31/10/2010 - 11:02

فلتتوقّف المؤسّسة الدينيّة العربيّة عن كمّ الأفواه!../ دياب أبو جهجه *

فلتتوقّف المؤسّسة الدينيّة العربيّة عن كمّ الأفواه!../ دياب أبو جهجه *
في عام 1770 كتب فولتير رسالة إلى أحد ألدّ أعدائه الفكريّين الذين كانوا يواجهون قمع المؤسسة الحاكمة قائلاً «إنّني أكره كل ما تكتب ولكنني مستعدّ لتقديم حياتي دفاعاً عن حقك بأن تستمر بكتابته».

بعد قرنين ونيّف من تاريخ هذه الرسالة، تواصل المؤسسة الدينية العربية تدخلها بشؤون الفكر والثقافة بشكل لا يمكن السكوت عنه. وآخر الغيث سحب كتاب للإسلامي المصري المعتدل جمال البنا من التداول بعد منع كتب لنوال السعداوي ونصر حامد أبو زيد وغيرهما من المثقفين. ولا يسعنا إلا انتظار سحب كتب ابن رشد وابن سينا من التداول واستبدالها بكتاب تهافت الفلاسفة للغزالي مرجعاً أوحد لعلم الكلام والفلسفة العربية.

إنّ السكوت عن هذه التعديات السافرة على حرية الرأي والفكر التي تذكرنا بالقرون الوسطى وبمحاكم التفتيش الكنسية سبب من أسباب الشلل المعرفي الذي يصيب الإنسان العربي ويبقي حياتنا الاجتماعية والسياسية في قبضة الأطر التقليدية المترهلة والعاجزة.

من الطبيعي لكل مجتمع وضع حدود قيمية لمنظومته السياسية والقانونية من حيث الأطر والهيكلات و الآليات، إلا أنه من المرفوض بشكل مطلق وضع حدود لحرية الرأي والتعبير والفكر إلا في حالات ضيقة مثل التلفيق والقذف والدعوة للقتل والعنف.
أما ما عدا ذلك، فإنّ أي تحديد لحرية الرأي أمر مرفوض أخلاقياً وغير قابل للتطبيق عملياً.

أما الرفض الأخلاقي، فمرده إلى كون الفكر يمثّل الخاصية الأكثر حميمية بين كل إنسان وكيانه، وبالتالي فإن أي تعدٍّ على الفكر أو الرأي إنما هو تعدٍّ على إنسانية الإنسان ونفي لذاته ولكينونته. فمهما كان الرأي بنظرنا خاطئاً ومنحرفاً فإنه بالنسبة إلى حامله مسألة وجودية لا مساومة عليها. وإذا ما كان هدفنا التعايش بعضنا مع بعض داخل المجتمعات البشرية فلا بد لنا من أن ننطلق من احترام وجود بعضنا بعضاً من خلال الامتناع عن قمع الآراء وكم الأفواه. وهذه دعوة مختلفة عمّا نسمعه عادة من كليشيهات عن احترام الرأي الآخر مهما كان.

نحن نقول هنا إنه ليس من الضروري أن تحترم الرأي الآخر بل بإمكانك أن تحتقر هذا الرأي وتمقته وتشمئزّ منه، وبإمكانك أيضاً بالتالي أن تعبر عن رأيك أنت به وتقوّمه إلا أن ما لا يمكن أن نتهاون معه هو أن تكم فم من يريد التعبير عنه وتمنعه من الكلام أو الكتابة أو أن تعاقبه عليه.

وفي سياق المثال نأخذ قضايا التعرض للدين الإسلامي ورموزه في الغرب. السؤال المطروح هنا هو: هل تعدّ الرسوم الدنماركية وكذلك فلم «فتنة» الهولندي ومن قبلهما كتاب الآيات الشيطانية لسلمان رشدي من ضمن إطار حرية الرأي؟ من خلال موقعي كرئيس للرابطة العربية الأوروبية بين عام 2000 وعام 2006، تابعت هذه الجدالات في أوروبا عن كثب وقد خلصنا عندها في الرابطة إلى اعتبار الأمثلة المذكورة مشروعة تحت خانة حرية التعبير والرأي. إنه رأي مغلوط ومكروه ونمقته ولكنه رأي يتم التعبير عنه بوسائل مشروعة ولا يجوز محاربته من خلال محاولة كم الأفواه قانونياً وإنشاء محاكم تفتيش جديدة لملاحقة كل ما قد نصفه بالعنصرية وبكراهية الأديان.

إنّ الكراهية ليست ممنوعة وكذلك التعبير عنها، إنّ ما هو ممنوع هو التمييز والتهميش من خلال الأفعال لا الأقوال. فأن تكون عنصرياً هذا شأنك وأن تعبر عن هذا بمقالة أو أغنية أو رسم فلك أن تقوم بذلك، أما أن ترفض تشغيلي أو إسكاني أو بيعي لأنني عربي ومسلم، فهذا فعل عنصري لا رأي عنصري، وعندها على القانون أن يتدخل وأن يمنعك من ذلك. وإن كان صحيحاً أنّ الأقوال تقود الى الأفعال، إلّا أنه لا يسعنا إلا انتظار تحوّل القول إلى فعل لمنعه ولا يحق لنا منعه وهو في طور القول وإلا قذفنا بأنفسنا مجدداً الى غياهب العصور الوسطى.

هذا كان موقفنا في أوروبا ولا يمكن أن يكون موقفنا في الوطن العربي مختلفاً لأنه رأي تحكمه مقاربة أخلاقية معرفية للإنسان وماهيته ولا يتغير بتغيّر المكان والزمان. إنّ أي مجتمع يريد أن ينهض ويتقدم لا بد له من أن يبني نهضته على حرية المعرفة وحرية الرأي والقول المطلقة وكل حد من هذه الحريات هو عصا في دولاب التقدم والدينامية الاجتماعية.

أمّا حرية العمل والتصرف، فتلك تحكمها ضرورات تنظيم تداول السلطة والقوانين الإجرائية المعمول بها والمعاهدات الدولية والعقود الفردية.

إلى جانب هذه المقاربة الأخلاقية المعرفية لحرية الرأي لا بد لنا من مقاربة براغماتية لجدوى القمع كاستراتيجية في محاربة رأي ما. إنّ قمع رأي معين لا يزيله من ذهن صاحبه بل يستفزه إلى مزيد من التشبث به وإن تكتّم على إعلانه. وبهذه الطريقة، نخلق مجتمعاً مكبوتاً حاقداً على نفسه وعلى الآخرين يتربّص أفراده بعضهم ببعض وتسوده ثقافة من الكذب والنفاق تعتاش من كل «تابو» يفرضه المجتمع على أفراده. إنّ الدفاع عن فكرة معينة سواء كانت ديناً أو ايديولوجيا لا يكون من خلال إخراجها من الجدل الاجتماعي ووضعها في قالب فولاذي مقفل.

إنّ إخراج منظومة فكرية ما دينية او سواها من سياقها التاريخي ومن التداول المجتمعي يؤدي الى ترهلها وانتفاء الحاجة إليها وقتلها ولو بعد حين. إنّ ما تخطّاه الزمن لن تحميه العمائم كما لم تحمِ قبعات الجنرالات السوفيات العريضة عقيدة شيوعية تحجرت حتى انفجرت. إنّ وضع الدين والعقيدة وأي فكرة أو منتج إنساني قيد الجدل والنقاش والأخذ والرد والهجوم والدفاع لهو أكبر خدمة بإمكان أي كان أن يسديها لعقيدته فيحفظها حيوية متجددة ومماشية لعصرها.

كما أن قمع عقيدة ما أو فكرة ما إنما يدفعها إلى الغوص عميقاً في نفس صاحبها والترسخ أكثر فأكثر في وجدانه كما أنه على المستوى الاجتماعي ينمّي العصبية بين القائلين بها ويخلق لهم ثقافة باطنية جذابة وصورة مثيرة تشد الكثيرين اليها. اذا ما أردتم محاربة ما يقوله جمال البنا ونوال السعداوي وأبو زيد فردوا على الحجة بالحجة وعلى القول بالقول وإلا فإنّكم تعطون ما يقولونه بمنعكم إيّاهم عن قوله قوة اضافية وحجة جديدة.

وإذا كانت أوروبا تؤمن بالمحرقة وبفرادتها وبتفاصيلها فلتفتح باب البحث العلمي والتاريخي عليها وتوقف قمعها للمشككين فيها والمنتقدين للتاريخ الكلاسيكي لتفاصيلها لأن قمعها لهم من خلال القوانين والأحكام بالسجن إنما يجعل منهم شهداء للفكر والفكرة ويعطي الانطباع بأن هناك ما يجب إخفاؤه والتعتيم عليه تاريخياً. وإذا كنتم تكرهون ما كتبه سلمان رشدي فاكتبوا ضده ولا تحولوه الى أكبر مما هو من خلال جعله شهيداً حياً وتحويله من كاتب مغمور من الدرجة الثانية إلى أحد أكثر الكتّاب نشراً وقراءة على المستوى العالمي. واذا ما أهانكم دنماركي برسوم كاريكاتورية فردّوا الصاع صاعين من خلال رسوم تبيّن للأوروبيين أن لديهم أيضاً مقدّسات وإن لم تكن دينية وأن الإساءة الى مقدسات الناس وإن كان رأياً لا يمكن منعه قانوناً إلا أنه رأي مستهجن ومتهافت أخلاقياً يدين صاحبه ويحطّ من قدره أكثر من إساءته للرمز الذي يستهدفه.

وإذا لم تعجبكم طريقة تصوير النائب الهولندي العنصري «ويلدرز» للاسلام من خلال فلم «فتنة» فلماذا لا تفضحون أجندته وتفندون أقواله بدل إضاعة الوقت في محاولات يائسة لإسكاته قانونياً؟ فليقل ما يريد و ليكن رأيه ادانة له بدل تحويله الى شهيد حي لحرية الرأي مثل رشدي.

بعد منع الكنيسة في لبنان ادخال كتاب شيفرة دافنشي، وامعان الأزهر في منع الكتب الجريئة والنقدية وفي جو من الترهيب الفكري لا بل الجسدي ضد كل من يواجه التابو الديني في بلادنا تحولت قضية حرية الرأي الى قضية لا تقل أهمية عن معركتنا مع الاحتلال الأميركي والاستعمار الصهيوني لأنها في صلب معركتنا مع الديكتاتوريات العربية الحاكمة بشقها السياسي والديني المؤسساتي المكمل له. إنّ معركة التحرر ملتصقة بمعركة الحرية و لا يمكن أن تنفصلا.
"الأخبار"

التعليقات