31/10/2010 - 11:02

في الذكرى السابعة: الحرب الاستباقية أعظم تهديد للسلام العالمي../ مطاع صفدي*

في الذكرى السابعة: الحرب الاستباقية أعظم تهديد للسلام العالمي../ مطاع صفدي*
الكوارث العظمى في التاريخ لا تنقضي بانقضاء أزمانها. ليست لها ذاكرة محدودة بأحداثها الواقعة، ما دامت نتائجها المباشرة وغير المباشرة قد دخلت في نسيج كل حاضر يتبعها. فقد نجحت إدارة بوش في تحويل شعار القرن الواحد والعشرين من صفته الأمريكية، إلى كونه هو العصر الإرهابي. والعولمة التي تسلحت بمفردات الانفتاح الاقتصادي، هي نفسها التي أعادت حصار العالم في المعتقل الأمني.

فإن تحرير السوق من ضوابطه الأخلاقية أجاز استباحة حقوق الإنسان، وبالتالي صار مفهوم الأمن قادراً على تبرير إعادة حكم العالم بمبدأ القوة وحدها دون حاجة إلى أية مشروعية. فإن تبرير اللجوء إلى صيغة (الحرب الاستباقية)، أجاز إمكانية فرض العقاب قبل وقوع الجريمة. هكذا تصبح أمم العالم جميعاً ساقطة تحت تصنيف الشبهة تجاه بعضها، لن تُحصر الإدانة المسبقة بزمرة الدول (الشريرة) وحدها، بحسب التصنيف الأمريكي. سيطرةُ المعايير الأمنية وحدها ما فوق المشروعيات الكونية كلها، تؤذن بتحويل المجتمع الدولي إلى مجتمع من الأعداء فحسب.

اختراع مصطلح الحرب الاستباقية لم يدخل تصنيفاً جديداً لنوعية الحروب المعروفة، بل كأنما أريد له أن ينتزع آخر علائم المعقولية التي تسربل واقعة الحرب التقليدية. هذه المعقولية التي تحرص على إبراز الأسباب الموجبة والتي لا بد أن تسبق انفجار الصراع الدموي. فتبدو الحرب في هذه الحالة كما لو كانت نتيجة محتومة ولا مفر منها. بل لقد رأى المنظرون دائماً أن الحرب ليست في حد ذاتها خياراً، بل هي ضرورة ذاتها، لأنها تسجل فشل كل الأسباب الأخرى، أو الوسائل المجدية لتجنبها. فليس ثمة حرب تقع قبل أسبابها. ومع ذلك فلقد انشغلت إدارة بوش طيلة السنوات السبع السابقة بافتعال الحروب ثم بفبركة أسبابها، أو بالبحث عن مبرراتها غير المطلوبة أصلاً من منفذيها، وإنما من قبل الرأي العام المحلي والدولي.

ذلك أن الاسم الحقيقي الذي يخفيه مصطلح الحرب الاستباقية، هو العدوان. إنه التعبير الفج الذي يحتقر كل تعليل منطقي أو مشروع يُلصق به، فلا يأبه إلا بتحقيق هدفه. فتأتي واقعة التحقيق هذه مشفوعة بهالة النصر، أي بالقضاء على العدو المفترض مادياً أو معنوياً، أو بهما معاً. ذلك أن هذا النصر هو المنوط به أن يشرعن كل ما سبقه من العنف. وقد تبنت فلسفة القانون الدولي مذهب السياسة الواقعية التي لا تشترط اقتران القوة بالحق. فتقبل بإضفاء الشرعية على ما ينتجه العنف من وقائع عامة. مبادئ الأمم المتحدة تعترف بالعدوان تحت صيغة الاحتلال، وتحاول التمويه على الاعتراف بضرورة حماية المدنيين. وهكذا تجد ثقافة الحرب، بكل أشكالها وتفريعاتها مكانها المحفوظ دائماً لها في مختلف أحوال العلاقات الدولية، على أساس أن (الحق) ليس هو وحده المنتج للمشروعية، ولكنه ينبغي له أن ينخرط في جدلية الصراع الدائم مع كل من العنف السياسي والآخر العسكري، بدعوى الحد من أضرارهما إزاء السلم العالمي، مفهوماً كمصطلح دبلوماسي، وليس كمعيار أخلاقي أنطولوجي. على هذا الأساس يمكن للحرب الاستباقية التظاهر بعدم التعارض مع هذا السلم العالمي، لأنها قد ترقى إلى مستوى ادعاء أصحابها أنها لا تقع إلا باسم حماية هذا السلم من أخطار متوقعة، وليست حاضرة فعلاً. ومن هنا سوف ينحدر مفهوم السلم كأقنوم كلي أعلى تلتقي عنده كل الحضارات على اختلافها، إلى مفهوم (الأمن) الذي يفرق بين الدول، إذ تحدد مصالح كل دولة الاعتبارات الأمنية الخاصة بها أولاً. فالحرب الاستباقية إنما تنتمي إلى مرجعية الأمن الذاتي لكل دولة، كما تقدره حكوماتها المتعاقبة بحسب ظروفها السياسية والاقتصادية.في حين يبقى أقنوم السلم شأناً إنسانياً جامعاً، ومحلقاً فوق أنانيات الدول ومصالحها الضيقة؛ فالتناقض كامن في الصميم من ثقافة المشروعية التي يتداولها أقطاب النظام العالمي اليوم، في أساليب تعاملهم مع القضايا الساخنة والمصيرية التي تجتاح خارطة العصر. وقد يُصنّف هذا التناقضُ عادة لدى المثقفين، ما بين حدّي المبادئ الجيوفلسفية المحركة للتاريخ الإنساني، والدواعي الجيوسياسية المتحكمة في خصوصيات الكيانات السلطوية للقوى العظمى.

أين تقع الحقبة الإرهابية الراهنة في سياق هذه الجدلية، الأنطولوجية إن صح التعبير قد يكون الجواب السريع وغير المتسرع، هو في هذه الغلبة الاستثنائية للأمن كحاكمية شبه مطلقة، لا تحدد العلاقات الخارجية بين الدول الفاقدة للثقة إزاء بعضها فقط، ولكنها تنتقل من ضواحيها الجيوسياسية مع ضواحيها وأندادها، إلى دواخلها البيْذاتية مع مجتمعاتها. هكذا تغدو العالمية كشعار كينوني جاذب لطلائع الأمم، وجامع لأفق المثاليات العليا المشتركة فيما بينها؛ وفي عصر الأرض قرية التواصل البشري والعولمة التلقائية، تغدو هذه (العالمية) وطنَ المخاوف والشكوك واجتراح أشكال العداوات الملتبسة، والكراهيات المتبادلة المنحدرة والمتساقطة من مستوى الأمميات إلى القومويات، ومنها إلى أدلجات التدين والتطويف والتمذهب والعنصرة الأشد تعصباً وانغلاقاً على الغريزة والقوقعة الصماء البكماء.

الحقبة الإرهابية تعيد صياغة أفكار الناس وعقائدهم وسلوكاتهم. تقلب حركة التاريخ من الخاص إلى العام، نحو الردّة المجنونة إلى آلية الخوف والتخويف بين كل أحد وأحد. إنها العولمة الأمنية التي تنقضّ على أمها التي ولدتها: العولمة الاقتصادية، فتجّرد رأسماليتها من آخر أوراق التوت الساترة لعوراتها المستديمة. فتجعل من قتل شعب وحضارته كل يوم مُسوَّغاً ببراميل النفط التي عليها أن تفتدي أنهار الدم.

يقول بوش إنه نجح في إعادة الإرهاب إلى مواطنه الأصلية بعد أن غزا أمريكا في عقر دارها، وكان يمكن أن يُفقدها سلامَها الداخلي إلى غير رجعة. وتلك هي الحجة التي أصبح العقل الغربي يتمسك بها لتبرير إمعان سلطات حكوماته في الافتئات على حقوق الإنسان، حتى المواطن الغربي نفسه وليس المهاجر أو الأجنبي وحده. هناك جموح سلطوي متعاظم نحو الشروع في سن القوانين (الأمنية) للحد من هوامش الحريات الفردية المكتسبة، بالرغم من ترسخها التاريخي، ومأسستها التشريعية والسلوكية في جميع مناحي الحياة العامة والخاصة؛ فالليبرالية الأمريكية المحافظة تهز بعنف متفاقم جذور الشخصية المفهومية لنموذج المواطنة الحداثية كما هو سائد في الغرب الأوروبي. وتكاد النخب المجتمعية تستسلم لتحولات جمهورية الديمقراطية التمثيلية، نحو أنظمة الحكم الرئاسي. كل يوم تقترح بعض هذه الرئاسيات المزيد من التشريعات التي تمنح الدولة سلطة (تفييش) أو توثيق الحياة الخاصة لشرائح متعاظمة من مواطنيها، بما يحقق للأجهزة الأمنية مظلَّة من الرقابة الشاملة على أدق خصوصيات التاريخ الشخصي وتصنيف أفكاره وأفعاله وعلاقاته السابقة والآتية تحت خانات من التقييمات الاستعلامية الدامغة.

هكذا تنجح الحقبة الإرهابية في فرض ما يشبه العيش في ظل قوانين الطوارئ المسوّغة عادة بظروف الحروب الكبرى. إنها العولمة الأمنية التي تفترض أن (الطوارئ) من الأخطار واقعة على الجميع، وفي كل زمان ومكان. كأنما يفقد العقل الغربي قدرته النقدية فينساق مع شعوبه في حروب طواحين الهواء. ذلك أن الليبرالية المحافظة الغازية أو المستوردة إنما تنمو هيمنتها في علاقة عكسية مع تقهقر مكتسبات الديمقراطية التمثيلية التي هي امتياز مفهوم الجمهورية كما حددته شرعة حقوق الإنسان، وحققت نجاحاته المتراكمة أجيال من الثورات والتحولات المجتمعية، الدموية منها، والأهلية والحضارية ضداً على الأولى وتراكباً مصيرياً معها. بقدر ما يعمل الإعلام والكثير من إنتاجات الثقافة اليومية على نشر تهاويل الإرهاب، بقدر ما يسهل على أقطاب الرأسمالية المتوحشة الانقلاب على الديمقراطية حتى في مواطنها الأصلية. هذا بالإضافة إلى تعزيز انقسام العالم بما يشبه العنصرية العرقية التي تساهم بدورها في عزلة الغرب عن بقية العالم، بادعاء الحفاظ على مكتسباته الحضارية،الى أن ينقلب زعماؤه السياسيون على أفضل ثمراتها، وهي حرمة الحريات، وأقدس ما فيها من تمتع الفرد بخصوصيات شخصيته الإنسانية.

ينقضي حكم بوش، لكن حقبة التهويل الإرهابي باقية. وأغرب علامات هذا البقاء أن تتلقف أوروبا أسوأ ما فيها من التركة البوشية المشؤومة. هنالك استعادةٌ لنظام الدولة الرأسية على حساب تخاذل المجتمع المدني في الدفاع عن مكتسباته، وهو واقع تحت طائلة العودة إلى الأدلجات القوموية المقنعة وراء الضرورات الأمنية. حينما ينتزع الأمن دور الحاكمية الأولى، ومن دون أسباب حقيقية، سوى الحاجة إلى تضخيم الخطر واختراع العدو، يفقد المجتمع حصانته الحضارية أمام تصاعد الدولة البوليسية. تنعدم الفوارق النوعية بين نموذجيْ: دولة الحداثة المتحكمة في السلطة، ودولة التخلف التابعة للسلطة المسيطرة. كأنما أمست أوروبا غير قادرة على حماية ديمقراطيتها بالعزلة وإعادة اجترار أمراض العنصرية. فالجمهوريون الأوائل كانوا يؤمنون أن عصر الحرية آت على الإنسانية جمعاء، وليس على فئة منها ضد أخرى. لا يمكن القبول بأسطورة انقسام العالم إلى قطب للديمقراطية وآخر للإرهاب. فمن يريد قسمة عالم اليوم هم أعداؤه الحقيقيون. لا يمكن للإنسانية أن تظل تعيش الحرب وقوانين الطوارئ معها.

إذا كان ثمة دلالة لحقبة الإرهاب البوشية فهي أنها قدمت المثال المصغر عما ستكون عليه أحوال البشرية إن نجح كبار لصوص أمريكا في تعميم شرعتهم على أمم الأرض كافة. فلقد انبعثت في هذه الحقبة كل ما يقع تصنيفه في خانة الوحوش النائمة من شرور العصبيات التي تحاول الحضارة أن تتناساها وتتجاوزها بالوهم تارة، وبالتقدم النسبي تارة أخرى. وهكذا ربما يدخل الوعي مجدداً حالة اليقظة الإنسانية ضداً على حيوانيتها المتجددة. ذلك أن السلام العالمي ينبغي أن تتجند في جيوشه كل أمم العالم ضداً على وحوش الاستبداد في كل مكان، وبدءاً من أوطان الأقوياء الطغاة أنفسهم. فهم الذين ينتجون كل يوم ملايين الضحايا موزعة على خارطة العالم، دون استثناء لأوطانهم بالذات، ومن بين هذه الضحايا قد يقوم الإرهابيون. فإن أوَّل وأَوْلَى الثائرين على الطغيان هم عبيده. إنهم المواطنون السباقون لإشادة دولة الحرية للإنسانية جمعاء.

تلك هي بداهة الوعي في كل عصر ظلامي. وهذه البداهة هي الممنوعة إطلاقاً في عصر الأمركة المتصهينة، حيثما تقف الحرب الاستباقية في المرصاد لكل شعب حر.
"القدس العربي"

التعليقات