على هامش الفوضى..وغياب الإستراتيجية الفلسطينية/ الأسير وليد دقة

على هامش الفوضى..وغياب الإستراتيجية الفلسطينية/ الأسير وليد دقة
كإنسان لا يمكنك أن تكون غير مبال إزاء مشاهد القتلى والجرحى، حتى لو كانوا قتلى وجرحى أعداء لك، وحتى لو كنت سجيناً يُعتقد بأنك تملك قلباً من حجر وأعصاب من فولاذ.

وكإنسان يحمل قيماً ومبادىء يعتقد بأنها بوصلته في كل ما يفعل، لا يمكنك إلا أن تقرأ مشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مستنداً لهذه القيم مسترشداً بمبادئك كمن يناضل من أجل الحرية والمساواة والعدالة، وككائن سياسي لا أعتقد بأنه من الحكمة السكوت على ظواهر لن نعرف كيف نسميها، ظواهر سياسية أو غياب السياسة، لكنها بالمجمل مدمّرة سياسياًَ، وتشكل مدخلاً للتحريض على الأقلية العربية بصورة عامة وعلى الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل بشكل خاص، وتضرّ بدورها المساند والداعم لقضيتنا الوطنية الفلسطينية الذي يجب أن تلعبه هذه الحركة في إطار محددات كثيرة يفرضها واقعها السياسي والقانوني.

وقد يعتقد البعض بأنه من غير اللائق وطنياً إنتقاد الأداء الكفاحي والوطني الفلسطيني، حتى ولو كان النقد محقاً وعلنياً ومن داخل السجون، لا سيما من أسير أمضى عقدين من سجنه المؤبد. حتى لا يبدو نقده إدانة لكفاح هو جزء منه، وأيّ إدانة حينها ستكون!

إنّ ظاهرة مشاركة، أو تورّط مواطنين عرب بعمليات تفجير داخل المدن والتجمّعات السكانية في المدن اليهودية هي ظاهرة، على الرغم من صغر حجمها العددي وهامشيتها من حيث المشاركين بها، إلا أنها تبقى كارثية بنتائجها الإنسانية كأية عملية تفجير تحدث في وسط تجمع بشري، ومدمّرة سياسياً فيما لو تواصلت هذه الظاهرة دون لفت الإنتباه لها أكثر من قبل فصائل العمل الوطني والإسلامي في الأراضي المحتلة والتثقيف بشأن المخاطر التي تحملها هذه المشاركة على فلسطينيي الداخل ونضالهم.

رغم رفضي لمثل هذه العمليات أخلاقياً وسياسياً، لا أعتقد بأنه يمكن معالجتها والتعامل معها بالإدانة والإستنكار، كما يفعل الناطقون الرسميون بإسم السلطة الوطنية الفلسطينية، بل العكس تماماً، فالإدانات المتكرّرة والمستهلكة سياسياً تعفينا من تفسير القيمة الأخلاقية والسياسية التي يجب أن يحملها أيّ فعل نضالي فلسطيني. لكن الأهم أنها تعطل تفسير الظاهرة وتحوّل دون إعادتها للسؤال الأساسي وهو سؤال الإحتلال الذي، بدل الإنشغال به بوصفه القابلة لكل الظواهر الدموية والمدمّرة التي يشهدها كلا الشعبين، تحصر الإدانات النقاش في دائرة أخلاقية ذات صبغة سياسية محدّدة.

إنّ الإدانات تعطل النقد الذاتي والنقاش الفلسطيني الداخلي، بعد أن تُصمّ الآذان بسماع أول إدانة، والذي من المفترض أن ينشأ كنقد على أرضية ضرورات تصحيح مسار واقع حركة النضال الفلسطيني من أجل التحرّر والتي أقلّ ما يجب أن يتوفر بها هو الهدف والبرنامج والإستراتيجية الموحدة.

لا أعتقد بأنّ ظاهرة تزايد أعداد الشباب من المواطنين العرب في الداخل، ممن أدينوا وحوكموا بعمل مسلح أو نقل متفجرين وتقديم خدمات للفصائل الفلسطينية في الأعوام الأخيرة، يقف من ورائها توجه وإستراتيجية فلسطينية ترى فيهم رافداً للعمل المسلح.

فمن ناحية لا توجد إستراتيجية فلسطينية موحدة، لا إزاء ما يجري في الضفة والقطاع، ولا إزاء ما لا يجب أن يجري في الداخل. ومن جهة أخرى لا توجد جهة حزبية سياسية أو عقائدية في الداخل تشجع أو تنظر بعين الرضى لمثل هذه الأنشطة والمشاركة، وبالتالي فإن هؤلاء الشباب بغالبيتهم نشطوا على هامش فوضى غياب الإستراتيجية الفلسطينية، وفي ظل غياب الموقف الموحد الواضح والقاطع من توريطهم.

إنّ مجموعة المواطنين العرب الذين إعتقلوا ودخلوا السجون خلال الأعوام الخمسة الماضية تنقسم لثلاث فئات غير متساوية عددياً، حيث قلة قليلة منهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، نشطوا بدوافع عقائدية، وفئة ثانية لم يكن لعملها أية علاقة بالبعد السياسي والوطني، بخلاف تحريضات الإعلام العبري واليمين، وإنما شاءت الظروف وظروفهم الإقتصادية (عدد منهم سائقو سيارات أجرة) وتورطوا دون أن يدركوا معاني وتداعيات ما يقومون به من عمل. والفئة الثالثة، والتي أعتبرها الفئة المهمة والأكثر حساسية لما يجري من حولها، وهي بغالبيتها في العشرينيات من عمرها، نشط أفرادها بدوافع عاطفية وإنسانية وبفعل هول مشهد الدم والدمار الذي يخلفه الإحتلال في الأراضي المحتلة، لكن بنفس الآن رافق هذه أمية وطنية سياسية سرعان ما تتحوّل في ظل أزمة الحرية الشخصية ومحنة الأسر إلى حالة ناقمة على كل ما هو وطني.

إنّ ما نبغيه من الموقف الذي نحاول بلورته هنا يستهدف أولاً هذه الفئة من الشباب ليشكل لها مرجعية وطنية وأخلاقية، الأمر الذي نحاول القيام به داخل السجن، لكننا بنفس الآن نجد من الضروري التأكيد على موقفنا والمجاهرة الإعلامية به في دعوة للشباب، الذي ما زال يفد السجون بأعداد متزايدة، لوعي وإدراك معاني الإنتماء الوطني، بصفتنا جزء من أمة وهوية عربية وجزء من الشعب الفلسطيني، لكننا بنفس الآن جزء من مواطنة ذات خصوصية قانونية وسياسية.

إننا ندرك، ومن وحي تجربتنا الخاصة، حالة الصراع الداخلي الذي يعيشه المواطن العربي في الداخل والذي يتكثف ويتضاعف أمام مشاهد الدم والدمار، لكن حلّ هذا الصراع لا يتم بإختيار أحد شقي معادلته، إما المواطنة أو الوطنية، أو كما تريدها بعض الأوساط الإسرائيلية .. إما «الإسرائيلية» .. أو «الفلسطينية». ونحن إذ نقول بوضوح بأنّ الإنتماء لأدوات وأطر النضال الوطني الفاعلة في الأراضي المحتلة لا يحلّ التعارض ولا يشكل حلاً للمواطنين العرب، فإنه ليس تعبيراً عن تمسك بالهوية حسماً لها لصالح الإنتماء الفلسطيني، فالإنتماء لأطر سياسية شيء والإنتماء للشعب الفلسطيني وهويته العربية والإسلامية شيء آخر.

لقد طوّرت الحركة الوطنية في الداخل من خطابها وأدواتها وأشكال الإحتجاج والتضامن الوطني وسبل النضال المطلبي. وهذه الحركة تمثل اليوم إطارنا الذي نعبّر من خلاله عن أمانينا وطموحاتنا الوطنية كجزء من الشعب الفلسطيني دون أن نضطرّ للحسم بين مواطنتنا ووطنيتنا.

إنّ الحركة الوطنية بكل مركباتها هي التعبير السياسي عن هويتنا الوطنية وليس الأحزاب والفصائل الوطنية والإسلامية في الأراضي المحتلة، فما توفره الحركة الوطنية في الداخل من آفاق للنضال على هامش ديمقراطية الدولة العبرية، يبقى أكثر بكثير مما توفر لنا قبل أكثر من عقدين، وتبقى مسؤولية ومهمة توسيع هذا الهامش مسؤولية ومهمة النضال الوطني الذي لا يقلّ عن أي نضال وطني آخر.


"فصل المقال"

التعليقات