الفعلية والعملية أن التدخل الدولي والإقليمي له نصيب الأسد بما يجري بدرافور، وبذات الوقت تعرف أن القوات الحكومية التابعة للخرطوم لا حول ولا قوة لها إلا أن تعبر هذه المواجهة دفاعا عن ذاتها وعن سيادتها.

وبهذا السياق كانت الكثير من الجرائم، إذا ما جاز التعبير، وحينما تقترب أكثر من المشهد تتضح الصورة أكثر، فدرافور عائمة على بحر من النفط، وحينما يكون الوضع كذلك لابد من تأجيج الصراعات الداخلية اعتمادا على المخططات (المتعولمة) للسيطرة على واحد من الاحتياطات الإستراتيجية للنفط في العالم.. وكما هو المشهد دوما ما بين رفض الانفصال وتأجيج صراع القبائل والمصالح وانتهاكات حقوق الإنسان وديكتاتورية الزعيم الحاكم بأمره يجد القوميون أنفسهم في تناقض صريح وواضح وهذا ليس بالجديد....

وسط كل هذه التناقضات انعقدت الدورة العشرون للمؤتمر القومي العربي تحت شعار "خيار المقاومة هو الخيار الإستراتيجي للأمة العربية". وهو الشعار الذي فرض نفسه بشكل أو بآخر على الأجندة العربية على مختلف مشاربها السياسية والأيدلوجية تحديدا ما بعد العدوان الإسرائيلي على غزة، وما تشهده الساحة العراقية من مقاومة للاحتلال الأمريكي وللنفوذ الإيراني فيه، وما تشهده الساحة اللبنانية وذاك السجال المتصاعد والمستمر ما بين قوى الفسيفساء اللبنانية الأمر الذي أصبح فيه للمقاومة في لبنان وجهات نظر أخرى مختلف عليها وعلى إجماعها وضروراتها، وهو الأمر الذي بات يهدد أركان المقاومة عموما.

وعندما نتحدث عن المقاومة فإنما نتحدث على كل أشكال الفعل المقاوم، وهو ما اعتقد أنه ضرورة وضرورة جدا لمعاودة مفردات الفعل المقاوم إلى الخطاب العربي بعد أن أصبح الخلاف والاختلاف سيد الموقف ما بين أركان تكوينات أطياف الأمة السياسية والفكرية، وهو ما بات ملموسا وواضح المعالم في الكثير من المنطلقات المنهجية للتوجهات السياسية في المنطقة، وهو الأمر الذي تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى تلك القوى المناهضة للفعل المقاوم بشكل أساسي وجذري التي باتت ترى أن الفعل الإعتدالي واللاعنيف والدبلوماسي فقط، ومن خلال ما يسمى بطرح المبادرات السياسية ومحاورة الغرب، السبيل الأفضل لنيل الحقوق العربية الذي أثبت عجزه عن التصدي للعدوان الأمريكي الإسرائيلي على الحقوق العربية بالمجمل.

كما أن قوى المقاومة ذاتها تتحمل جزء آخر من المسؤولية حيث عدم المقدرة على استيعاب الخطاب القومي العروبي مما أوجد شكلا من أشكال التناقض ما بين قوى المقاومة والتي أضحت بأغلبها إسلامية التوجه والمنهج، وبالتالي اعتمدت قوى المقاومة هذه على إقصاء الآخر الشريك له بالفعل المقاوم واستئثار القوى الإسلامية بالخطاب المقاوم من خلال النظرة الشمولية الواحدة، وهو الأمر الذي خلق شكلا من أشكال التناقض حتى على تلك الدول التي أصبحت تتمظهر بدعم الفعل المقاوم على هذه الساحة في الوقت الذي نرى أنها تتناقض مع منهجها في ساحة أخرى كالموقف الإيراني من المقاومة العراقية، على سبيل المثال، الأمر الذي بدا واضحا من خلال الحضور ألبعثي العراقي الذي لطالما انتقد بل وهاجم الدور الإيراني في العراق لحد الوصف أن إيران تحاول السيطرة على العراق واحتلاله بشكل أو بآخر، وهنا ظهرت عبارات خطابية سيطرت على سجالات المؤتمر كعبارات المد الفارسي في المنطقة، وهو ما تقاطع مع رؤية العديد من الأنظمة المناهضة للدور الإيراني في المنطقة عموما....

جاء انعقاد المؤتمر القومي العربي هذا العام وسط العديد من الأزمات لعل أبرزها الأزمة ما بين النظام المصري وحزب الله، والتي سيطرت على أعمال المؤتمر وجلساته، وتناقضت المواقف حتى عند القوميين المصريين الذين لطالما عارضوا نظامهم وانتقدوه بشكل لاذع إلا أنهم قد قالوا ما قالوا حول ما يسمى السيادة المصرية واعتبارها الخط الأحمر الذي لا يمكن السماح بتجاوزه أو انتهاك هذه السيادة، وهو ما بدا أنه تماثل مع أطروحة النظام المصري ذاته.... ولعل المبادرة التي أطلقها العديد من الشخصيات القومية في المؤتمر قد حاولت أن تأخذ دورا ايجابيا للعمل على إنهاء هذه الأزمة. ويبقى السؤال دوما هل بمقدور هكذا مؤتمر التأثير بطي ملف أزمة حزب الله والنظام المصري..؟؟

المقاومة خيار استراتيجي هو الشعار الأبرز للمؤتمر، ولكن في ثنايا أعمال المؤتمر كان واضحا التململ من المد السياسي الإسلاموي، وممارسات هذا المد على أكثر من صعيد وساحة، وهو الأمر الذي لم يخف من خلال الأحاديث الجانبية وحتى العلنية عن ممارسات حركة حماس في غزة تجاه القوى الوطنية الأخرى العاملة بغزة، وما يمكن أن نسميه أن يغفر لحماس هو تمسكها بخيار المقاومة إذا ما جاز التعبير....

مرة أخرى انعقدت دورة المؤتمر القومي العربي والتقى أعضاؤه وهم من مشارب عدة، بعثية وناصرية واشتراكية وإسلامية. وقد نجح هؤلاء في رسم لوحة عربية لم تخف في نقاشاتها المشكلات والتحديات التي يعانيها العرب في أكثر من حقل، ويُجمع العدد الأكبر منهم على تقاعس الأنظمة العربية حيال مطالب شعوبها والتضييق عليها، فضلاً عن تركها الفلسطينيين غرقى في بحر الدماء الإسرائيلي. وتأجيج الصراعات على أكثر من ساحة وتأزيم العلاقات ما بين أطياف الأمة... ويبقى للمؤتمر أنه ووسط كل هذه السجالات والأزمات محتفظا بكونه مرجعية فكرية وسياسية للشعوب العربية، ويستطيع أن يجمع كافة ألوان الطيف السياسي عموما... واستطاع أن يحافظ على تقاليد العمل الشعبي القومي بحيث أن الدورة العشرين قد انتخبت أمينا عاما وأمانة عامة جديدة للمؤتمر، وقد تبوأ د. خير الدين حسيب الأمين العام المؤسس للمؤتمر أمانة المؤتمر لثلاث سنوات جديدة....

التعليقات