31/10/2010 - 11:02

"غزوة أم درمان"../ عبد اللطيف مهنا

لكل من الأوطان العربية خصوصيته، وينطبق هذا عليها جميعاً، أسواء تلك الواقعة في قلب الخارطة العربية أو تلك التي على تخومها أو تقع على أطرافها. لكن للسودان تحديداً فرادته من بينها، وعليه، فللحالة السودانية غرائبها، التي قد تبدو أحياناً، لمن يرقب الوقائع السودانية من خارج حدود هذا البلد العربي الشاسع المترامي الأطراف، والأشبه بقارة، عجائب قد تبدو صعبة على الفهم.

مستوجب هذا الكلام هو الأحداث الأخيرة التي شهدها هذا الجسر المميز الذي يربط الأمة العربية بإفريقيا، الضاج بتنوع ثقافاته وأعراقه وعديد إثنياته، تلك التي تشكل جميعاً مزيجاً فريداً من العروبة والزنوجة الرابضة على إمكانيات تتكئ على ثروات باطنية وزراعية وبشرية هائلة لم يستثمر الحد الأدنى منها بعد...

لذا فهذا البلد العربية، ولهذه الخصوصية والفرادة التي تميزة، قد أصبح هدفاً لجشع الطامعين من متخمي دول العالم، أو أولئك النهّابين المتسببين تاريخياً في جوع جلّ القارة السوداء وفقرها المدقع... من هنا يمكن مقاربة وقيعة "غزوة أم درمان"، وفق التوصيف الحكومي لاجتياح المدينة التي لا تفصلها عن العاصمة الخرطوم إلا جسور تربط أطراف ما يعرف بالعاصمة المثلثة، من قبل مقاتلي "العدل والمساواة"، أحد الفصائل الرئيسة من متمردي دارفور.

لعل هذه "الغزوة" حرية بأن تكون واحدة من وقائع عالم الخيال الذي في العادة تغترف من معينه أفلام الغرب الأمريكي، هذا إذا ما نظرنا إليها، كما أشرنا، من خارج الحدود السودانية، وليس آخذين في الاعتبار ما قلناه أنه فرادة هذا البلد... مجموعات كبيرة من المسلحين تمتطي آليات عديدة مدججة، تنطلق من الغرب السوداني المبتعد عن هدف الغزوة بما يقارب الألف كيلومتر، قاطعةً الأودية والجبال والصحاري الفسيحة المكشوفة، لتصل المدينة فتفاجئها على حين غرّة، فتسارع الدولة، التي لا تكاد قواها تستفيق من هول الصدمة، فتحتوي الهجوم بسرعة قد تكون قياسية، ويتحول المهاجمون ما بين قتيل وجريح وأسير وهارب أومتخفّي بين الأحياء، حيث بلغ، عديد المقبوض عليهم، وفق المعلن الرسمي، أكثر من ثلاثمئة، والقتلى ما يزيد على ذلك. أما المطاردة لمن تبقى فطالت زمناً أكثر مما يعكسه كلام الحكومة عن "المغامرة الساذجة"، أو "الانتحارية" أو "المجنونة"، كما أن الضحايا في الصف الحكومي وحدة فقد بلغوا أكثر من مائة قتيل، ناهيك عن الجرحى. الأمر الذي لايتفق مع التقليل الرسمي من شأن هذه المغامرة الموصوفة رسمياً ب"الفقاعة الإعلامية"، والتي من شأنها أن طرحت سؤالاً محيراً، وهو، كيف قطع "الغزاة" الدارفوريون هؤلاء هذه المسافات التي، إذا ما وافقنا الحكومة على أنهم "مرتزقة" قدموا من تشاد، تصبح آلاف الكيلومترات، ليصلوا إلى تخوم العاصمة دونما اكتشاف أمرهم، حيث لايبدو من المنطق في شيء تصديق التأكيد الرسمي على أنهم كانوا تحت طائلة الرصد الحكومي، أو أن أجهزة الدولة كانت على معرفة بما يدبّرونه سلفاً؟!

كل الوقائع تشير، كما أشرنا، إلى أن الحكومة وقواها الأمنية قد فوجئت، فارتبكت لتستعيد من ثم المبادرة، وأن "الغزوة" فعلاً قد انتحرت. ومما يؤكد كلا المفاجأة والاندحار أمران، هما على التوالي:
احتجاز الدكتور حسن الترابي زعيم حزب المؤتمر الشعبي المعارض، والشخصية الاشكالية الشهيرة، لساعات مع قادة حزبه للتحقيق معه، لشكوك في علاقته بالأمر، أو لعلاقته التاريخية برموز "العدل والمساواة"، أو لأنهم كانوا من تلاميذه، ثم الإفراج عنه. الأمر الذي يؤكد حجم هذه المفاجأة الكبير وخطورته، أو مدى الخشية من امتداداتها، أي أنها كانت أكثر من مجرد هجمة مجنونة من قبل مئات من المغامرين الدارفوريين القادمين عبر الصحاري. لاسيما وأن المطاردة لفلولهم قد وصلت إلى قلب العاصمة الخرطوم نفسها. والاندحار السريع نسبياً، إذ ليس هناك ما يثبت عكسه، بحيث بدت المزاعم من قبل "العدل والمساواة" بأنها قد سيطرت على 80% من العاصمة! هي الأقرب إلى تذكيرنا بتوصيف الحكومة للحدث بكونه مجرد "فقاعة إعلامية"!

إذن، يظل السؤالان البديهيان وهما، وأين كانت الدولة؟! وما الذي يريده الغزاة "الانتحاريون"؟!
والسؤال الأخير يستوجبه ما أعلنه خليل ابراهيم زعيم "حركة العدل والمساواة" المطارد الذي تجهد قوى أجهزة الدولة الأمنية في البحث عنه، مخاطباً الدولة السودانية:
"لا تتوقعوا هجوماً واحداً... هذه مجرد البداية، والنهاية بإنهاك النظام"! أما الأول، فيظل قائماً، رغم كافة التبريرات، وسرعة احتواء الهجوم. وهذان السؤالان يطرحان آخراً، يقول، وهل يمكن منع ما حدث؟

الواقع، وبالنظر إلى ما قلنا بدايةً إنه من غرائب الخصوصية السودانية، أمر يستحيل منعه. وهنا تتشابك عدة عناصر، منها المساحات الشاسعة، التي من غير الممكن مراقبة كافة منافذها، ثم تعقيدات الساحة السودانية، ومنها، الاحتمالات المؤكدة لوجود من يتعاطف ويؤازر في المركز، إلى جانب ما يتوقع وجودها مما يدعى بالخلايا النائمة للمتمردين المحتمل أنها المتربصة في حنايا العاصمة المثلثة، وحتى ربما قد لا يعدم هجوم المهاجمين تعاطفاً أو دعماً من قبل عناصر من الجيش ومنتسبي أجهزة الأمن في الدولة. الأمر الذي يفسر طول أمد المطاردة للفلول الغازية واتساع رقعتها حتى قلب العاصمة.

"الغزوة" قوبلت بالاستنكار المجمع عليه من قبل كافة القوى السياسية السودانية في الحكم والمعارضة، باستثناء تلكوء إعلان استنكار صريح من قبل حزب المؤتمر الشعبي، الذي تم احتجاز زعيمة الترابي ثم أفرج عنه، لكنها على أية حال قد هزّت هيبة الحكم وإن كان قد نجح في احتوائها وتمكن من فلّها. كما أن لها من التداعيات الآنية والمستقبلية ما لا يمكن تجاهلها... ومن أهمها، إنها شكلت ضربة للاستثمارات الخارجية، هذه التي نشّطها مؤخراً استفحال أزمة الغذاء العالمي. والتي هرعت بأموالها مغتنمةً فرص الإمكانيات الواعدة لسلة الغذاء العربي. كما إنها قد تفتح شهية النظام لتصفية حساباته مع قوى تتهدده سياساتها وتزعجه مواقفها، وقد تزيّن و تبرر له خيار العودة عن سياسة الانفتاح الملحوظ الذي عم البلد مؤخراً.

طبعاً إلى جانب كونها، وبكل تأكيد قد أجهزت على كل احتمالات تحسن العلاقات السيئة دائماً مع الجارة تشاد، لا سيما وأن الحكومة السودانية اعتبرت الغزاة شراذم مرتزقة تشاديين، في إشارة إلى كونهم في أغلبهم ينتمون إلى قبيلة الرئيس التشادي إدريس دبي الدارفورية التشادية المنتشرة على طرفي الحدود، إذ تنظر هذه الحكومة إلى أن ما حدث هو لصالحه، أو كان انتقاماً منه لغزوة تشادية معارضة ضد حكمه كانت قد وصلت بدورها قبل أشهر إلى العاصمة انجامينا حيث حاصرت قصره، وكان دبّي بدوره قد اتهم السودان يومها بدعم أولئك المتمردين.

قد يكون لحكاية الانتقام التشادي ما يرجحها، لا سيما، وإن ردود الفعل التشادي على نتائج "الغزوة" الفاشلة، كانت موغلةً في التشنج، مثلاً، ما أن قطع السودان علاقاته الديبلوماسية بتشاد، حتى سارعت هذه، فلم تكتف بمبادلة القطع قطعاً، وإنما إرادتها قطيعة تتعدى العلاقات الديبلوماسية، إذ شملت، الاقتصادية، حد إقفال البنك السوداني في أنجامينا، ووصلت قرار إقفال الحدود، وحتى منع البدو الرحل على طرفي الحدود من عبورها، رغم أن هؤلاء قد اعتادوا لأجيال عديدة ولقرون خلت حرية التنقل بين البلدين بدون أوراق ثبوتية... وأخيراً، وهذا هو الأغرب، قطع العلاقات الثقافية، ولدرجة تحريم بث الأغاني السودانية في التلفزة والإذاعة التشاديين أو تداولها، بل وحتى منعها في الأعراس!

وأخيراً، يظل سؤال يستدعي الحدث طرحه، وهو، هل سيعجل ما حدث حل مشكلة دارفور أم سيزيد من تعقيداتها؟
يبدو أن غزوة أم درمان لها ما بعدها، لا سيما وأن صاحبتها "حركة العدل والمساواة" تهدد بمتابعة فعلتها، وهذا ما يبدو أن الحكومة السودانية تتوقعه وغدت تحتاط إليه. لكن الضربة التي تلقتها هذه الحركة جراء عواقب غزوتها المدوية هذه قد أضعفتها بلا شك، الأمر الذي قد يشكل حافزاً لجنوح سواها من فصائل التمرد العديدة الأخرى للسلام، الأمر الذي قد أشار إليه الرئيس السوداني لاحقاً مرجحاً إياه، لا سيما وأن صاحبة الغزوة، هي إلى جانب فصيل عبد الواحد نور من حركة تحرير السودان، أو هذين الفصيلين الرئيسين والوحيدين اللذين خرجا على ما يعرف باتفاقية أبوجا، هما وحدهما الباقيان اللذن لا زالا يرفضان التفاوض مع الحكومة.

السودان المستهدف، لثرواته وموقعه ودوره، المهدد بانفصال جنوبه كنتيجة واردة لما يعرف باتفاق مشاكوس، أو هذا الاتفاق الذي أوقف رحى الحرب الأهلية المزمنة هناك، الذي يمكن القول أن السودان قد قبله مكرهاً أو بشكل أو آخر قد فرض عليه، وبشرقه القلق وشماله المتبرم، وإجمالاً بخارطته السياسية المائرة بالخلافات، قد ينتظر الأعظم، فهل هناك، وعلى ضوء الحدث الأخير، من ضارة نافعة؟! بمعنى، هل أن في الحدث دروساً وحافزاً وما قد يشكل مدعاة لكلمة سواء أو توحيد وطني، صفاً ونوايا، لتدارك محاذير الآتي؟
... لا نملك إلا أن نقول حمى الله سودان العرب!

التعليقات