31/10/2010 - 11:02

في الانتماء القومي للشيعة العرب../ عمار علي حسن

في الانتماء القومي للشيعة العرب../ عمار علي حسن
في ريعان شبابه، وقبل أن تملأ إبداعاته الأسماع والأبصار، ذهب الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري ليتسلم وظيفة مدرس ابتدائي، لكن المفكر القومي الكبير ساطع الحصري، وكان مسؤولا عن التعليم في العراق آنذاك، رفض طلبه، ورده خاسرا، لأن الجواهري، شأنه في هذا شأن العديد من العشائر والعائلات الشيعية، كان يرفض التقدم بطلب للحصول على الجنسية العراقية، ويفضل «الجنسية الإيرانية» التي تحميه من بطش العثمانيين (السنة) وضرائبهم الباهظة، وتجنيدهم الإجباري.

هذه الواقعة العارضة سُلطت عليها عدسة مقعرة، فساحت في الزمان والمكان، وبدت لدى كثيرين، ممن لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتحري، ملخصا وافيا لموقف الشيعة العرب من «القومية» بل من الانتماء والولاء لأقطارهم التي يعيشون على أرضها ويستظلون بسمائها. لكن الحقيقة التي تقوم على معرفة ما جرى قبل واقعة الجواهري وبعدها، تقول بجلاء ووضوح إن مثل هذه الانطباعات خاطئة، وجائرة في الوقت نفسه.

في حقيقة الأمر فإن التشيع في العالم العربي سابق على التشيع في إيران ومختلف عنه في كثير من التصورات والتصرفات. فالتشيع لعلي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، في جزيرة العرب بدأ قبل دخول الفرس الإسلام. وفي هذا الوقت كانت إيران مجوسية. فلما فتح المسلمون العراق وفارس، مالت قبائل عربية هناك إلى اعتناق التشيع، بينما ظلت الغالبية الكاسحة من الإيرانيين تعتنق المذهب السني، باستثناء قم، إلى أن تم تحويلهم قسرا سنة 1500 م حين أُعلن التشيع مذهبا رسميا للدولة الصفوية، بل إن الشيعة لم يصبحوا أكثرية في العراق إلا في القرن التاسع عشر، حين استقرت معظم القبائل البدوية على أرض الرافدين، وتشيعت.

أما الاختلاف فيتجسد أساسا حول المرجعيات، إذ يعتز غالبية الشيعة في العراق بإمامة النجف الأشرف، باستثناء أتباع «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» الذين خضعوا لمؤثرات إيرانية، في السياسة والمذهب الديني. وإذا كان المراجع الكبار لشيعة العراق مثل آيات الله علي السيستاني ومحمد اسحق فياض وحسين بشير الأفغاني ومحمد سعيد الحكيم، من أصول إيرانية، فإن مسلكهم يختلف كثيرا عن نظرائهم في إيران، من زاوية ابتعادهم عن لعب أي دور سياسي، وتفرغهم للمسائل الدينية البحتة. وإذا كانت اجتهادات وسلوك الإمام محمد صادق الصدر اقتربت من شيعة إيران في الإيمان بمبدأ الولاية العامة للفقيه، فإنه أقام هذا الفهم على أرض مختلفة، إذ لعب دورا كبيرا في بلورة الهوية العربية لشيعة العراق، عبر إنشاء الحوزة الناطقة، التي أنزلت رجال الدين من برجهم العاجي، ليعايشوا الناس، ويقفوا على أفراحهم وأتراحهم، وكذلك من خلال تقريب الحوزة والمرجعية من القبائل والعشائر العربية، وإحياء شعيرة الجمعة بعد طول إغفال، تحت شعار راسخ في أذهان شيعة العراق وهو «نعم نعم للحوزة... نعم نعم للجمعة».

وجاءت الحرب العراقية - الإيرانية التي دارت رحاها من 1980 - 1989 لتظهر متانة الانتماء الوطني لشيعة العراق، إذ شكلوا أغلبية جنود سلاح المشاة، وقاتلوا الإيرانيين بضراوة دفاعا عن بلدهم، جنبا إلى جنب مع أتباع المذهب السني. وكان الصدر يرى أن الشروط الاقتصادية والسياسية التي تقف وراء الثورة الإيرانية غير متوفرة في العراق، ويدعو الناس إلى الإخلاص لوطنهم.

وسعى الإمام موسى الصدر إلى بلورة هوية خاصة للتشيع في لبنان، رغم تأثره بالتجربة الإيرانية ومواءمة التجربة الشيعية العراقية مع نظام سياسي مستبد مع انحيازه إلى قضايا العروبة، وفي مقدمها قضية فلسطين. وحاول الصدر التوفيق بين المذاهب الإسلامية، وانحاز بشدة إلى الانتماء العربي للبنان، ودوره في الصراع ضد اسرائيل، وسخر في هذا منظومة القيم الدينية الشيعية، مثل التضحية بالمال والنفس ومساندة المحرومين. ودافع في طروحاته عن وجهة نظر تؤكد أنه لا تعارض بين خصوصية لبنان وقوميته العربية، ولا تنافر بين التشيع والانتماء للعروبة. وشهدت هذه الأفكار وغيرها طريقها إلى تطبيق عملي، تجسد في كفاح «حزب الله» وحركة «أمل» في لبنان ضد إسرائيل، حتى أجبرت على الخروج الذليل من جنوب لبنان في ايار (مايو) 2000.

هناك أربع مسائل رئيسية يجب أخذها في الاعتبار حين نناقش الانتماء القومي للشيعة العرب، أولاها: إن رفض قطاعات من الشيعة للقومية العربية، لا يعني بالضرورة رفض الانتماء إلى العالم العربي، بقدر ما يعني عدم التجاوب مع الجانب «العلماني» من الفكرة القومية. فقد رأى رجال الدين الشيعة، شأنهم في ذلك شأن العديد من الحركات الإسلامية السنية، أن القومية تبدو في جوهرها معادية للإسلام، واستندوا في ذلك الى كون المفكرين القوميين العرب الأوائل لم يكونوا مسلمين، وكون القومية تنطوي على «عنصرية» للعرق العربي، طالما عانى منها المسلمون من غير العرب طويلا في القرون التي رحلت. وبغض النظر عن مدى صواب أو خطأ تصورات الشيعة عن القومية، فإننا لا يجب أن نتخذ منها دليلا على عدم انتمائهم، لأن قطاعات عريضة من السنة العرب، خصوصاً من المنتمين الى الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، رفضت القومية وعادتها، ورأت أنها تهدف الى محاربة الإسلام، ومن ثم قاومتها، وفرحت لفشلها. ومع ذلك فإن من بين الشيعة مفكرين وساسة تفاعلوا بإيجابية مع الفكر القومي، ودافعوا عنه، من صفوف حزب البعث، والأحزاب الاشتراكية في بلاد الشام، والتيارات القومية في منطقة الخليج العربي، شأنهم في هذا شأن نظرائهم من السنة.

وثاني المسائل أنه ليس من صالح الدول العربية أن تتحدث في الاتجاه الذي يسلخ الشيعة عن عروبتهم، فمثلاً ستصبح عروبة العراق هشة إذا خرج العرب الشيعة من المعادلة، بل ستكون حتما دولة غير عربية من دونهم. كما أنه ليس من صالح التطور السياسي في المنطقة النفخ في أوصال العلاقة بين الدين والسياسة، سواء من بوابة التشيع أو من نافذة الحركات الإسلامية السنية. كما أن هناك أجندة مشتركة للسنة والشيعة معا في المنطقة، منها مواجهة العدوان الإسرائيلي والاستكبار الأميركي.

أما المسألة الثالثة فإن الولاء للدولة الوطنية ليس مجرد رابطة عاطفية تدور في فراغ، بل تتأسس على أفكار وممارسات في الواقع المعاش، تقوم على إعلاء مبدأ المواطنة، والمساواة بين الفئات والشرائح المكونة للدولة، وبناء معايير عادلة في توزيع الثروة والمناصب والأمن الاجتماعي. وآفة الأنظمة العربية أنها منذ الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة لم تفعل ما تحافظ به على «التكامل الوطني»، فجارت على الأقليات ومن بينها الشيعة. وآن الآوان أن تنتهج هذه الأنظمة من السياسات ما يرمم الشروخ التي أوجدتها التفرقة بين العناصر الاجتماعية المكونة للدولة، بدلا من اتهام أي أقلية بعدم الولاء لوطنها.

والمسألة الرابعة التي يجب اخذها في الاعتبار عند مناقشة هذا الموضوع فهي أن هناك مساحة شاسعة بين «التعاطف» و «الولاء»، وإذا كان الشيعة العرب يتعاطفون مع إيران، فإن هذا التعاطف امتد إلى السنة العرب أيضا في لحظات تاريخية محددة، مثل التي أعقبت قيام ثورة الخميني، التي بدت ملهمة للجماعات الإسلامية برمتها، ومثل فترات المواجهة بين إيران والغرب، حيث يرى العرب السنة في النهاية أن إيران أقرب إليهم من أميركا وإسرائيل، وأن هناك قواسم مشتركة بينها وبين العرب، خصوصاً في مقاومة المشروع الاستيطاني الصهيوني، والتصدي للاستراتيجية الأميركية في المنطقة.

إن الاختلافات المذهبية لا يجب أن تعمي أبصارنا عما عداها. ومن الفطنة أن نُخضع ما يخص الدين للحوار، على أساس مبدأ «نتعاون في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضناً بعضاً في ما اختلفنا فيه»، ونخضع ما يتعلق بالسياسة للمصلحة العليا، فنعزز الوشائج التي تزيد من مناعة العرب، ليقاوموا مشروعات خارجية، يتأسس جانب منها على بث الفرقة بينهم، على خلفيات المذهب والدين والعرق، مثلما يجري الآن، في خدمة جليلة للأميركيين الذين رفعوا شعار «الفوضى الخلاقة» ذاهبين إلى خيار مفتوح لإحياء النعرات الطائفية والمذهبية في بلادنا.

"الحياة"

التعليقات