31/10/2010 - 11:02

فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة../ محمد يوسف جبارين*

فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة../ محمد يوسف جبارين*
ربما طرح فكرة الدولة الديمقراطية، في مرحلة من مراحل الكفاح الفلسطيني، يعلو ليتبوأ قدرا كبيرا من الوعي بضرورة استيعاب الواقع، وطرح ما يمكن به إعادة صياغة فكرية له، تستوعب في إطارها حلا لقضية شعب منكوب، مثل شعب فلسطين. فالفكرة بذاتها، حين السؤال عن تطبيقها، تستدعي تفكيك التنظيم القانوني للمجتمع في إسرائيل، أي إلغاء الدولة بهيكلها القائم، ليعاد بناؤها بما يتفق مع التغيير الذي يكون قد طرأ على تركيبة المجتمع بعودة كل الفلسطينيين ( اللاجئين إلى ديارهم ). فلقد أصبح هذا المجتمع الافتراضي غير ما كان عليه من قبل تفكيك الدولة العبرية وعودة اللاجئين الفلسطينيين، ولا بد من تنظيم قانوني للمجتمع الجديد، وهذا هو ما يدعى بالدولة الديمقراطية التي تكون فلسطين كلها هي الأرض التي تقوم عليها هذه الدولة، وذلك فيما لو أن النظام السياسي الذي يقام آنذاك هو نظام ديمقراطي.

وهذه فكرة على جلال قدرها قد شاغلت الكثيرين، ولكن أحدا، لم يشرح تفصيلا آليات قيامها، ولا أدري كيف يكون الاقتراب من مسألة تفكيك الدولة العبرية، فما هي آليات تفكيكها، وما قدر هذه الآليات وقيمتها، وما مدى صلتها بالواقع، وهل تكون بقدرة ذاتية نابعة من الدولة العبرية، أم تكون بقدرة خارجية، أو تكون بقدرة خارجية تساندها قوة داخلية منبثقة عن داخل الدولة العبرية؟ فكل اقتراب من كل تساؤل من هذه، يفضي إلى واقع لا يتفق مع غير الوهم، ذلك بأن الواقع الموضوعي بعيد كل البعد، عن أن يتفق له استيعاب التماشي، مع مقتضيات أي أسئلة من مثل هذه، وتكفي القراءة الواعية للواقع العربي، ولواقع الدولة العبرية، لإدراك بأن السباحة الفكرية في وهم كهذا، بذاتها ليست مأمونة العواقب، فالفكر بذاته مطارد، كما الحرية لا يستقبلها سوى القمع والسجن.

وبرغم ذلك، فعلى موائد التناطح بالوهم بحث عن وهم آخر، أو بحث عن واقع موهوم، أو بحث عن استرواح برأي يكابر، ويحاول استيلاد واقع من وهم يسترضي به رغبة تجوبه وفكرة تتخلله. فكل فكرة قابلة للسرد، ومن يدري، فكم من وهم استحال حقيقة، وكم من فكرة وجدت أبطالها في غير زمان مبدعها، فما أن اقتدروا على تجسيد الفكرة في الواقع، حتى استخرجوه من باطن التغييب، إلى التحلي به، كرمز من رموز الفكر السياسي.

وعلى أية حال فعلى أرض فلسطين هناك دولة إسرائيل تطوق غزة بكل أشكال القهر، وتهيمن بكل عجرفة القوة على الضفة الغربية. فكيف يتم إعراب هذه الفكرة (فكرة الدولة الواحدة) التي راح يلوكها أبو العلاء وساري نسيبة، وغيرهم.

ولماذا طرح الفكرة يقوم على أساس مرجعية تاريخية، جرت على الكرة الأرضية في جنوب أفريقيا. فالحال على التشابه في فكرة الفصل العنصري وتجسيده، وعلى وجه الشبه في القهر والتنكيل، وعلى وجه الشبه في التباين في تركيبة المجتمع، فإن الحال ليس الحال في مستوى البنوية السياسية التي تتشكل بها إسرائيل، فهذه دولة يريد لها قادتها، وهم جميعا على ذلك متفقون وحريصون حرصا، لا يعدله حرص، أن تكون دولة ذات هوية يهودية، وهم على ذلك في أكباب لا ينقطع، فهم يحصون كل عام عدد المواليد لدى العرب ( عرب48) في داخل الدولة، ويفكرون ماذا عليهم أن يفعلوا لكي يقللوا من إنجاب العرب، وذلك لكي تظل نسبة العرب قليلة، ولا يكون لها أثر على الأغلبية اليهودية.

فهذا الحرص على هذه الأغلبية هو ما تراه إسرائيل ضرورة استدامة الهوية اليهودية للدولة، مع الإضافة البراقة التي تزغلل العيون، وينخدع بها كل مقترب من حقوق الأقلية القومية العربية، في داخل إسرائيل، وهي كلمة الديمقراطية. فإسرائيل حريصة أن توصف بأنها دولة يهودية وديمقراطية. فمسألة الديمغرافية، هي هي في محل اهتمام ومتابعة فائقة. ففي خلال مفاوضات إسرائيل مع الوفد المفاوض الفلسطيني، اقترحت إسرائيل مبادلة أرض بأرض، أي أن تحتفظ بمستوطنات، في مقابل التخلص من تجمعات سكانية مقلقة مثل أم الفحم.

وقد شاعت هذا الفكرة في إسرائيل ووجدت لها تأييدا واسعا، حتى جاء رئيس دولة إسرائيل شمعون بيرس، وبكل وضوح في كلامه اقترح ضم المثلث كله إلى دولة فلسطين، في نطاق من مبدأ المبادلة في الأرض. وهذا المثلث ممتد ( من زلفة.. أم الفحم الى كفر قاسم... على حدود الضفة مع إسرائيل، وهو المثلث الذي لم تتمكن القوات الصهيونية عام 48 من دخوله، ومع ذلك تم ضمه لإسرائيل بنص أتفاقية رودوس ).

والفكرة الأصلية في هذا السياق هي التخلص من تجمعات سكانية عربية، لكي تحافظ إسرائيل على أغلبية يهودية في دولة إسرائيل. فهنا فكرة هوية الدولة اليهودية، التي تقدمت بقيادة إسرائيل إلى الانتباه إلى مخاطر استمرار الاحتلال للضفة والقطاع على هذه الهوية. فالاستمرار يمكن أن يهدد في ظروف عالمية قادمة أمن الهوية اليهودية للدولة، وفي ضوء تراجع الآمال الصهيونية، بمزيد من القادمين الجدد لتوطينهم في الأرض الفلسطينية، وبمزيد من القدرة على ترحيل الفلسطينيين من ديارهم، تجلى واضحا لإسرائيل بأن الأجدى لأمن الهوية اليهودية هي الانفصال عن قطاع غزة وعن مناطق في الضفة الغربية، فكان الانسحاب الكامل من غزة، وتم الانفصال بقوانين جديدة أخلت بها إسرائيل مسؤولياتها كاملة، ونفضت يدها من كل إمكانية بأن يقال بأنها الدولة المحتلة التي عليها مسؤوليات تجاه المواطنين في غزة.

نفضت يدها واعتبرت قطاع غزة كيانا معاديا وذلك لاستدامتها لعدوانها، على القطاع، ولتبرير تصديها لكل مساندة تدنو بتعاطف مع القطاع. ومع ذلك فإنها تتغطى ببحث عن سلام، بمفاوضات تجريها مع السلطة الوطنية.

ومن الظاهر والمضمور سياسيا، يستشف بأن إسرائيل موافقة على دولة فلسطينية من نوع خاص هي تقترحه، وهو ما لا يتفق لفلسطيني عاقل أن يقبل به. لكنها إسرائيل، وهي تقدم ما لديها، فهي تعرف ما تريد، فهي تفضل أن تتخلص من كل التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية، فلا تعود محتلة لأي منها، وإنما هناك السلطة الفلسطينية التي تدير شؤون هذه التجمعات، وليتسمى كيان كهذا باسم دولة فلسطينية، ولتنضاف إليه غزة، ولتكن هذه دولة كل الفلسطينيين في الدنيا كلها، فهذا وطنهم، فإذا لم يرتض الفلسطينيون، بما تقدمه إسرائيل لهم ويظلون يصرون على ما هم دوما يصرون عليه، فان إسرائيل سوف تجد نفسها في عودة إلى مشروع الانفصال من طرف واحد من الضفة، وهو المشروع الذي راح أولمرت يروج له في بداية توليه رئاسة الحكومة في إسرائيل، حيث تنسحب إسرائيل إلى ما وراء حدود تراها مناسبة لها، وعلى الأغلب خلف الجدار، أو ما يقارب ذلك، وتترك التجمعات الفلسطينية بيد سلطة هي بالأصل موجودة في رام الله.

وبهكذا سعي إسرائيلي حثيث وراء الحفاظ على الهوية اليهودية لإسرائيل، لا تجد في إسرائيل قدرة ذات شأن تستسيغ فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة. ثم إن أي صوت يعلو من الضفة والقطاع ينادي على دولة واحدة إنما يكون صوتا وفقط، لا آليات تقيم له قيامة، ولا حتى التفكير برنة هذا الصوت يتعدى خطفة البرق. فإذا الدولة الواحدة بعينها مشروع وعي سياسي، يلح على جملة من عقول، تتقارع على قارعة شارع من شوارع التاريخ، وترى بأن في حل كهذا يستوي كل على حقوقه، فاللاجئون يعودون إلى قراهم ومدنهم، وبياراتهم، ولا أحد ينهض ليتهم عربيا بأنه ينادي بإلقاء اليهود في البحر. فشرط تحقيق فكرة كهذه هو انتزاع التناقض بينها وبين أمن الهوية اليهودية لدولة إسرائيل، وهو ما يعني تفكيك دولة إسرائيل، وهو الفعل الذي تتوفر له الآن كل شروط الاحتفاظ به على رفوف الوهم الذي يقتات عليه كل مؤثر سباحة في الفكر، وانفصالية عن إجراء جراحة سياسية في الواقع، بحثا عن الترسيخ الدائم والمستمر للحق الذي تنتهبه النيران وتكاد بما بها من سعير أن تتحول به إلى رماد.

التعليقات