31/10/2010 - 11:02

فهم أميركا للعرب قاصر../ جميل مطر*

فهم أميركا للعرب قاصر../ جميل مطر*
كانت قيادة أميركا السياسية تفهم أوروبا جيداً عندما قررت خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها انها ستتحمل عبء إعادة بنائها. عرفت مفاتيح القارة، ليس فقط لأن دماء أوروبية عريقة وعتيقة كانت تجري في عروقها. ولأن الدين كان أساسا لثقافة مشتركة، ولأن العقيدتين الاقتصادية والسياسية نابعتان من مصدر واحد، ولكن أيضا لأن القيادة السياسية الأميركية في ذلك الحين كانت لتوها خارجة من حرب ضد عدو مشترك لتجد نفسها مع حلفائها في مواجهة عدو جديد أشد ضراوة وأوسع طموحاً.

لم تكن أوروبا غريبة عن نمط تفكير وذهنية الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة. كانت هناك ثقة كبيرة بالنفس لا شك فيها من جانب المثقفين وبعض السياسيين والمفكرين الأميركيين، وكانت هناك غطرسة وشكوك، وكانت مهيمنة صورة توارثها الأميركيون عن آبائهم المؤسسين تظهر فيها أوروبا قارة متهورة، لا تهدأ بالاً ولا يتسامح فيها الناس. قارة تسعى شعوبها وقيادتها دائماً للاختلاف والخلاف، وما العزلة التي ارتمى في أحضانها الشعب الأميركي بعد مؤتمر فرساي الذي وضع تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى سوى دليل على مدى عمق هذه الشكوك وضخامة هذه الخشية من تهورات الأوروبيين ومن تعصبهم الديني والقومي وجشعهم الاستعماري.

قيل عن هذه العزلة الأميركية، عزلة ما بين الحربين، انها كانت السبب في عودة أوروبا إلى سيرتها القديمة بعد فرساي بسنوات قليلة. وأظن أنه قول صحيح ويكشف عن الدافع وراء ظهور تيار «أطلسي» في غرب أوروبا يدعو الولايات المتحدة إلى العودة للتدخل في شؤون القارة وأن تقيم بشكل أو بآخر في أوروبا. وقاد تشرشل هذا التوجه الأوروبي وبذل كل ما في وسعه في الفترة ما بين الحربين لجذب أميركا نحو الشرق. جرب الإقناع وأقام جماعات ضغط واستخدم نفوذ الإعلام وبعض العسكر واستثمر علاقاته الشخصية، بل ربما تآمر لتحقيق هذا الهدف، وبالفعل عادت أميركا وتدخلت عسكرياً وسياسياً و «أيديولوجياً» وأقامت.. ولم تغادر.

لماذا الكتابة عن العلاقات الأوروبية - الأميركية بينما يقال إنه يكاد لا يوجد وجه واحد للمقارنة بينها وبين العلاقات العربية الأميركية الراهنة؟ يأتي الرد سريعا بأنه يوجد دائماً وجه للمقارنة بين علاقات دولية وأخرى. يكفي أن نقارن بين موقف الرأي العام الأوروبي وموقف الرأي العام العربي من سياسة أميركا الخارجية الراهنة، ونقارن هذا الموقف بإعجاب الرأي العام الأوروبي وإعجاب الرأي العام العربي بالولايات المتحدة في عقدي الثلاثينات والأربعينات مثلا. كانت أميركا عندئذ نموذجا «غير استعماري» وغير عدواني وغير توسعي أو هكذا قدمت نفسها وقدمها أكاديميون وسياسيون أوروبيون وعرب بارزون. وكانت أيضا الدولة التي تقدمت على غيرها في سباق الرعاية الاجتماعية وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

ولكننا نكتب عن هذه العلاقات الآن لأننا نريد حقيقة أن نفهم «ماذا يحرك» صانعي السياسة في أميركا. ماذا دفعهم إلى الاهتمام بإنعاش أوروبا وفرض الهدوء على أعصاب شعوبها وحكامها ؟ ونريد أن نفهم طبيعة وماهية العناصر التي شكلت صورة أوروبا لدى الطبقة الحاكمة الأميركية. نريد أن نعرف، لأننا مع كل يوم يمر تزداد حيرتنا في فهم هذه الطبقة التي تحكم الولايات المتحدة. نظن أحيانا أننا نعرفها جيداً ثم نكتشف أنها ليست على ما كنا نظن. ونسأل ونكرر السؤال: لماذا تعاملنا بهذه القسوة والغطرسة وأحيانا اللامبالاة والإهمال رغم كل ما نشعر به من أهمية؟ يخطر لنا أننا ربما كنا اعقد من أن يفهمنا الآخرون، أو أننا، شعوباً وقبائل وحكاماً، لا نستقر على حال واحدة لمدة معقولة. ويخطر أننا ربما كنا كالمعلقين في الزمن، لم تنفك قيودنا التي تعلقنا بالماضي، ولم نمد قيودا لتربطنا بالمستقبل، وكالأرجوحة لا نثبت ولا يستقر لنا قرار.

اعرف أننا نستطيع أن نقول عن أنفسنا الكثير، كما استطاع غيرنا أن يقولوا عن أنفسهم الكثير. ولكني أعرف أيضا أن كل شيء طيب يصدر عن شعوبنا ونخبنا الحاكمة لا يصل طيباً إلى الولايات المتحدة وبالتأكيد لا يرتد إلينا في شكل طيبات أو نيات طيبة. وأعرف، ويعرف معظم الذين يتابعون أميركا انتظاراً لخير يفيض منها علينا أو توقعاً لشر تدبره لنا. الظاهر لنا على الأقل هو أن المفاتيح التي في أيدي صانعي السياسة الأميركية في الشرق الأوسط صممتها عقول لتفتح أبوابا تصادف أنها الأبواب التي تهب منها عواصف رملية تعمي البصيرة أو تؤذيها وتسد الطرق والمسالك وتثير سحباً من الشكوك وسوء الظنون.

أميركا تنظر إلينا، كعرب مسلمين ومسيحيين، بعيون إسرائيلية. وقبل الاستطراد في هذه الملاحظة استدرك بالقول ان عبارة كهذه تجد من يفسرها في الولايات المتحدة باعتبارها معادية للسامية لأنها صادرة من شخص يبدو أنه يتعمد انتقاد نفوذ دولة إسرائيل وهيمنة وكلائها على عملية صنع السياسة في واشنطن، علما بأن العبارة ذاتها يستخدمها معلقون وسياسيون إسرائيليون للتدليل على الدور»المجيد والوطني» الذي يقوم به اليهود في أميركا والقوة الهائلة التي يتمتعون بها. هؤلاء أنفسهم هم الذين يجولون في قصور عديد من الحكام في كثير من دول العالم متباهين بأن في أيديهم وحدهم مفاتيح تفتح كل باب موصد في العاصمة واشنطن. هذه مباهاة أما إذا تفوه بها غيرهم فهي عداء للسامية.

أستطرد فأقول إن السياسة الأميركية تجاه دول العالم العربي وشعوبه تثير الغضب لأن نسبة كبيرة، إن لم تكن النسبة الغالبة، من واضعي أسسها ومخططي قراراتها وخطواتها، إسرائيليون. لم يعد سراً أن كل الكبار في أهم مراكز صنع السياسات الدفاعية والعدوانية والخارجية في واشنطن عند التحضير لحملة ضد العراق ومنذ أيام الحصار وربما قبله، كانوا إسرائيليين. وأن عددا من أبرزهم تخلى طواعية عن مناصبه عندما بدأت إدارة بوش تغرق في ورطة العراق.

هل نأمل خيراً من الرئيس بوش الذي يبدأ يومه بقراءة تقرير عن الشرق الأوسط أعده إسرائيلي يقيم في البيت الأبيض كاره للعرب اشد الكره وواضع نصب أعينه هدف تفتيت الأمة العربية ومنع السلاح عنها وإثارة الكراهية الأميركية ضدها وإحباط جهود طبقاتها الحاكمة للتوصل إلى سلام إقليمي لا يدمر السلام على أرضها وبين شعوبها؟ وهل ما زلنا نأمل في سياسة مختلفة من وزارة خارجية عكفت جماعات الضغط الإسرائيلية على امتداد عقدين أو اكثر على تطهيرها من المتخصصين المخضرمين في شؤون العرب وثقافتهم ودياناتهم وإحلال إسرائيليين كارهين للعرب محلهم؟

هنا لا يجوز الزعم بأن هذه المشاكل تتعلق أساساً بمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبتوازنات قوى الضغط. فالمسؤولون في الخارجية الأميركية عن شؤون أميركا اللاتينية ليسوا «أعداء طبيعيين» لأميركا اللاتينية، والمسؤولون عن الصين ليسوا «أعداء طبيعيين» للصين. وهكذا الأمر بالنسبة للمسؤولين عن سياسة أميركا تجاه روسيا الجديدة وإفريقيا والهند. أما الشرق الأوسط، والعرب بوجه خاص، فقد صار لهم وضع خاص في أجهزة صنع السياسة حيث يتولى شؤونهم أميركيون - إسرائيليون كارهون للعرب والمسلمين. لذلك لا يصدر عن هذه الأجهزة إلا كل ما يثير الكراهية بين الأمة العربية - الإسلامية والأمة الأميركية. قليلون في أميركا هم الذين استطاعوا أن يشيروا بإصبع الاتهام إلى سيطرة وكلاء إسرائيل خوفا من الوقوع تحت طائلة قوانين تعاقب على كره إسرائيل والصهيونية ولكنها لا تعاقب على بث الكراهية ضد العرب. لم يستثنوا أحدا، حتى اليهود الغاضبون من إرهاب «ايباك» وفروعها واحتلالات إسرائيل وتجاوزاتها لم يفلتوا من التهديد والتخويف. ويتحالف بوعي أحيانا وعن غير قصد في أحيان أخرى مع هذه النخبة الصهيونية الواسعة المسيطرة على سياسة أميركا تجاه العرب والمسلمين أكاديميون من أصول عربية وإسلامية. نقرأ لهؤلاء ما يكتبون ونستمع إلى ما تستمع إليه لجان الاستماع في الكونغرس الأميركي ونشاهدهم على الشاشات. افترضنا بداية انهم معارضون سياسيون لأنظمة حكم في بلاد المنشأ يمارسون حق التعبير بحرية خارج أوطانهم. وكان أمرا مقبولا أو على الأقل مبرراً طالما ظلت حريات التعبير في الأوطان مقيدة وحقوق الإنسان المعارض مهددة ومخترقة، وطالما ظل الانتقاد وبقيت المعارضة في إطار لا يخدم إثارة الكراهية المتبادلة.

قرأنا عن أدوار قام بها مواطنون أميركيون من أصول عربية كانت تخدم الهدف الإسرائيلي بأكثر مما كانت تخدم أهدافاً أميركية أو عربية. ولدينا النموذج في الكتابات والخطط التي كشف عنها الستار تثبت أن بعضهم مسؤول بدرجة أو بأخرى ليس فقط عن تدمير العراق دولة وأمة وديناً، ولكن أيضاً عن توريط أميركا في أشد كوارثها المعاصرة هولاً وتعقيداً.

هؤلاء، سواء منهم من يعيش في أميركا أو هنا في أوطاننا، يتصور، ويصدق أحيانا، انه يخدم أصوله العربية عندما يعتمد على صدقيته الأكاديمية ومكانته الأدبية فيقدم، متطوعاً أو مأجوراً، نصائح تضر ضرراً جسيماً بالعلاقات الأميركية العربية. يتصور هؤلاء انهم يصنعون مفاتيح تستخدمها الحكومة الأميركية في فتح أبواب جديدة مع ان أغلبهم انقطعت صلتهم ومعلوماتهم عن أوطانهم وباتوا غير مطلعين على التطور الذي طاول عقائدها وشخصيتها وطموحاتها.

أما الجماعة الثالثة المسؤولة عن تدهور العلاقات الأميركية العربية، فهي جماعة صناعة النفط. هذه الجماعة تضم إلى جانب قيادات الصناعة من رجال المال والأعمال، مفكرين وإعلاميين وأكاديميين ممن يدورون في فلك النفط، ليس أقلهم شأنا السيدة كوندوليزا رايس وزيرة خارجية أميركا والسيد ريتشارد تشيني نائب الرئيس والسيد بوش الأب الرئيس الأسبق. ويبدو للوهلة الأولى أن تأثيرات هذه الجماعة في صنع السياسة الخارجية تختلف عن تأثيرات الجماعة الإسرائيلية المهيمنة في واشنطن وتأثيرات جماعة العرب الكارهين لذواتهم، وربما تختلف إلى حد التناقض.

الواقع يقول إن جماعة النفط مسؤولة بالدرجة الأولى عن وضع أسس «ثقافة نفطية». أسهمت هذه الثقافة النفطية بدرجة كبيرة في صياغة ثقافة سياسية عربية أوسع حاولت التأقلم مع الثقافة السياسية السائدة في مجتمعات المنطقة وبخاصة في مجتمعات النفط ونجحت حينها. وكانت سببا في أن اكتسبت المنظومة التقليدية حصانة أقوى لفترة غير قصيرة قبل أن تفشل فشلا صارخا حين جلبت على نفسها وعلى حكومات المنطقة وعلى علاقات العرب بأميركا آثاراً كان بعضها مدمراً وأكثره باهظ الثمن. يكفي أن نقول إن مفتاح النفط، وهو المفتاح الذي اعتمد عليه العرب عموماً وأميركا خصوصاً لعقود طويلة، لم يعد مناسباً بعد أن تعقدت المشكلات وأوصدت أبواب كثيرة، كلها في حاجة لمفاتيح جديدة من أجل فهم متبادل جديد وموضوعي وعلاقات افضل بين العرب والأميركيين.

"الحياة"

التعليقات