31/10/2010 - 11:02

في الذكرى الـ57 لثورة يوليو؛ الناصرية داخل الخط الأخضر../ عوض عبد الفتاح

في الذكرى الـ57 لثورة يوليو؛ الناصرية داخل الخط الأخضر../ عوض عبد الفتاح
ربما انتبه القليل من المراقبين والمتابعين للشأن القومي العربي والفلسطيني لتأثير المدّ القومي العربي، والناصرية تحديدًا، على العرب الفلسطينيين داخل اسرائيل – داخل حدود الـ48.

هل كان للناصرية تأثيرٌ فعليٌ؟ وإذا كان هناك هذا التأثير، هل هو جزء من التأثير العام أو التفاعلات التي أحدثتها الناصرية، وثورة عبد الناصر، في ساحات الوطن العربي في الخمسينيات والستينيات، حتى عام 1967، أم أن التأثير كان أكثر عمقًا وأنه طال السياسة والفكر؟

ولماذا هذا السؤال؟ هل أصبح هذا الجزء من الشعب الفلسطيني، مليون ومائتا ألف، أكثر أهمية من بقية أجزاء الشعب الفلسطيني، أو من أي ساحة عربية أخرى؟ وماذا يميّز التأثير العام الذي أحدثته الناصرية في عموم الوطن العربي عن التأثير الذي طال فلسطينيي الـ48، الذين عُزلوا كليًا بعد النكبة عن محيطهم الفلسطيني والعربي.

ليست فلسطين ولا شعبها أعزّ من أي بلد عربي، فالوطن العربي بجميع أقطاره هو تاريخيًا كيانٌ واحدٌ، وفلسطين جزء من هذا الكيان الذي توحده اللغة والتاريخ والجغرافيا..

ويوحده الطموح الشعبي في الوحدة والنهضة الحضارية الشاملة. لم يكن لهذا السؤال أن يُسأل لولا ظهور تيار قومي عربي داخل هذا الجزء من الشعب الفلسطيني، هو التجمع الوطني الديمقراطي، والذي أصبح محطـّ اهتمام واسع على ساحة القوميين والوطنيين العرب.

طبعًا فلسطين تحتل موقعًا استراتيجيًا هامًا، ومكانة تاريخية كبيرة. ولهذا السبب كانت دائمًا محل أطماع قوى خارجية كثيرة وآخرها قوى الإستعمار الغربي الذي زرع الكيان الإسرائيلي على أرضها وعلى حساب شعبها، وعلى حساب وحدة الأمة العربية ومشروعها القومي الوحدوي والحضاري.

وتأخذ فلسطين خصوصيتها في التاريخ الراهن من هذا المعطى الجديد، أي تحوّلها إلى ضحيّة مباشرة للغزو الخارجي ولمشروع استيطاني-كولونيالي وبالتالي إلى رأس حربة في مقاومة هذا المشروع الكولونيالي. وإنطلاقًا من الرؤية التاريخية والإستراتيجية والقومية لموقع فلسطين فقد تحولت منذ أكثر من قرن إلى القضية المركزية للعرب، ودخلت في صلب برامج الحركة القومية العربية بكافة تلاوينها.. إلى أن تنصل النظام العربي الرسمي، في غالبيته، من المسؤولية تجاه هذه القضية بمبادرة نظام أنور السادات الذي نشأ داخل النظام الناصري وإنتقل إلى النقيض عبر سلخ مصر عن جبهة الصراع ضد المشروع الكولونيالي الإسرائيلي والإمبريالي الغربي أي بالتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 .

ماذا يُميّز تأثير الناصرية داخل منطقة 48

إن مراجعة مرحلة الخمسينيات من حياة فلسطينيي الـ48، والإطلاع على مجمل النشاط السياسي آنذاك، والنقاش الذي ساد داخل من تبقى من نخب شابة فلسطينية بعد النكبة، تمكـّننا من التعرف على مدى ونوع التأثير والتأثر بالفكر الناصري، أو بالتوجه القومي العربي الذي أطلقه عبد الناصر.

إن ظهور حركة الأرض-الناصرية عام 1958 في الجليل والمثلث، التي قادها شباب وطنيون نشطوا في البداية إلى جانب الشيوعيين العرب ،الإسرائيليين، في إطار ما عرف آنذاك بالجبهة الشعبية، ثم انسحاب هؤلاء الشباب منها ليشكلوا تيارًا قوميًا – عربيًا، كان نتيجة مباشرة لثورة 23 يوليو.

لقد التقى القوميون والشيوعيون في البداية على مناهضة الحكم العسكري وسياسة مصادرة الأراضي وغيرها من أشكال الظلم التي اعتمدتها الدولة العبرية، لكن الشباب القومي لم يستسغ هوية الحزب الشيوعي – حزب الوطنية الإسرائيلية، وأدى الصراع الذي احتدم بين نظام عبد الناصر القومي ونظام عبد الكريم قاسم المدعوم من الشيوعيين عام 1958 في العراق، إلى فرز واضح بين التوجهين. فالحزب الشيوعي الإسرائيلي أخذ موقفًا مساندًا لعبد الكريم قاسم مناهضًا التوجه القومي لعبد الناصر، مما أدى إلى خسارة الحزب الشيوعي الإسرائيلي نصف مقاعده في الكنيست الإسرائيلي عام 1959 من ستة مقاعد إلى ثلاثة.

ماذا نفهم من ذلك؟!

نفهم من ذلك أن الفلسطينيين العرب داخل الدولة الجديدة، كانوا في غالبيتهم متأثرين بالمشاعر والتطلعات القومية التي أثارتها الناصرية. والعديد منا يذكرون، كأطفال، كيف كان الناس في القرى يتحلقون حول جهاز الراديو بصورة جماعية لينصتوا لخطابات عبد الناصر التي كانت تلهب مشاعر الناس وخيال المناضلين. ويعرف الكبار من أهلنا أن عبد الناصر حارب كضابط في الجيش المصري في فلسطين، وحوصر في فلسطين، وكانت فلسطين من دوافع ثورته على النظام الملكي الفاسد في مصر والمتعاون مع الإنجليز.

هذا أيضًا يفند رواية الحزب الشيوعي الإسرائيلي وكأنه هو الذي يقف وراء بقاء الفلسطينيين في وطنهم أو الذي حافظ على الهوية الوطنية لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني دون ذكر لأية قوة وطنية أخرى. والحقيقة أن العديد من الوطنيين الفلسطينيين في تلك الفترة ولاحقًا، ابتعدوا عن الحزب لتبنيه الوطنية الإسرائيلية إلى جانب الهوية العربية، مع أنه لا يوجد شيء اسمه الوطنية الإسرائيلية – بسبب بنية اسرائيل اليهودية، وهي ازدواجية ميّزت مسيرة هذا الحزب حتى الآن.

لم تستطع حركة الأرض أن تصمد أمام القمع الإسرائيلي والسياسة الإستئصالية لكل تنظيم قومي – وطني. وقد ساعد على ذلك، عدم نضوج الحركة تنظيميًا وعدم إتاحة الفرصة أو الوقت لها لتمتد وتتجذر في التربة الشعبية. وقد تعرضت حركة الأرض أيضًا إلى تحريض منهجي من جانب الحزب الشيوعي الذي اتهمها بالتطرف و”القومجية”.

على أية حال، عاد الفكر الوطني ليظهر بين أوساط الجيل الثاني ابتداء من أواخر الستينيات ولكن هذه المرة عبر الوطنية الفلسطينية وليس عبر القومية العربية. كان ذلك نابعًا من نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية التي أخذت زمام المبادرة بعد هزيمة نظام عبد الناصر أمام العدوان الإسرائيلي عام 1967، وبعد أن تلقى المشروع القومي ضربة لم يتجاوزها حتى الآن.

لقد تجلـّت عودة الفكر الوطني في تنظيم وطني فلسطيني صغير نسبيًا يتبنى شعار تحرير فلسطين – ودولة علمانية ديمقراطية في كل فلسطين – هو حركة أبناء البلد.1969 .

مرت الحركة، أسوة بالفصائل الفلسطينية في الخارج، بعملية فلسطنة أو بظاهرة القطرية، واعتبرت نفسها جزءًا من حركة التحرر الوطني العربي ولكن دون التنظير والتثقيف المنهجي على الفكرة القومية العربية، وفكرة توحيد الأمة العربية كشرط لتحرير فلسطين. ما معناه أن الفكرة القومية ظلت حاضرة في قلوب أعضاء هذه الحركة كأمر مفروغ منه دون الغوص في حيثياتها ومتطلبات تطويرها أو مواكبة النقاشات والمساهمات النظرية والسياسية التي تتحدث عن القومية، كفكرة وكمشروع.

ليس هذا فحسب، بل هناك من ظل يتمسك بالنظرة الماركسية الكلاسيكية الجامدة وغير العلمية إلى الفكرة القومية، واعتبروها فكرة برجوازية، وليست ظاهرة ثقافية تاريخية وطريقـًا لتوحيد وتحديث المجتمع، عبر نقله من حالة التجزئة الجغرافية، والتفرقة العشائرية والطائفية إلى أمة حديثة مستقلة تستكمل بحريّة المواطن والديمقراطية.
لا بدّ أن نذكر أن وفاة جمال عبد الناصر في الـ28 من أيلول عام 1970 أطلقت موجة عارمة من الحزن ومظاهرات ضخمة في معظم القرى والمدن العربية داخل الخط الأخضر متحدّية أجواء الخوف والترهيب والقمع التي كانت سائدة آنذاك. كما أنه لم يخل بيت فلسطيني تقريبًا من صورة لهذا القائد القومي العربي.

في زمن الإنحسار، ينهض مشروع قومي حديث

لم يكن أحد يتخيّل أنه يمكن أن تعود الحياة للفكرة القومية على شكل حزب قومي منظم هو التجمع الوطني الديمقراطي، في مكان غير متوقع - داخل إسرائيل - في حين كانت هذه الفكرة تتعرض في مكان منشئها لتآكل حاد تقريبًا بسبب الإخفاقات وبسبب الهجوم الضاري الذي تعرضت له من قبل نظام مرتد عليها. ليس الشيء المميز هو نهوض تيار قومي منظم بين فلسطينيي عرب 48 في أواسط التسعينيات فحسب، بل الأهم تيار متجدد وحديث وملائم لخصوصية واقع هذا الجزء من شعب فلسطين. ولولا هذا التجديد لما نجح هذا التيار في النهوض والإستمرار وفي مواجهة المحاولات المتكررة لشطبه والملاحقات السياسية.

لقد حسمت غالبية القوميين العرب في العالم العربي موقفها المساند للتجمع الوطني الديمقراطي ولمواقف رئيس الحزب الدكتور عزمي بشارة، بعد تردد لم يطل. لقد ظهر الحزب في بداياته متناقضًا جوهريًا مع ما يطرحه؛ ذلك أنه دخل إلى الكنيست الإسرائيلي وكذلك تحت شعار دولة المواطنين وتحقيق المواطنة الكاملة، ومطلب الإعتراف بالعرب في الداخل كأقلية قومية. وكان ذلك يتم عبر إعادة بناء الحركة الوطنية داخل الخط الأخضر. وفي الوقت نفسه يطرح نفسه كتيار يستلهم من الناصرية والحركة القومية العربية فكرة توحيد العالم العربي وإنهاء التجزئة الإستعمارية. وقد اقتنعت الأوساط الواسعة من القوميين في الوطن العربي أن التناقض هو شكلي، وأن هذا هو الثمن الذي تعيّن على هذا التيار أن يدفعه في ظروف المواطنة الإسرائيلية المفروضة، وفي الحفاظ على وجوده ودوره تجاه الجماهير التي يعمل بينها. لقد كان لافتًا أنه لم يظهر من قبل ولا راهنًا تيار قومي على هذه الدرجة من الوضوح الفكري والمستوى الجيّد من التنظيم في أي من مواقع تواجد الشعب الفلسطيني، سواء في القطاع والضفة أو في أماكن الشتات. هناك فلسطينيون قوميون في هذه الأماكن ولكنهم غير منظمين ويرغبون ويسعون إلى تنظيم أنفسهم. بل بعضهم يطمح بالإرتباط بحزب التجمع ولكن الظروف السياسية المختلفة تحول الآن دون تحقيق ذلك. ولكن يجب أن يبقى ذلك هدف الجميع.

لقد جمع التجمع الوطني الديمقراطي بين الفكرة القومية والديمقراطية والمواطنة المتساوية، وكذلك هموم الناس اليومية. كانت هذه العناصر؛ الديمقراطية والمواطنة المتساوية وهموم الناس -فضلاً عن الإرتباط بالجذور الحضارية التاريخية للأمة العربية- هي التي خضعت للتطوير والتجديد في برنامج التجمع وقد اعتبرها العديد من المثقفين العرب، مساهمة جدية ونوعية ليس فقط في بلورة وتعزيز التيار القومي عند عرب الداخل، بل في الجهد الفكري والنظري الجاري على مستوى التيار القومي في العالم العربي.

كلمة أخيرة؛

تاريخيًا، وبالفطرة يتصرف الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، كجزء من الشعب الفلسطيني، وكجزء من الأمة العربية، ولكن الهوية ليست شيئـًا جامدًا ومُحصّنـًًا ضد التشوّه والنسيان. ففي مواجهة مخططات التجهيل وطمس الهوية الحضارية التي تعتمدها الدولة العبرية ضد عرب الداخل على طريق تصفية حقوقهم القومية ومحاصرة وجودهم، يصبح إعادة بعث الرابطة القومية والحضارية وتطعيمها بمنجزات العصر الحديثة المفيدة، عبر بلورة تيار سياسي عروبي وحداثي واجبًا وطنيـًا وأخلاقيـًا . ويصبح الحفاظ على هذا التيار وتقويته تحدّيًا حقيقيًّا لا بد أن ننجح فيه. لأنّ البديل هو الضياع والإنحلال ليس كحزب، بل كمجتمع وكشعب.

التعليقات