31/10/2010 - 11:02

فلسطين والعراق والنفط وسيرة الـ«Go West Man"../ رفيق قاسم*

فلسطين والعراق والنفط وسيرة الـ«Go West Man
خرجت الولايات المتحدة الأميركية من الحرب العالمية الثانية منتصرة ومسيطرة على العالم الرأسمالي برمّته. وراج في فترة ولاية الرئيس دوايت أيزنهاور 1953 ـ 1961 القول المأثور «ما هو جيّد لشركة جنرال موتورز، جيّد للولايات المتّحدة الأميركيّة»، والعكس صحيح أيضاً.

وفي هذه الأحوال، دخلت أميركا حرب فيتنام مستفيدة من اقتصاد الحرب، لكنّها تعرّضت لهزيمة نكراء بسبب رؤية خاطئة لمعادلات الصراع بين القوى المحلية والدولية المعنية بالحرب، وبسبب تحليلات خاطئة لنوع التفاعل الذي يمكن أن ينشأ بين هذه القوى. ولمّا كانت أميركا عند دخولها في حرب فيتنام مكتفية بذاتها وإنتاجها وثرواتها، ولا تتطلّع إلى خارج حدودها لحفظ ديمومة نمط حياتها الاستهلاكية، فقد خرجت من الحرب منهَكة، لا فقط بسبب الأكلاف الضخمة التي تكبّدتها، وبسبب كثرة الضحايا والمعاقين والجرحى والتشوّهات النفسية التي خلقت ما يُسمّى «عقدة فيتنام»، بل أيضاً بسبب الانكماش والتباطؤ الاقتصادي الذي أفقد الاقتصاد الأميركي هيبته ودوره، الأمر الذي اضطرّها إلى اتخاذ إجراءات مالية ونقدية تمثّلت بخفض سعر صرف الدولار وفكّ ارتباط قيمته بالذهب من جهة، وربط قيمته بحجم الإنتاج الاقتصادي ونموّه من جهة ثانية.

ضمن هذه الأجواء اندلعت في عام 1973 حرب تشرين العربيّة ـ الإسرائيليّة، واستعمل العرب سلاح النفط في المواجهة. وتلت ذلك الثورة الإسلامية في عام 1979 في إيران، ما أدّى إلى ارتفاع حادّ في أسعار النفط وإلى حالة من التزاوج بين الركود والتضخم (Stagflation) في الاقتصاد الأميركي خصوصاً، وفي اقتصادات العالم الرأسمالي عموماً. ولمقاومة آفة التضخّم، اضطرّت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى رفع نسبة الفائدة على الدولار إلى ما يقارب 20 في المئة، فوقعت في مزيد من الركود الاقتصادي والبطالة، الأمر الذي جعل أميركا غير قادرة على المضيّ في حياة البحبوحة والاستهلاك المفرط من دون اتباع سياسة العولمة التي بدأتها بالانفتاح على الصين الشعبية آنذاك، ومساندة «المجاهدين الإسلاميّين» في محاربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ومعاودة سياسة اقتصاد الحرب بتبنّيها سياسة المواجهة العسكريّة مع الاتحاد السوفياتي عبر برنامج «حرب النجوم» الذي لم يستطع الاتحاد السوفياتي توفير تكاليف إنتاجه، ما أدّى إلى خلل في التوازن الاستراتيجي بين القطبين، وإلى انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، وانهياره في ما بعد وانفصال مقاطعات وسط آسيا الإسلامية عنه واستقلالها، وانهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية. مع هذا التحوّل بدأت مرحلة جديدة للعولمة، بتوجّه أميركي للسيطرة على الدول الخارجة من الشيوعية العالمية، وعلى دول العالم الثالث.

ومثّلت أحداث 11 أيلول 2001 نقطة فاصلة في تاريخ سياسة العولمة العسكرية الأميركية، إذ استطاعت أميركا الانقلاب على حلفاء الأمس في أفغانستان، وضربهم بجميع أنواع الأسلحة، وكانت النتيجة أن استغلّت إسرائيل مبدأ محاربة الإرهاب لتُكمل ضرب الانتفاضة الفلسطينية، وتطيح في طريقها مقوّمات السلطة الفلسطينية. وبانتهاء الحرب الباردة في أوائل التسعينيات، أُدخلت اختراعات التكنولوجيا والاتصالات الحديثة في الإنتاج الصناعي الأميركي، ما أدّى إلى زيادة كبيرة في الإنتاجية، وبالتالي نموّ كبير لعدّة سنوات في الاقتصاد.

هذا التطوّر انتهى عام 2000 بانهيار أسواق البورصة في نيويورك وأدّى إلى ركود اقتصادي وارتفاع في نسبة البطالة إلى 6 في المئة آخر سنة 2002 بعدما كانت أقلّ من 3 في المئة آخر سنة 2000، وإلى عجز في ميزانها التجاري يزيد على 450 مليار دولار وإلى خفض في قيمة الدولار لتصل إلى 1،09 دولار لليورو الواحد بعدما كان 0،87 دولار قبل أحداث 11 أيلول. وقد استمرّ العجز التجاري بالتصاعد ليصل إلى أكثر من 800 مليار دولار، وكذلك استمرّ الدولار بالتراجع إلى حدود نحو 1،43 دولار لليورو الواحد اليوم.

هذه العوامل دفعت أميركا للتفتيش عن أسواق جديدة، وخصوصاً أنّها عجزت عن الاستفادة من أسواق روسيا ودول أوروبا الشرقية التي تنتقل من الشيوعية إلى الرأسمالية، حيث إنّ القوّة الشرائية للمجتمع ضعيفة وغير مؤهّلة للدخول في نمط المجتمعات الاستهلاكية الذي أوجدته العولمة. أمّا في الصين ذات النظام المزدوج (العام والخاص معاً) فكانت الصورة مقلوبة، فبدلاً من أن تكون صادرات أميركا إليها هي الغالبة في علاقاتها التجارية معها، نجد أنّ الصين تصدّر إلى أميركا خمسة أضعاف ما تستورده منها.

لهذه الأسباب، كان لا بدّ للولايات المتحدة من التركيز على تأهيل البلدان العربية والإسلامية الآسيوية لتكون أسواق هذه الأخيرة قادرة في المستقبل على استيعاب جزء ضخم من الإنتاج الصناعي والزراعي والخدماتي الأميركي. وقد هدفت مسارعة الرئيس بيل كلينتون في أواخر ولايته في محاولة حلّ القضية الفلسطينية عبر لقاءات كامب ديفيد عام 2000، إلى الوصول إلى استقرار المنطقة العربية والإسلامية باعتبارها المدى الحيوي الاستراتيجي للولايات المتحدة في المستقبل. فاحتياطي النفط العربي المصرَّح عنه 588 مليار برميل كما هو ظاهر في الجدول.

ومجموع احتياطي دول الشرق الأوسط وحوض بحر قزوين الإسلامية 702 مليار برميل، ما نسبته 70 في المئة من الاحتياط العالمي المقدّر 1028 مليار برميل. وتؤكّد مؤسّسة Energy Information Administration التابعة للحكومة الأميركية أنّ مخزون النفط العراقي متوقَّع أن يزيد 320 مليار برميل ليصبح 432 مليار، وبالتالي سيكون أكبر احتياط نفطي في العالم، وأنّ المملكة السعودية عندها المقدرة على استخراج ما يقارب 1000 مليار برميل من آبارها. وتشير إلى أنّ احتياط النفط الأميركي يقدّر بـ22 مليار برميل بما نسبته 2 في المئة، في حين أنّ نسبة الاستهلاك النفطي الأميركي تقارب 26 في المئة من الإنتاج العالمي. وإنّ إنتاج الولايات المتحدة الأميركية لا يزيد على 8 ملايين برميل يومياً، بينما متطلّبات استهلاكها اليومي تُقدّر بـ20 مليون برميل تستكملها باستيرادها 12 مليون برميل يومياً، وخصوصاً من الشرق الأوسط، ومن المرشّح أن يزيد هذا الاستهلاك إلى 30 مليون برميل يوميّاً بحلول سنة 2020 وبازدياد النفط المستورد ليصل إلى أكثر من 20 مليون برميل يوميّاً.

لهذا كان لا بدّ من الاستقرار في الشرق الأوسط، وخصوصاً في البلدان العربية، لكي يرتفع مستوى المعيشة في هذه المنطقة الغنية وتظهر جماعات مستهلكة تقوم وتساهم في تثبيت نظام العولمة.

إنها سياسة ملء الفراغ الاقتصادي التي تتّبعها الولايات المتّحدة. أمّا الاتحاد الأوروبي المؤهّل للتكامل مع الشرق الأوسط، فيظهر الآن القوّة الثانية القادرة على ملء الفراغ. فاحتياط الاتحاد النفطي هو نحو 0،7 في المئة من الاحتياط النفطي العالمي أي 7 مليارات برميل، فيما استهلاك الاتحاد 19 في المئة من الإنتاج العالمي للنفط، أي ما يعادل 14،50 مليون برميل يومياً، ينتج منها تقريباً 3،50 مليون برميل ويستورد 11،50 مليون برميل من دول الشرق الأوسط. ولهذا نجده يختلف في مواقفه الاقتصادية والسياسية مع الولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينيّة والقضايا العربية الأخرى، كالقضية العراقيّة، لكون العراق هو المدى الاستراتيجي العربي في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ولهذا فإنّ الصراع على أرض فلسطين يحمل في طيّاته ونتائجه صورة مستقبل المنطقة برمّتها، بالإضافة إلى الصورة المستقبلية للتوازنات العالمية.

إن قيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة التامّة، هو المدخل السياسي الاستراتيجي في المنطقة العربية، ومن دونها يصعب أن تكون منطقة الشرق الأوسط ومناطق آسيا الوسطى الإسلامية، مدى حيويّاً تحقّق فيه أميركا مصالحها، وخصوصاً في ظلّ وجود مصالح استراتيجية لدول الاتحاد الأوروبي وروسيا في هذه المنطقة. وقد يكون هذا التعارض في المصالح، بالإضافة إلى رفض شعوب المنطقة الهيمنة الإسرائيلية، من العوامل الأساسية التي تعوق الاستقرار، وبالتالي تنفيذ الولايات المتحدة مآربها الاقتصادية الضرورية لاستمرارها أعظم قوّة في العالم.

إنّها سيرة تاريخ الولايات المتّحدة الأميركية، منذ اكتشافها في أواخر القرن الخامس عشر، وإنشائها في أواخر القرن الثامن عشر. إنّها سيرة التوسّع الاقتصادي الدائم نحو الغرب (Go West Man)، وإذا بغرب الولايات المتحدة يصبح وسط آسيا، ومحيط شبه الجزيرة العربية. ويصبح القول المأثور في عهد الرئيس بوش الابن، في أوائل الألفية الثالثة «ما هو جيد للولايات المتحدة الأميركية جيد للعالم».
"الأخبار"

التعليقات