31/10/2010 - 11:02

غاب الحكيم وما زال السؤال الفلسطيني مطروحاً../ علي جرادات

غاب الحكيم وما زال السؤال الفلسطيني مطروحاً../ علي جرادات
برغم ما في القلب مِن ألم على غياب الحكيم؛ وبرغم ما في العقل مِن تقدير لحجم الخسارة التي مثلها غياب هذا القائد القومي والوطني التحرري التاريخي؛ وبرغم انتمائي المُمارس لما مثله مِن منهج فكري سياسي قومي وطني ديموقراطي تقدمي؛ وبرغم مصاعب كبح هيجان العاطفة في لحظات الفراق؛ وبرغم ولعي بما كان لهذا الرجل مِن مكنون نفسي واخلاقي انساني نادر وحساسية ضمير فريدة، تدعو المرء بتلقائية الى تطريز مرثية مشاعر تعكس ما في القلب مِن حسرة وتفيض بما في النفس من لوعة؛ برغم كل ذلك فإنني آليت كتم مشاعري وارجاء سيلانها على الورق الى موعد آخر، أكون فيه أكثر استقرارا واستعداداً نفسياً لصياغة مرثية عاطفية أدبية تليق بالمكنون الإنساني الذي احتواه جسد الحكيم الذي فتك به المرض، بعد أن اكتوى بستين عاماً مِن الالتحام النضالي الثوري المُمارس بعذابات الشعب العربي الفلسطيني في الوطن والشتات، وبعد أن أنهكته أوجاع بؤس حالة أمة العرب، التي أصبحت بعد ستين عاماً على بداية تخلص بلدانها مِن الاستعمار الأجنبي بقضيتين بدل قضية واحدة، بعد اضافة النكبة العراقية الى النكبة الفلسطينية، ولتنقل بذلك مِن حالة التفتت القطري الى حالة بدايات التفتت المذهبي والطائفي في كل قطر دون تحقيق ولو الحد الأدنى مِن معاني الوحدة ومجالاتها.

في ظل هذا الحال العربي الموجع؛ ومع غياب الحكيم المفجع؛ وفي إطار البحث عن المدخل الأنسب لتناول تجربته بعد غيابه؛ وبالنظر لقناعتي بأن أكثر ما يريح الحكيم في قبره هو العمل على مداواة أوجاع أمة العرب وشعوبها، وخاصة أوجاع الشعب العربي الفلسطيني، تلك الأوجاع التي نذر الحكيم كامل حياته وجهده وأعصابه للمساهمة بريادية وفعالية لمداواتها، لا بالمعنى السياسي التحرري وحسب، بل وبالمعنى الاجتماعي الديموقراطي أيضاً؛ وبالانشداد الى جدلية مقولة "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، تلك المقولة الغرامشية التي تمسك بها الحكيم وأكد عليها كلما إدلهمت مفردات واقع حركة التحرر العربية والفلسطينية والعالمية، لم أجد مدخلاً أجدى مِن مدخل قراءة تجربته الفكرية السياسية التنظيمية الكفاحية المديدة بمعايير الثقافة الثورية الصارمة وقيمها التحررية الرصينة، وذلك منعاً لسطوة السياسي على الثقافي، كظاهرة بائسة سادت المسيرة العربية، ولم تنجُ منها للأسف تجربة حركة التحرر الفلسطينية، بل زادت وتائرها وأصبحت ظاهرة سائدة في راهن الحالة الفلسطينية، وأظن أن الحكيم كان مِن بين قلة مِن القيادات السياسية الفلسطينية التي حاربت هذه الظاهرة الفتاكة، وأدركت مخاطرها على مستقبل ومصير المشروع الوطني الفلسطيني.

ولعل في تأكيد الحكيم المتكرر على أهمية وإستراتيجية الجبهة الثقافية، وضرورة صونها والحفاظ عليها، وخاصة في مراحل التراجع والإنحسار، ما يؤكد ضرورة هذا المدخل لقراءة تجربته بما يفيد حاضر ومستقبل مسيرة النضال القومي العربي والوطني الفلسطيني، هذا فضلاً عن اقرار الجميع، سواء أولئك المتفقون مع الحكيم أو أولئك المخلتفون معه، على أنه كان مِن أكثر القيادات السياسية التنظيمية الفلسطينية نهماً بالمطالعة وحباً للمعرفة في المجالات المختلفة.

وربما يكون ذلك هو السبب الكامن خلف ما ميزه مِن انشداد للبعد الإستراتيجي، ودعوته الدائمة والمتكررة لعدم جواز انتهاك التكتيكي للإستراتيجي، واستتباعاً لذلك كانت أطروحته "نحو فهم أعمق وأدق للكيان الصهيوني"، وقناعاته الراسخة بعدم جواز اختراق القطري للقومي، وعدم جواز تسييد الحزبي على الوطني، وتحريم العبث الداخلي بوحدة الأرض والقضية والشعب ومشروعه الوطني، أو بلوغ الخلاف الفكري السياسي الداخلي درك الاقتتال الداخلي وضرب وحدة الشعب الوطنية والسياسية، ورفض الفصل بين الوطني التحرري والاجتماعي الديموقراطي مِن مهمات النضال الفلسطيني، والتشبث بكل ما مِن شأنه الحفاظ على الخيار الديموقرطي وتنميته وتطويره بالمعنيين السياسي والاجتماعي، في كل محطة مِن محطات النضال الوطني الفلسطيني المديد.

ذاك هو المدخل الذي أراه أجدى لتخليد وقراءة ومراجعة وتمحيص ونقد (إيجاباً وسلباً) تاريخ وفكر وتجربة ومسيرة وصفحات مجد طلائع فلسطين وكبار رجالها، وبينهم، بل في مقدمتهم الحكيم، الرجل الذي يصعب الفصل بينه وبين مسيرة التاريخ المعاصر لنضال حركة التحرر العربية، وبضمنها وفي طليعتها حركة الشعب العربي الفلسطيني التحررية وقضيته الوطنية، ومشروعه الوطني في العودة والحرية والاستقلال، وهو المشروع الذي يمر هذه الأيام، وفي غمرة توالي غياب كبار قادة الشعب الفلسطيني وآخرهم الحكيم، بمرحلة مفصلية انعطافية، ربما لا يضاهيها في قسوتها ومخاطرها، غير قسوة ومخاطر تلك المرحلة التي تمرد وثار عليها الحكيم، ليكون بجدارة، وبإقرار الجميع، ثاني إثنين نالا شرف المبادرة الأولى، (وهي الأصعب دوماً)، الى التمرد الثوري الوطني الفلسطيني على واقع ما بعد قيام دولة إسرائيل (النكبة)، الترجمة العملية والنتيجة السياسية القاسية لوعد بلفور، الذي قضى بـ"اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"، كجزء مِن مخطط اتفاقية سايكس بيكو الإستعمارية التقسيمية للعرب وأرضهم.

فكما كان حال الراحل ياسر عرفات، وعلى ما كان بينهما مِن خلاف أداراه بمسؤولية وطنية عالية وضمن إدراك عميق لكيف يجب أن يكون الخلاف داخل حركة تحرر وطني، فإن انفعال الحكيم مع تداعيات ونتائج تجزئة أمة العرب ووقوع "النكبة" الفلسطينية لم يكن مجرد انفعالٍ انساني عابر أو عادي، بل كان انفعالاً ريادياً فكرياً سياسياً، قاده الى تقدم الصفوف، والتأسيس لاشعال الشرارات الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة، تلك الشرارات التي أشعلت كامل سهل الشعب العربي الفلسطيني مِن أقصاه الى اقصاه، ونقلته مِن وضعية شعب لاجئ مشرد، جرى ابتلاع أرضه والتخطيط لالغائه بكل المعاني عن الخارطة، الى حالة شعب ثائر يناضل لاسترداد أرضه وحقوقه التاريخية والوطنية المغتصبة. وذلك ما وضع على كاهل الحكيم أعباء المساهمة الفاعلة في قيادة مسيرة هذا الشعب التحررية الكفاحية المديدة، وتحمل مسؤولية إدارة معاركه وحروبه المفروضة على مدار نصف قرنٍ ونيف مِن الزمان.

برحيل الحكيم كقائد قومي ووطني تاريخي استثنائي، تجشم مصاعب ومشقات "المغامرة" الأولى للطور المعاصر مِن النضال التحرري القومي العربي والوطني الفلسطيني، بل والعالمي أيضاً، وساهم بريادية في الحفاظ على جذوة القضية الفلسطينية رغم كل الظروف الدولية والاقليمية والقومية المجافية والمعاندة، وبعد نصف قرن ويزيد مِن الكفاح، وقبل أن تكتحل عيناه باستعادة العرب لوحدتهم وتحقيق الفلسطينيين لنصرهم الحاسم، اقول برحيل الحكيم كثاني اثنين مِن كبار قادة حركة التحرر الفلسطيني في ظروف دولية وقومية ووطنية شبيهة بتلك التي تصدى لها الحكيم وثار عليها، وهو الأمر (الرحيل) الذي لا مناص منه في نهاية المطاف، يكون الفلسطينيون وجها لوجه أمام ضرورة العودة للجدل حول موضوعة نظرية اسمها "دور الفرد في التاريخ"، الدور الذي كان جازف الثوري الروسي مرة، وقال إنه يقع بين الصفر والواحد، بما يشي بقناعة التأكيد أكثر على دور الشعب وجماهيره العريضة، انما دون إغفال لدور العباقرة والنوابغ والطلائع مِن الأفراد في مسيرة شعوبهم، تماماً كما كان دور الحكيم، وغيره مِن القادة الإستثنائيين التاريخيين، في مسيرة أمة العرب وشعب فلسطين، ما يوجب الانكباب على استلهام وقراءة ومراجعة وتمحيص تجربة أؤلئك الرجال الكبار بكل المعاني، وبضمنهم الحكيم الذي، وإن غاب، فإن سؤاله، أعني السؤال الفلسطيني الكبير "لماذا لم ننتصر"؟!!! ما زال مطروحاً، وما زال يبحث عن اجابة كبيرة متعددة الأوجه، كان الحكيم مِن بين حفنة قليلة مِن الرجال إجتهدت وساهمت في التصدي لها منذ مرحلة ما بعد النكبة وحتى آخر يوم في حياته، التي ارتبطت بنظافة وعنفوان وعناد وصلابة وتواضع وجماعية وديموقراطية وحساسية ضمير وطول نفس وصبر، بحياة وهموم أمته وشعبه. فالرحمة للحكيم الذي غاب وما زال سؤاله مطروحاً.

التعليقات